دكتور محيي الدين عميمور
ذكرى أول حرب نظامية عربية ناجحة ضد العدو الصهيوني تقترب، ولعل واجبنا، نحن الذين عشنا تلك الأيام المجيدة، هو أن نضع ما نعرفه تحت تصرف الجيل الصاعد ليدرك أنه ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط، وبأن جيل أكتوبر جيل عظيم يمكن أن يقارن بجيل نوفمبر، ولأن الحجم كبير والاستطرادات التي تفرض نفسها قد تكون أكبر، فقد يطول الحديث إلى أكثر من لقاء، وسأركز، باختصار متزن، على ما عشته شخصيا في تلك المرحلة من السبعينيات.
ففي مطلع 1972 كان على رئيس أركان الجيش المصري والأمين العام المساعد العسكري للجامعة العربية، الفريق سعد الدين الشاذلي،أن يقوم بزيارة دول الدعم العسكري للجبهة طبقا لتوصيات مجلس الدفاع العربي المشترك، لكن الرئيس أنور السادات قال له حرفيا: أوافق على زيارة ليبيا والسعودية لأنها هي التي ستقدم العون، ألما الجزائر والمغرب والعراق فسوف يستفيدون دعائيا من زيارتك (..) ولما ذكر الشاذلي بمهمته كأمين عام قال له الرئيس المصري : أنت رجل عسكري ولا تفهم في السياسة” ومع إصرار القائد العسكري المصري الدي كان يطلق عليه لقب “روميل ” العرب استجاب السادات وأذن له بالسفر )حرب أكتوبر ص268)
ويكتب الشاذلي عن الزيارة في مذكراته قائلا: قابلت الرئيس بو مدين صباح 7 فبراير، وأخبرته بطبيعة مهمتي وأفكاري بخصوص تعبئة الموارد العربية للمعركة، تطبيقا لشعار “قومية المعركة” (ولم تعلن الجزائر في البداية خبر الزيارة وتركت الأمر للجانبي المصري ليتصرف حسب تصوره).
وأنصت الرئيس إلى ما كنت أقوله، وعبّر عن تحمسه للاشتراك بكل جندي وبكل قطعة سلاح تستطيع الجزائر تقديمها، ولكنه أعرب عن شكوكه بأن تكون هناك نوايا جدية لاستئناف القتال (..) وقلت للرئيس : أنا أتفهم شكوكك (..) ولكن عندما تقع الحرب فلن يكون هناك وقت كافٍ لإرسال القوات الجزائرية إلى الجبهة والاستفادة منها في المعركة، وبالإضافة إلى ذلك لا يمكننا إدخال القوات الصديقة في الخطة الهجومية ما لم تكن هذه القوات موجودة فعلا (..)
وأبدى الرئيس بو مدين اقتناعه برأيي، ولكنه لفت نظري إلى المشاكل المعنوية والإدارية والاجتماعية التي تترتب على إرسال قوات جزائرية إلى مصر تبقى سنة أو أكثر في انتظار حرب قد تقوم وقد لا تقوم، وعلق قائلا : “نحن الجزائريين دماؤنا ساخنة جدا، إذا كانت هناك حرب سنقاتل (..) فإذا طالت المدة بدون حرب فقد يثيرون المشاكل لكم ولنا، وهذه المشاكل يمكن تلافيها إذا نحن أرسلنا الدعم العسكري بعد أن يتحدد موعد المعركة (..)” وكحلٍّ وسط اتفقنا على أن ترسل الإمدادات الجزائرية إلى الجبهة بناء على طلبنا، وبعد التبليغبأن الحرب سوف تشتعل في أي وقت، وبحد أقصاه 90 يوما من تاريخ طلب هذه القوات.
ثم يقول الفريق الشاذلي: “أثناء لقائي مع الرئيس بو مدين تحدث لي بمرارة عن القيادة السياسية المصرية بدون أن يذكر اسم السادات، وكان يقول : أنتم في مصر تهاجمونني باستمرار وتقولون أنني أريد أن أنصب نفسي زعيما على العرب بعد موت عبد الناصر(..) إنني أريد أن تفهموا أنني لا أفكر في ذلك مطلقا، إنني أريد أن أضع يدي في أيديكم بنية صادقة لطرد الإسرائيليين من أراضينا المحتلة”.
