دكتور محيي الدين عميمور
أظن أن من حقي وأنا أتلمس طريقي في هذه الأحاديث التي أرهقتني وحملتني أحيانا، بل غالبا، ما لا أطيق، التأكيد مرة أخرى بأنني لا أدعي الإلمام بكل تفاصيل موضوع متشعب كموضوع حرب أكتوبر وتداعياتها، وأنا أكتب عما عرفته عن قرب وعايشته أحيانا يوما بيوم، ولا أعتقد أنني منعت أحدا من الكتابة عن الجولان أو غير الجولان، مما لا أعرف عنه الكثير من موقع الشاهد المباشر، وليس هناك خيال فيما أتناوله بل هو حقائق موثقة رواها شهود أكفاء، وكل ما رويته يؤكد عظمة الشخصيات السياسية والديبلوماسية والعسكرية التي كانت حول الرئيس أنور السادات ولكنه لم يستفد منها، وأنا لست ضد الرئيس المصري بأي حال من الأحوال لكنني مع الشعب المصري وكفاءاته في كل الأحوال، وهو ما يجب أن يدركه الأشقاء في مصر، والشكر للجميع، حتى لمن يستعمل في مخاطبتي كلمة “سلام” ويتصور أنني لا أحفظ من القرءان ما ينصح من يخاطبهم الجاهلون.
وأذكر أن الرئيس السادات عاد من كامب دافيد إلى القاهرة ليجد في استقباله آلافا مؤلفة جاءت “عفويا” لاستقباله بالهتافات والشعارات المُهللة، ويقول غالي (ص 162) بأن “الاستقبال الحماسي مُدبّر، لكن موقف الأصدقاء والزملاء في القاهرة كان سلبيا إزاء كامب دافيد (..) وفي غضون أسبوع كنا أعددنا العدة للعودة إلى واشنطن لتحويل إطار كامب دافيد إلى معاهدة سلام (..) وكان المشروع من 22 مادة “(للتذكير، هناك اتفاقية كامب دافيد في سبتمبر 1977 ومعاهدة السلام التي بُنيت عليها في مارس 1978)
ويحدث، كما يروي هيكل (عواصف ص 430) أمر بالغ الغرابة شديد الدلالة، فقد قرر السادات أن يُكلّف نائبه، محمد حسني مبارك، بتشكيل الوزارة الجديدة، وبدأ مبارك فعلا في مشاوراته، لكن السفير الأمريكي يطلب موعدا عاجلا مع الرئيس ليقول له بأن تكليف مبارك “مجازفة” لا داعي لها، فهو الاحتياطي الضروري له (؟؟؟) وتعريض النائب لمسؤولية رئاسة الوزراء تعني حرقه (وأذكّر بأن هذا حدث قبل اغتيال السادات بنحو ثلاث سنوات) ويستقرُّ رأي الرئيس على تكليف مصطفى خليل برئاسة الحكومة، التي سيُقصى منها آخر أبطال حرب أكتوبر وهو الفريق الغمسي.
واحتضنت واشنطون لقاءات وزارية ثلاثية في أكتوبر (..) وتناول الوفد المصري الغداء على مائدة أشرف غربال بالسفارة المصرية، وبحضور عدد من السفراء العرب في العاصمة الأمريكية، ويقول غالي: “شرحت لهم الجهود المصرية (..) وعندما علم السادات بهذا اللقاء استشاط غضبا (ص 169) وبعث إلينا ببرقية تطلب منا ألاّ نضيع الوقت في الحديث للسفراء العرب، وزعم (بنص كلمات غالي) بأنه لا يحتاج إلى تأييد عربي” (..)
