دكتور محيي الدين عميمور
أكد تقصيدة أحمد فؤاد نجم الرائعة، كما سبق أن قلت، أن الشعب المصري العظيم، ورغم كل ما كان يبدو على سطح الحياة آنذاك من مسايرة للنظام وهتاف لقائده، لم يكن ساذجا، وكان نجمُ تعبيرا دائما عن فكره وعن إرادته.
ومن الطبيعي أن يختلف معي بعض المعلقين حول بعض الآراء، لكن ما أراه متجاوزا لكل منطق بعض التعليقات التي تتجاهل الفرق ربين الرأي والمعلومة وتعتمد مبدأ: معزى (أو معزة) ولو طارت، وخصوصا تلك التي تستعمل توقيعات رمزية تفقد التعليق المتميز أهميته وفائدته ، أو التي تلجأ إلى تخيل ما كان يفكر فيه آنذاك صاحب القرار، في حين أنني أبذل كل جهد لأضع المعلومات الموثقة تحت تصرف من يريد.
وأعود إلى السياق.
بدأ ضعفُ الرئيس “ريتشارد نيكسون” يتزايد، ويروي “محمود رياض” عن “عبد العزيز بو تفليقة” ملاحظته خلال الاجتماع مع نيكسون بأن : “الرئيس كان يطلب من الوزراء العرب إقناع كيسنجر بوجهة نظرهم”، ويضيف رياض بأن وزير خارجية الجزائر يومها قالله بأن : “مقابلات واشنطون أقنعتني بأن كيسنجر أصبح اليد العليا في تشكيل السياسة الأمريكية الخاصة بقضية الشرق الوسط، وهو الأمر الذي سيكون في مصلحة إسرائيل وضد المصلحة العربية على طول الخط”.
وأتصور هنا أن السبب الرئيسي في التخلص من نيكسون لم يكن أساسا عملية التجسس المشهورة التي عرفت باسم “ووترغيت”، بل لعله يكون بعض مواقف نيكسون الحازمة تجاه إسرائيل، التي كان كيسنجر واجهتها الأمامية وقوتها الضاربة على الساحة الأمريكية والدولية، ولعل مما يمكن أن يشير إلى احتمال تكتل اللوبي الصهيوني ضد الرئيس وإسقاطه هو ما تردد مؤخرا من أن اغتيال الرئيس الأسبق “جون ف. كينيدي”، جرى بعد أن بدأ في طرح تساؤلات ملحّة لمعرفة تفاصيل البرامج النووية الإسرائيلية ومتابعتها، وهكذا قتل خلال زيارته لدالاس بأسلوب لعله يُذكر باغتيال الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، ولم تستطع الحكومة الأمريكية أن تقنع العالم بأن مرتكب الجرم هو “هارفيأوزوالد”، بعد أن أثبت خبراء كثيرون أن الرئيس الأمريكي قتل بثلاث رصاصات ما كان من الممكن لقناص واحد أن يُطلقها بتلك السرعة الفائقة.
ويواصل الوزير الأمريكي ابتزازه للسادات، الذي أصبح الآن متلهفا على عقد مؤتمر “جنيف” طبقا لسيناريو كيسنجر، الذي أبلغ الرئيس المصري بأنه لا يضمن حضور إسرائيل في جنيف إذا لم يحصل الكيان الصهيوني على قائمة أسْراه عند السوريين.
وتصرّ سوريا على أنها لن تحضر المؤتمر الدولي إلا إذا تحقق قبل ذلك فك الاشتباك، (وهو التعبير المؤدبلكلمة الانسحاب) وبأنها ليست مستعدة لتسليم إسرائيل قائمة الأسرى إلا في إطار اتفاق واضح لفك الاشتباك يسبق مؤتمر جنيف.