وعندما قدم الشاذلي عرضه عن المهمة إلى الرئيس السادات قال له الرئيس: “الشروط التي يضعها بو مدين غير مقبولة، كيف نقول له أن الحرب ستقوم بعد ثلاثة أشهر؟”.
ويكشف هيكل بعد ذلك ما سمعه من الرئيس السادات بأنه : “من بين إخواننا العرب، فإن الملك فيصل هو الوحيد الذي يتم إخطاره مقدما، بدون تحديد اليوم والساعة، أما معمر القذافي فلا إخطار مسبق، ويسمع من الإذاعات (السلاح والسياسة ص 306) ويُشير هيكل في موقع آخر من نفس الكتاب إلى لقاءات بين الرئيس السادات والسيد كمال أدهم، مدير المخابرات السعودية، موضحا علاقات السيد أدهم بالمخابرات المركزية الأمريكية، وتاركا لنا الاستنتاج عن مدى معرفة المخابرات الأمريكية بتفاصيل الحرب القادمة).
ويقول السادات لبومدين في لقاء جمعهما في 1973 بأنه قرر أن يدخل الحرب لأنه فقد الثقة بأي حل سلمي، ويجيبه بومدين، وهو يتذكر حواره مع الفريق : “لست أريد منك تواريخا محددة، كل ما أريد معرفته هو ما الذي تريد منا تقديمه بالضبط، ومتى تريد ذلك لتكون له فعاليته المطلوبة؟”.
ولم يكن بو مدين آنذاك على علم بما سمعه أو سوف يسمعه كل من الفريق الشاذلي والأستاذ هيكل من الرئيس السادات، ولكنه كان قد تفهم عقلية الرئيس المصري، ربما من خلال متابعته الدقيقة لما يحدث في مصر عبر ما كان يُقدم له من تقارير، ومن خلال الحوار مع بعض الإعلاميين المصريين وكذلك مع الفريق الشاذلي، وكان اهتمامه الأكبر بالشعب المصري نفسه.
لكن كان هناك شيئا آخر أتصور أن الرئيس بو مدين كان علم به آنذاك، ولم أسمع به شخصياإلا خلال زيارة برلمانية قمت بها إلى مدينة ليل الفرنسية بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة، فقد قال لي السيد “بيير موروا”، أول رئيس وزراء في حكومة الرئيس “فرانسوا متران”، وبحصور “محمد عنتر” داوود القنصل الجزائري العام وأعضاء الوفد الجزائري، أنه ذهب إلى إسرائيل في يوليو 1973بصفته مبعوثا لأمين الحزب الاشتراكي الفرنسي فرانسوا متران، ليطرح على رئيسة الوزراء الإسرائيلية، وبطلب من الرئيس أنور السادات، إمكانية تحقيق حل سلمي بين مصر وإسرائيل، ولكن “غولدامائير” رفضت العرض، وأتذكر أن بيير موروا قال عن مائير تعبيرا لا ينسى، وهو أنها كانت مثالا للجمال القبيح أو للقبح الجميل (La belle laideur ) وهذا كله يعني سواء أن السادات كان يحاول تفادي الحرب أو يريد تأكيد سوء نية الإسرائيليين.
ويستقبل الرئيس بو مدين مرة أخرى الفريق سعد الدين الشاذلي الذي وصل إلى الجزائر في زيارة سرية يوم 16 سبتمبر 1973، وكانت مهمته إخطار الرئيس بأن العد التنازلي قد بدأ، وباتفاق مشترك بين القيادة المصرية والسورية (وبتعبير أكثر وضوحا للقارئ : الحرب ستندلع في حدود ثلاثة أشهر، وقد تكون غدا وقد تكون بعد 89 يوما) ولم تذع أخبار الزيارة إطلاقا (كتابي 4 أيام ص 114).
ونعرف فيما بعد أن الرئيس السادات أبلغ هيكل بقرار الحرب يوم 5 سبتمبر 1973.