“كانت التعليمات الواردة من القاهرة غامضة، والإسرائيليون يستهدفون دفعنا إلى سلام منفرد (..) كانوا يريدون تحييد مصر تماما وإبعادها عن الساحة العربية (..) والحقيقة أن الأمريكيين كانوا يعرفون القرار المصري قبلنا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي نكتشف فيها أن الأمريكيين يقفون على تعليمات القاهرة قبل وصولها إلينا، نحن المفاوضين المصريين في واشنطون”(ولا يقول غالي هل هو اختراق لنظام المراسلات السرّية المصرية، أم أن هناك في مصر من يزود الأمريكيين بالمعلومات، ومن هو؟)
آنذاك عُقدت القمة العربية في بغداد، وكان الشعور العربي المُضادّ لاتفاقيات كامب دافيد أساسا لعقد القمة في نوفمبر 1978 (رياض ص 528، وليس 1977 كما جاء خطأ في كتاب الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية) وأثار المؤتمر، الذي لم تدعَ له مصر، غضب السادات، في حين قال الرئيس أحمد حسن البكر في افتتاحه أشغاله : “أننا لا نريد أن نجادل في حق كل حاكم التصرف في إطار مبدأ السيادة على أرضه، لكن الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع سياسي وعسكري واقتصادي وحضاري، بالإضافة إلى أنه صراع على الأرض والسيادة الوطنية والقومية (..) نحن لا نسعى لعزل مصر (..) السادات هو الذي يتحمل المسؤولية، وهو الذي ترك أمته وإرادتها وإجماعها، ولم يكن العرب هم الذين تركوه”.
كان الرئيس هواري بو مدين آنذاك يعاني من تطورات المرض الغامض الذي أودى بحياته في الشهر التالي مباشرة، وكان عبد العزيز بو تفليقة هو الذي ترأس الوفد في بغداد، واقترح محمود رياض آنذاك، بوصفه أمينا عاما لجامعة الدول العربية، أن يسافر وفد من الرؤساء بقيادة الملك حسين لملاقاة السادات، وكان اقتراحا ساذجا يبدو منه أن رياض حاول أن يوفق بين مهمته العربية وجنسيته المصرية، خصوصا وقد اعترف لمن ناقشوه بأنه لا يعتقد أن السادات سيتراجع عمّا التزم به في كامب دافيد (ص 535) وأمسك المؤتمر بالعصا من الوسط وكان هذا أسوأ من الاقتراح الأصلي، إذ تقرر إرسال وفد وزاري إلى القاهرة، واختلط سوء التصور بسوء التصرف، وأدى هذا إلى ثورة السادات ضد المؤتمر، خصوصا وأن وسائل الإعلام (بمهماز مؤكد) صوّرت الوفد وكأنه يحمل إنذارا له، وهو ما لم يكن صحيحا، وسيكون من أهم نتائج المؤتمر تنفيذ ما كان السادات نفسه قد تناوله، وهو نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة.
لكن المؤتمر شدد في قراراته بضرورة : “استمرار التعامل مع شعب مصر العربي الشقيق ومع أفراده، عدا المتعاونين بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع العدوّ الصهيوني، والحرص على إبقاء مصر، أرضا وشعبا، جزءا من الأمة العربية والوطن العربي، ويحث المؤتمر كافة البلدان العربية على الاستمرار الطبيعي مع أبناء شعب مصر العاملين والمتواجدين في البلدان العربية ورعايتهم وتعزيز انتمائهم القومي للعروبة، والتفريق بصورة واضحة بين الموقف من الحكومة المصرية ومن الشعب المصري المعتز بعروبته، والذي قدم أغلى التضحيات من أجل القضية العربية وقضية فلسطين بالذات، كما يحث المؤتمر على الاستمرار في التعامل مع المؤسسات المصرية التي يتأكد امتناعها عن التعامل مع العدوّ الصهيوني وتشجيعها على العمل والنشاط في البلاد العربية في إطار الميادين التي تعنى بها، كما يرى المؤتمر ألا تشمل الإجراءات التي تتخذ في هذا الصدد النتاج الفني والثقافي لشعب مصر”.
