د محي الدين عميمور وزير جزائري سابق
قبل أن أغادر سفارة الجزائر بالقاهرة يوم 6 اكتوبر 1973 اتصلت برئاسة الجمهورية المصرية لأبلغهم بأن الرئيس الجزائري يحاول الاتصال بهم، وتم الاتصال فعلا على الساعة السادسة وعشرة دقائق من نفس اليوم، واطمئن خلاله بو مدين على سير الأمور على الجبهة، وسأل السادات (وطبقا للنص الذي نشره الأستاذ هيكل في كتابه “السلاح والسياسة) عن أي طلبات يريدها وركز السادات على الأسلحة والذخائر، وأضاف الرئيس الجزائريإنه مستعد إذا دعت الحاجة لأي تحرك خارجي.
ويورد الأستاذ هيكل في كتابه عن حرب أكتوبر، نقلا عن مصادر الرئاسة، تفريغا كاملا لمجمل الاتصالات الهاتفية بين الجزائر والقاهرة، وبعد الاتصال الأول يتم اتصال يوم 7 أكتوبر ليلا، وعشية وصول الأخ عبد الغني (وزير الداخلية) إلى القاهرة مبعوثا خاصا من الرئيس بو مدين، ويكون من بين عناصر الحديث :
* – بو مدين : كيف أحوالكم …ما هي أخبار المعركة؟
+ – السادات : طيبة جدا (..)
* – بو مدين : الأولاد وصلوا عندك؟ (يقصد الطلائع والقوات الجزائرية)
+ – السادات : أيوه.
* – بو مدين : الأشياء إللي تكلمنا عليها ….إحنا جاهزين.
+ – السادات : عظيم عظيم.
* – بو مدين : الأخ إللي وصل عندك (وزير الداخلية) قل له كل حاجة(..)
وعدت إلى الجزائر على متن الطائرة الرئاسية “مستير 20″ رفقة العقيد عبد الغني، ومررنا ببنغازي فوجدنا هناك قائد القاعدة الجزائري، الضابط البحري الرائد نور الدين بن قرطبي، يُعدّ لإرسالطائرات “الميغ”17″نحو مصر، بعد أن أرسل سرب طائرات “الميغ 21″ الجزائري فعلا نحو الجبهة، وكانت قاعدة بنغازي تستعد لاستقبال سرب “السوخوي”، تباعا حيث أن الطائرات الحربية لا تستطيع قطع المسافة بين الجزائر والقاهرة بدون التزود بالوقود في نصف المسافة ( ولا أعرف على وجه التحديد موعد تحرك اللواء الجزائري المدرع نحو الجبهة، والمهم أن الدعم الجزائري جاء في المرتبة الثانية بعد دعم العراق طبقا للفريق الشاذلي ص303)والتقينا في اليوم التالي أبو بكر يونس وزير الدفاع الليبي، الذي كان قلقا من عدم وجود غطاء جوي كافٍ على الأرض الليبية (لأن سربي “المستير” الليبيين خصصا للجبهة المصرية).
وأتصور أن الصورة كانت واضحة تماما أمام القيادة الجزائرية، وربما كان لمكالمة القاهرة دور في تصور حدود مهمة القوات المصرية، أي عبور القناة في ظل حائط الصواريخ، ثم التحرك في حدود المساحة السياسية الممكنة والطاقة العسكرية المتاحة، أي أن الهدف كان التحريك والخروج من مرحلة اللا سلم واللاحرب بعبور أعظم مانع مائي في التاريخ، وهو ما أكده الرئيس المصري بعد ذلك.
ويتم اتصال هاتفي في اليوم التالي مع السادات، ويعلق هيكل على كثرة الاتصالات الهاتفية من الجزائر أن الرئيس بو مدين كان يريد أن يطمئن، وهو لا يستطيع أن ينتظر، لكن المكالمات الهاتفية توضح أمرا هاما وهو أن الرئيس بو مدين كان مطلعا على كل ما يجري، بمتابعة دقيقة لكل المراصد العالمية، الإخبارية والدبلوماسية المحلية والدولية (..)واستعرضُ تقرير المكالمات هنا، بعد حذف ما لا أرى أهميته بالنسبة للقارئ، واضعا تعليقي بين قوسين.
* – بو مدين : أنتم رفعتم رأسنا، كيف إخواننا في سوريا؟
+ – السادات : مستني تقرير يجيني، هم (الإسرائيليين) كانوا مركّزين عليهم جدا.(..)
* – بو مدين : أنتم أخذتم الضفة الشرقية كاملة ؟
+ – السادات : (لم يجب بشكل مباشر) الآن خلاص، سأعطي أمر ليبدأ تطهير القناة (المغلقة منذ 1967)
* – بو مدين : نعطي هذا الخبر للإذاعة الخارجية ؟
+ – السادات : أعطوه.