ويثبت أن سوريا على حق، فقد فوجئ المشاركون في المؤتمر بأن الوفد الإسرائيلي في جنيف لم يكن يضمّ عسكريين إسرائيليين، وهو ما يتناقض مع ما كان يُسّوقه كيسنجر لإفراغ اجتماعات الكيلومتر 101 من مضمونها الحقيقي، ويقول “كورت فالدهايم” فيما بعد لوزير الخارجية المصري بأن : “السبب في إيقاف محادثات فك الاشتباك هو كيسنجر شخصيا، إذ كان يرغب أن يتم ذلك في جنيف لكي يظهر للعالم أنه هو الذي أحرز التقدم”.
ويواصل إسماعيل فهمي من سويسرا إخطار السادات بالكثير من الخلفيات الإسرائيلية، ويبلغه ما سمعه من كيسنجر بأن الإسرائيليين طلبوا منه ألا : “يتعجل فك الارتباط وألا يضغط عليهم، إذ أن معلوماتهم تفيد بأن السادات سوف لا يبدأ بتطهير القناة، وحتى إذا قامبالتطهير فهو لن يفتح القناة للملاحة الدولية، حتى يستمر في الحصول على الدعم المالي العربي، الذي كان أساسا بسبب غلق القناة”، ويقول هيكل أن مجموع المساعدات التي تلقتها مصر من بلدان النفط العربية بين 1973 و 1977 هو في حدود 21 مليار دولار، ويضيف أن فهمي لا يعرف، وهو في الخارج، : “كل ما دار في لقاءات القاهرة بين رئيسه وكيسنجر، وهو يتفاوض مع الوزير الأمريكي في جنيف وجزءٌ كبير من الصورة مخفيّ عنه، ويحاول سؤال كيسنجر عنه ولكن هذا يُغريه بأنه سوف يقول له، ولا يبدو أنه فعل”.
ولعلي هنا أستبق الأحداث لأذكر واقعة أخشى أن أنساها فيما بعد.
ففي أبريل 1974 ذهبتُ كمبعوث خاص إلى مصر، ورافقني، بناء على طلبي، مدير الاتصالات برئاسة الجمهورية، حيث كان صلب المهمة إقامة الخط الساخن بين الرئيسين هواري بو مدين وأنور السادات، وكانت تعليماتي أنه، إذا التقيتُ الرئيس المصري، فإن عليّ أن أكتفي بالاستماع.
وأبلغني ضابط الاتصال المصري الدكتور أشرف مروانبأن السادات سوف يستقبلني في استراحة”إيكنجي مريوط” بالقرب من الإسكندرية.
والتزاما مع ما تلقيته من تعليمات وإدراكاً لأهمية كل كلمة وكل تعبير استأذنت الرئيس المصري في أن أدوّن ما أسمعه منه، فأذن لي مشكورا.
يومها كان التصور في الجزائر، طبقا لما كنت أحسّ به، بأن أوروبا ستكون أول المستفيدين من فتح قناة السويس، حيث ستستريح سفنها من الدوران حول رأس الرجاء الصالح، وبالتالي فالحكمة تقتضي أن تستعمل مصر فتح القناة كورقة ضغط في يدها، تناور بها وتساوم إن لزم الأمر، لتقول للغرب بأن القناة لن تفتح للملاحة قبل أن تمارس أوروبا ضغطا على إسرائيل يفرض عليها الاستجابة للمطالب العربية، والمؤكد أن السادات كان يعرف ذلك.
ويقول لي الرئيس السادات في نهاية اللقاء وبأسلوبه المعروف : “اسمع يا بْني .. قول للأخ أبو مدين أن تطهير القناة هو قرار مصري، أما فتحها للملاحة فهو قرار عربي”.
وعندما عرضتُ عند عودتي ما سمعته من السادات على الرئيس، شفويا وكتابيا، لم يبدُ عليه أنه اقتنع بما رويته له، وبالفعل، فما أن أتم السادات تطهير القناة حتى ارتدى ملابس الماريشالية البحرية، وركب مدمرة مصرية اخترقت به مجرى القناة تحت أضواء كاميرات التصوير وبمحضر مئات الصحفيين.