لكن كان واضحا أن السادات يريد القيام بعمل فردي يتحكم فيه وحده، وهو ما ثبت عبر حوار أورده الفريق الشاذلي في مذكراته، عندما ردّ على سؤال للفريق عن مجالات التنسيق العربي، فقال: “ستكون المعركة مصرية أساسا، وسوف يقف العرب موقف المتفرج في البداية، ولكنهم سوف يجدون أنفسهم في موقف صعب أمام شعوبهم فيضطرون في النهاية إلى أن يُغيّروا من موقفهم”.
هكذا كانت نظرة الرئيس المصري لحلفائه الاستراتيجيين، وباستنتاج بسيط، كان واضحا أن السادات يريد القيام بعملية عسكرية تتوجه قائدا مظفرا لا للشعب المصري فحسب، وإنما للشعوب العربية كلها، حيث سيكون هو صاحب قرار الحرب وصاحب قرار السلم.
وسيقول السادات منتشيا لهيكل قبل أن ينتهي الأسبوع الأول من الحرب : “حكمتك يا رب، كلّ الناس في العالم العربي اليوم بياخدوا مني أوامر، أقول أي شيء يقولوا حاضر يا فندم (..) شوف يا محمد .، أنا حاطلب من العرب بليون (مليار) دولار، وعايز أحجز منها مائة مليون لمطالب ما بعد المعركة”.
ويحدث أنني تابعت بداية حرب أكتوبر في اللوج الأول، طبقا للتعبير المسرحي، فقد كنت في أواخر سبتمبر أقوم برحلة بدأتها بلبنان، والذي كان الواجهة الإعلامية المتميزة للإعلام العربي، ثم ثنيت بسوريا، وختمتها بالقاهرة التي كنت فيها في بداية أكتوبر 1973.
وفوجئت وأنا أخرج من فندقي صباح يوم السادس من أكتوبر، الموافق للعاشر من رمضان، بالمناضل التونسي الكبير “إبراهيم طوبال” أمامي وهو يسألني بصوت اختلطت فيه الوحشة بالدهشة : “دكتور .. ماذا تفعل هنا ؟”، وأجبته بهدوء صائم يبدأ يومه: “إنني في رحلة سياحية”، ويسألني مستنكرا: “جزائري، في رحلة سياحية، في شهر رمضان؟ أنت تستغفلني” (وقال الكلمة بتعبير تونسي بذيء غير صالح للنشر) وزاد فضوله عندما عرف أنني كنت في سوريا، ولم يكن لديّ ما أطفئ به غليله، فرحت أسأله عن الأمور وكيف يراها فأجابني، وهو يتفحصني مليّاً ليعرف ما إذا كنت جادّاً في سؤالي أم هازلا : “الحرب على وشك أن تندلع″.
وقمت بعدة اتصالات إعلامية في المدينة، من بينها اتصال مع “علي حمدي الجمال” رئيس تحرير الأهرام، ثم عدت إلى الفندق، ويهتف لي إبراهيم بعد الثانية ظهرا بدقائق ليقول لي ببهجة واضحة: “الحرب اندلعت ضد إسرائيل”.
وهاتفت سفيرنا في القاهرة المناضل “إبراهيم مزهودي والملحق العسكري العقيد “رشيد بن إدريس″، الذي كنت مدعوّا إلى مائدته، ثم ذهبت إلى السفارة بعد الإطار حيث كان السفير في انتظاري، فاستأذنته في مكالمة الرئيس، وطلبت بداية الدكتور أمير، الأمين العام للرئاسة، وتبادلت معه كلمات استعملت فيها “كودا” معينا، رددت فيه اسم مصطفى كاتب، مدير المسرح الجزائري آنذاك، ولم يستعمل منا اسم الآخر في المحادثة التي كنت أناديه فيها بالحكيم، وبعد لحظات قال لي :”تحدث مع أخيك”، وكان المتحدث هو الرئيس الراحل الذي قال لي ضاحكا : ” أنت اليوم تقوم بدور المراسل الحربي، ما الأخبار عندكم ؟”.