*****
في هذه المرحلة تم الاتفاق على ضبط اتصال متواصل بين القيادتين الجزائرية والمصرية، وكلف السادات الدكتور أشرف مروان مدير مكتبه للمعلومات بأن يكون طرف الاتصال المصري، وحدث خلط في الجزائر فاعتبر تعبير “المعلومات،” الذي يعني في واقع الأمر “الاستخبارات”، أنه يعني الإعلام، وهكذا كلفتُ أنا بأن أكون طرف الاتصال الجزائري، وبهذه الصفة كنت أستقبل الدكتور مروان.
والتزمتُ معه، بأمر الرئيس، على أن نتكفل بإرسال أفلام عن القتال في الجبهة للأوروفيزيون، بحكم صلتنا الوثيقة معهم، وعندما راقبتُ الأفلام الأولى قبل إرسالها أحسست بأنها تفتقد حرارة المعركة، وأنها “سينيمائية” بشكل واضح، ولم أخف ذلك على مروان، الذي اعترف لي بأن الصور التقطت بعد العبور وليس خلاله وذلك لأسباب أمنية، واتفقنا على إعداد لقطات أكثر مصداقية أرسلنا بها إلى الغرب، وكانت، على ما أتصور، أول ما جرى بثه عن معارك الجانب العربي، وكل ذلك أكده لي شخصيا فيما بعد الفريق الشاذلي عند استقراره بالجزائر.
ويعاود الرئيس بو مدين الاتصال الهاتفي يوم 9 أكتوبر على الساعة 10.25 مساء.(..)
* – بومدين : واش جو المعركة اليوم ؟
+ – السادات : لغاية دلوقت دخل المعركة للعدو أربعة لواءات ، يعني حوالي 500 دبابة.
* – بو مدين : اعتقلتم قائد لواء؟ (المقصود الجنرال الإسرائيلي عسّاف)
+ – السادات : نعم نعم، وحا أبعت لك أفلام التليفيزيون.
* – بو مدين : نحن نرسل بها للأوربيين، أنا متذكر الصورة التي قدمها الفرنسيون عن الجنود المصريين في 1967 (وكانت لقطات إسرائيلية المصدر خبيثة الهدف تصور الجنود والضباط المصريين وهم يسيرون مرفوعي الأيدي وشبه عرايا وحفايا، وهو ما لم ينسه الرئيس الجزائري الحريص على هيبة الجندي العربي، وكان يريد الرد على ذلك بتقديم صور الأسرى الإسرائيليين، وعبر التلفزة الفرنسية نفسها) ضروري تبعثوا لنا الأفلام.
+ – السادات : جايّا لك على طول.
* – بو مدين : هم ضربوا المطارات المصرية ؟
+ – السادات : من غير تأثير.
* – بو مدين : أنتم أخذتم أربعة طيارين ؟ (يلاحظ متابعة بو مدين الدقيقة)
+ – السادات : أخذنا أربعة اليوم صباحا.
* – بو مدين : كيف إخواننا في سوريا ؟ (يلاحظ اهتمام بو مدين بما يجري على سوريا التي كان الضغط عليها شديدا) هم ما استطاعوش يخترقوا الحدود السورية ؟
+ – السادات: لا ما استطاعوش، هناك واقفين(..)
* – بو مدين : فيما يخص حاجتكم من البترول، المطلوب خام أو مكرر ؟
+ – السادات : نحن نفضل خام (لست أدري لماذا اختار البترول الخام)
* – بو مدين : الدفعة الأولى مليون طن، وأخذنا نفس القرار بالنسبة لحافظ (الأسد)
+ – السادات : وذخيرة كمان يا أخ بو مدين (..)
* – بو مدين : أنا أتابع الأنباء، هم يعترفون أنهم على بعد 7كم من القناة، المهم العدو يخسر.
كان العبور العسكري رائعا من كل الجوانب، حيث أنهى إلى الأبد خرافة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر، وكان موقف سوريا ممتازا، وهو ما استقطب ثلثيْ الطيران الإسرائيلي الذي أخذ كان يركز على سوريا (طبقا لما أورده هيكل يوم الخميس 24 ديسمبر 2009)
ويواصل بو مدين اتصاله الهاتفي بالسادات، وتتم مكالمة يوم 10 أكتوبر.(..)
*- بو مدين : يقولون أنهم قاموا بهجوم مضاد؟
+ – السادات : بيحاربوا في الهوا، وهو غيروا القيادات.
* – بو مدين : أين موشيه دايان !!، لم نعد نسمع به؟
+ – السادات : صحيح ونحن لاحظنا ذلك(…)
* – بو مدين : وكيف إخواننا في سوريا (سوريا دائما)
+ – السادات : والله الحال موش طيب، والعراقيين اتأخروا شوية بدون داعي.
* – بو مدين : وحسين (الملك حسين)
+ – السادات : ماشي كويس.
* – بو مدين : بس نكون مطمئنين على أحوال الجبهة الغربية (المصرية).