ويقول إسماعيل فهمي عن هذا في مذكراته التي صدرت في 2006، أن : “السادات كان مصابا بجنون العظمة، الأمر الذي جعله يأخذ قرارات كبيرة من وحي اللحظة بدون أن يُدرك العواقب بعيدة المدى لتحركاته المُتسرّعة (..وهو) أبلغني أنه يريد فتح القناة في الخامس من يونيو عام 1975، وأنه يريد احتفالا ضخما يقود خلاله بنفسه قافلة كبيرة من السفن في القناة (..) وكنت أعتقد أن إعادة فتح القناة يُمكن أن تكون ورقة ضغط إضافية في أيدينا (وهو ما يؤكد أن التصور الجزائري في 1974 كان سليما ومنطقيا) وأن للموعد قيمة رمزية حيث يُذكّر بتاريخ الهزيمة المدمرة للجيش المصري في 1967 والتي أدت إلى إغلاق القناة، ولم يكن سرّا أن السادات، أو من أشاروا عليه بذلك التاريخ (وفهمي يؤكدفي ص 110 أنه هيكل) كان يريد أن يقول بأن السادات هو البطل الذي أعاد لمصر كرامتها بعد الإذلال الذي عانته في عهد عبد الناصر، الذي خسر حربا واضطر إلى إغلاق القناة، في حين كسب السادات حربا وأصبح يستطيع (..) فتح القناة”.
وهكذا اتخذ السادات قراره بفتح قناة السويس للملاحة البحرية بعد تطهيرها، وبدون أن يحصل من الغرب على مقابل لهذه العملية التي كان الأوربيون ينتظرونها بفارغ صبر، ويقول وزير الخارجية المصري أن السادات طلبه هاتفيا ليطلب منه الاتصال بالأمريكيين طالبا منهم إرسال سفينتين حربيتين أمريكيتين للاشتراك في القافلة (..و) ظل يصْرخ معربا عن مخاوفه : “..بدون السفن الأمريكية لا أستطيع العبور، إنهم سوف يطلقون عليّ النار، إنك لا تعرف الإسرائيليين يا إسماعيل” (..) ويواصل فهمي قائلا أنه اتصل بالسفير الأمريكي : “لأنقل له رغبة السادات، ولم يستطع “هيرمان أيلتس″ أن يُخفي ردّ فعله وبدأ يضحك ( ص 111) … كان خوف السادات من الإسرائيليين ورغبته في العظمة الشخصية يكشفان عنه كزعيم يبعث على الضحك، وإلى حد ما ..على الشفقة (..) هذا الرجل المُضحك أوقع الكثير من الضرر بمصر”.
وهكذا افتتح السادات القناة تحت حماية السفينة الأمريكية”ليتل روك”.
ويُقرر كيسنجر لقاء السادات في أسوان للتفاوض المباشر معه، والتخلص من مسرح جنيف بما فيه الأمم المتحدة والمؤتمر الدولي والقوى العظمى والأصدقاء والأعداء.
وواقع الأمر أن لقاء جنيف حقق أهدافه بالنسبة لواشنطن وتل أبيب، فقد تم لقاءٌ علنيّ على مستويين سياسي وعسكري بين العرب وإسرائيل، وهذا معناه، كما يقول هيكل، أن ثغرة كبيرة قد فتحت في جدار الرفض العربي، وكان عقدُ اللقاء قبل الانتخابات الإسرائيلية، بما حققه من نجاح لإسرائيل، دعما لحزب العمل وفقا لتمنيات كيسنجر، وأدت عملية جنيف إلى عزل الدور السوفيتي عن التسوية.
وكانت العثرة الرئيسية التي توقف عندها المؤتمر مسألة الانسحاب المتبادل، حيث رفضت إسرائيل تمسك مصر بخط المضايق كحدّ لا تنازل عنه، وكان هذا هو ما جعل وزير الخارجية الأمريكي يقرر تجاوز جنيف، فأمله في انتزاع مواقف مصرية ترضي إسرائيل مضمون بحكم علاقته مع السادات وتأثيره عليه.