ونقلت له الصورة كماأراها، وقلت له أنني أبلغت الحكيم ببعض المعطيات (وكنت تعمدتُ ذلك لأحشر اسما معيّنا) وأحسست به يغلق السماعة بيده ليسأل الدكتور أمير، الذي اضطر إلى استرجاع بعض ما كنت قلته له واختلط فيه كل شيء بكل شيء، وعرفت أن الرئيس سمع اسم مصطفى كاتب وبالتالي تلقى الرسالة واضحة وذلك عندما سألني عن الساعة في القاهرة، وقلت له إننا نسمع صوت أذان العشاء، فعاجلني بالسؤال، الذي كنت أنتظره بفضل الكود، عن مستوى التعتيم الضوئي في العاصمة المصرية، وأجبته بأن الإضاءة شاملة وممتازة والشعب يرقص فرحا في الشوارع المزدحمة والنصر للعرب…الخ الخ (أي أنه لم يكن هناك حالة تعتيم شاملBlack out)
وكانت تلك هي المكالمة الهاتفية الأولي بين القاهرة والجزائر وبذلت فيها جهدا كبيرا لأزن كلماتي لأنني أدرك أن هناك بالضرورة مراكز استماع، وهو ما تأكد لي فيما بعد عندما أذاع الأستاذ هيكيل النصوص الكاملة للمحادثات الهاتفية بين الرئاستين في كتابه عن حرب أكتوبر “السلاح والسياسة”.
وكان الرئيس قد طلب مني أن أبلغ الرئاسة المصرية بأنه يحاول الاتصال بهم، وبأن وزير الداخلية سيصلهم في اليوم التالي ليتلقى أي طلبات إضافية، واتصلت على الفور برئاسة الجمهورية لأبلغهم بأن الرئيس الجزائري يحاول الاتصال بهم، وتم الاتصال فعلا على الساعة السادسة وعشرة دقائق من يوم 6 أكتوبر، واطمئن خلاله الرئيس على سير الأمور على الجبهة، وسأل السادات، عن أي طلبات يريدها وركز السادات على الأسلحة والذخائر، وأضاف بو مدين بقوله أنه مستعد إذا دعت الحاجة لأي تحرك خارجي.
وما لم نكن نعرفه آنذاك هو تفاصيل رسالة بعث بها الرئيس السادات إلى هنري كيسنجر عن طريق حافظ إسماعيل، وقد يبدو هذا وكأنه جانب من صميم العمل الديبلوماسي المصري الذي يرتبط بسيادة الدولة وقراراتها، وهو أمر صحيح، لكن وضعية الحروب تفرض نوعا من الشفافية على علاقات القادة، خصوصا منهم المندمجين تماما في الحركة السياسية والعسكرية، ثم أن محتوى الرسالة كان غريبا ويثير التساؤل.
كان ذلك صباح يوم 7 أكتوبر، أي اليوم الثاني للحرب، وهكذا أرسل إسماعيل لمستشار الأمن القومي الأمريكي برقية كان مما جاء فيها أن مصر: “لا تعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع المواجهة”، ولا يعرف أحد هل كانت هناك برقيات سابقة ومتى أرسلت وبأي مضمون.
ويعلق هيكل على البرقية قائلا : من ناحية الشكل، فإن الرسالة أرسلت لكيسنجر عبر القناة السرية (المخابرات) ومعنى ذلك أن “السرّية” كانت موجهة بالدرجة الأولى إلى وزارة الخارجية المصرية وإلى وفدنا في نيويورك، والذي لم تكن لديه وسيلة متابعة الاتصالات الجارية في القناة الخلفية.
ولم يكن الأمر مقصورا، يؤكد هيكل، على بقاء وزير الخارجية (المصري) نفسه في الظلام وإنما امتدت عملية التعتيم إلى كل الوفد، وفي حين أن كيسنجر كان يتعامل مباشرة مع الوفد الإسرائيلي في نيويورك، ومع السفارة الإسرائيلية في واشنطن فإن الوفد المصري كان معطلا (وسنلاحظ التصرف نفسه من السادات عند مباحثاته مع الإسرائيليين).
يتبع
http://www.raialyoum.com/?p=319287