وهكذا اندلعت حرب أكتوبر في جو متعاطف، عربيا ودوليا، لم يسبق له مثيل، وفيما يتعلق بالجزائر فقد كان بو مدين قد تمكن من خلق تضامن واسع مع مصر وسوريا خلال مؤتمر عدم الانحياز الذي احتضنته الجزائر في سبتمبر، وكان قبل ذلك قد نجح في حث القارة الإفريقية كلها على قطع علاقاتها بإسرائيل في قمة أديس أبابا، منتصف العام السابق، وهو ما يعني أن الجزائر قامت بدورها في حلبة الصراع ضد إسرائيل، سياسيا وديبلوماسيا منذ البداية، وتكامل مع هذا الدعم العسكري والتضامن النفطي بعد ذلك.
وألاحظ هنا أنني أعتمد على مصادر موجودة في المكتبات العربية، أصدرتها شخصيات مصرية متميزة مثل السادة محمد حسنين هيكل ومحمد إبراهيم كامل وإسماعيل فهمي والفريق سعد الدين الشاذلي والفريق محمد عبد الغني الغمسي وغيرهم، أي الذين صنعوا مع رجالهم نصر أكتوبر المجيد الذي سرقته السياسة، وكان تركيزي هذا تفاديا لاتهامي بالتحيز ضد القيادة السياسية المصرية، والتي أحمّلها، كمواطن عربي، مسؤولية الاستهانة بدماء شهداء أكتوبر وما قبل أكتوبر، وبالتالي انهيار الموقف العربي برمته.
وقد سجل هيكل انزعاجه من رسالة السادات إلى هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأمريكي عن طريق حافظ إسماعيل، وواصل تعليقه قائلا : بعض العبارات كانت ولا زالت مثيرة للدهشة وللاستغراب (..) كعبارة : “إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة”، حيث كانت أول مرة، وربما في التاريخ كله، يقول فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة (..) ومعناه بالنسبة لإسرائيل أنها تستطيع أن تعيد ترتيب موقفها بأعصاب هادئة (..) وأن تركز كما تشاء على سوريا، ثم تعود بعد ذلك إلى الجنوب لتصفية الحساب (ص 360) وهو ما حدث فعلا، فمن سوء الحظ، يقول الكاتب، أن كيسنجر فهم الرسالة بما تعنيه.
وهذه هي النقطة التي يعتمد عليها من يتهمون السادات بالخيانة العظمى، لأنه كشف نوايا جيشه للعدو.
ولقد كان الهجوم المصري السوري في بداياته منسقا بدرجة عالية من الكفاءة، ونجحت القوات في تحقيق مفاجأة استراتيجية وتكتيكية لم تكن في تقديرات إسرائيل، ويُروَى عن “موشي دايان” قوله أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي مساء 6 أكتوبر : “إنني أشعر بهمّ ثقيل على قلبي (..) المصريون حققوا مكاسب قوية، ونحن عانينا من ضربة ثقيلة، لقد عبروا قناة السويس وأنشأوا عليها جسورا للعبور تحركت عليها المدرعات والمشاة والأسلحة المضادة للدبابات”.
ويقول “دافيد إيلي عازر” صباح اليوم التالي بأن : “هناك قتالا عنيفا على كل الجبهات، والمدرعات والمشاة المصرية والسورية تواصل تقدمها طوال الليل والفجر(..و) حشود القوات المصرية على الجبهة أصبحت كثيفة وتم عبورها بسرعة غير متوقعة”.
وفي نفس اليوم كان كيسنجر يتحرك بسرعة ليُمسك بزمام الأمور في الأمم المتحدة، بحيث “يُمنع″ بحث الأزمة أمام الجمعية العامة حيث تتجلى قوة العالم الثالث (..) وكان اعتقاده الراسخ أن إسرائيل سوف تصدّ الهجوم وتحوّله إلى هزيمة ساحقة، وزاد اقتناعه بموقفه إثر تلقيه رسالة السادات، وقال حرفيا لمساعديه: “رأيي أنه (السادات) وقد عبَر قناة السويس لن يفعل أكثر من الاكتفاء بالجلوس هناك، وأنا لا أعتقد أنه سيعمق مدى عملياته في سيناء” (نفس المصدر).
وواجهت إسرائيل في اليوم التالي موقفا شديد الخطورة على الجبهة السورية، واندفع الجيش السوري فجر يوم 8 أكتوبر في هجوم مدرّع أدى تقريبا إلى انهيار الخطوط الإسرائيلية في الجولان، وجن جنون إسرائيل فحشدت كل طيرانها لوقف التقدم السوري، معتمدة على ثبات التحرك المصري طبقا لرسالة السادات إلى كيسنجر، والذي أعطى مجال المناورة للطيران الإسرائيلي، وهكذا بلغت الخسائر السورية في الدبابات نتيجة لذلك التركيز الجوي حوالي 400 دبابة، ومع ذلك تعترف لجنة “أغرانات” الإسرائيلية فيما بعد أن : “ذلك اليوم كان يوما اختلت فيه عوامل السيطرة والقيادة، وتبدّت فيه القراءة المغلوطة لمجرى القتال”.– “قد” يتبع
http://www.raialyoum.com/?p=320335