ويقول محمود رياض أن الفريق الغمصي قال له يوم 22 ديسمبر 1973 بأن القضاء على الجيب الإسرائيلي هو الآن في مقدور الجيش المصري، فقد “اضطرت إسرائيل إلى اتخاذ مواقف دفاعية لأول مرة في تاريخ الحروب الإسرائيلية، وأصبحت دبابتها مقيدة الحركة، بينما كانت مصر تملك ما يقرب من ألف دبابة بالإضافة إلى تفوقها في الأسلحة المضادة للدبابات، ومن جهة أخرى كانت قوة المدفعية المصرية تزيد على ضعف المدفعية الإسرائيلية، كما كان الجيب الإسرائيلي قريبا من قواعد الطيران المصري، والأهم من ذلك كله الحالة النفسية للقوات الإسرائيلية، التي بدأت تشعر بأنها في مصيدة حقيقية، وطبقا لبيانات الأمم المتحدة فقد أدت عمليات الاستنزاف ضد الجيب حتى يناير 1974 إلى مقتل 178 إسرائيليا وإسقاط 11 طائرة وتدمير عدد كبير من الدبابات والمدرعات الإسرائيلية” (رياض ص 449)
وأعدت القوات المصرية خطة للقضاء على الجيب الإسرائيلي صادق عليها السادات في 24 ديسمبر، وكان المفروض أن تنفذ قبل وصول كيسنجر إلى أسوان للقاء الرئيس في 11 يناير، إلا السادات انتظر وصول الوزير الأمريكي، الذي كان يدرك خطورة وضعية القوات الإسرائيلية غرب القناة، ولذا عمل على فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل يوم 17 يناير في وقت قياسي، أي أن المباحثات استغرقت أقل من أسبوع.
واتضح أن السادات لم يكن ينوي تنفيذ عملية القضاء على الثغرة إطلاقا، ويعلِنُ يوم إعلان الاتفاق أن كيسنجر قال له بأنه : “إذا بدأت مصر في تصفية الجيب الإسرائيلي فإن الولايات المتحدة ملزمة بمساعدة إسرائيل ضد مصر لأنها لن تسمح بهزيمة السلاح الأمريكي بسلاح سوفيتي”، وأراد الرئيس بذلك أن يقول بأنه قبل ما عُرض عليه لأنه لا يستطيع أن يحارب أمريكا، في حين أن التهديد، الذي سمعه السادات، في لقاء مغلق لم يحضره مساعدوه القادرون على القيام بردود فعل تحبط تهديدات كيسنجر الذي ما كان يجرؤ على تهديد السادات في حضور قياداته العسكرية والديبلوماسية، كان ذلك التهديد أجوفا وفارغا، وما كان في وسع واشنطون أن تعطي لإسرائيل أكثر مما أعطته فعلا، وكان احتمال تدخل الولايات المتحدة تدخلا عسكريا مباشرا لصالح إسرائيل أبعد ما يكون عن الواقع، لأن دخولها في حرب مباشرة مع مصر كان سيعرضها لعداء الأمة العربية كلها، وكان يحق لمصر آنذاك أن تستنجد بالقوات السوفيتية لإرغام إسرائيل على العودة إلى خطوط 22 أكتوبر تنفيذا لقرار مجلس الأمن.
وهكذا فإن ما يقال عن تهديدات كيسنجر يؤكد أنها كانت محاولة شخصية استثمر فيها ضعف الرئيس المصري وخوفه من تجدد القتال، وكانت النتيجة أن حُرمت مصر من تقوية موقفها التفاوضي، لأن المفاوضات في حالة تصفية الجيب (كما يقول رياض ص 450) كانت ستتم على أساس القرار 242 وليس مجرد الاتفاق على فض الاشتباك والانسحاب بضعة كيلومترات.
http://www.raialyoum.com/?p=330671