وقد توسعت في الحديث عن قمة بغداد لأهميتها من جهة، وفي الوقت نفسه لأوضح أن ردود الفعل على قراراتها كانت متناقضة، فبينما رأى البعض أن تلك القرارات تحافظ على الحد المعقول من الارتباط العربي بين الشعوب، بما يمكن أن يُمهّد يوما لإصلاح ذات البين بين الحكومات والدول والقيادات، رأى آخرون أن القرارات شكلت دعما حقيقيا لنظام السادات، فالشعب المصري لم يطلع على تفاصيل ما دار من نقاش وعلى ما تم الاتفاق عليه، وقدمتْ له الأمور في المحروسة بمنطق سخيف يُذكر بتعبير ردود الفعل على قافلة تسير بدون أن يثنيها النباح عن متابعة المسير، وكان الأمر سيختلف جوهريا لو كانت هناك فضائيات تكشف الأمور، أو لو حدثت مقاطعة حقيقية لمصر تجعل الخسارة فادحة، تحسّ بها كل شرائح الشعب المصري، بما يجعله يُحس بأنه خسر كثيرا من الارتباط بإسرائيل ولم يكسب شيئا.
ولقد كانت الجزائر ممن رفضوا هذا الطرح، وهو ما يُخطئّه من يرون بأن المستفيدين من نظام السادات قدموا الأمر للشعب المصري بطريقة الكذب بالحذف (mensonge par omission) وصوروا له التطورات كمكسب مصري على كل المستويات، حيث كسبت السلام مع إسرائيل ولم تخسر وجودها الفعلي عبر الوطن العربي، بما يمثله من تحويلات مالية هامة ومن وجود ثقافي وفني كفل لمصر استمرار تأثيرها على المجتمعات العربية.
وسيتردد هذا الطرح عندما عادت مصر إلى الجامعة العربية في الثمانينيات، ولصدام حُسين دور هام في ذلك، وسيُقال أن العرب هو الذين عادوا إلى مصر أذلاء خانعين، وليست مصر هي التي تعجلت العودة، في حين أن النظام لم يترك وسيلة استجداء إلا لجأ إليها، وسيكون لهذا أثره على تعامل المصريين في المستقبل مع بقية الوطن العربي.
وتقوم الثورة الإيرانية ويعود الخميني إلى طهران (فبراير 1979) وتقرر القيادة الأمريكية تكثيف الدور المصري لتعويض غياب طهران الشاه، ولبحث خطط مشتركة بين القاهرة وواشنطون لمواجهة الثورة الوليدة، ويبرز هنا دور “بريجينسكي”، الذي أعدّ تقريرا يطرح صياغة ما سُمّي فيما بعد “مبدأ كارتر” ويتضمن عزم واشنطون التدخل لحماية موارد النفط في الخليج، وتحويل اتفاقية كامب دافيد إلى معاهدة سلام، والمحافظة على علاقات كارتر بالقوى اليهودية، وإشراك جماعات الضغط الصهيوني في التفاوض.
وتولى المستشار الأمريكي عرض أهداف التحرك على السادات، بعد أن أثنى على حكمة الرئيس المصري وبعد نظره (!!)، وقال أنه من سوء الحظ أن طبيعة عمل المؤسسات في الولايات المتحدة لا تسمح للرئيس بحرية الحركة (..) ولكن أصدقاءنا يستطيعون مساعدتنا بتعويض عناصر القصور لدينا.
وكان من بين ما عرضه بريجينسكي خطط للعمل ضد الثورة الإيرانية بما يمنعها من تثبيت وضعها في طهران، وأيضا خطط لإجراءات أمنية تتخذ في بعض دول الخليج، كما نقل رغبة كارتر في تسريع المفاوضات المصرية الإسرائيلية وعدم ربطها بالحكم الذاتي للفلسطينيين (مجرد الحكم الذاتي وليس تنفيذ القرار 242) وفي ضمان أسبقية معاهدة السلام مع إسرائيل على غيرها من التزامات مصر الإقليمية والدولية (وكان هذا البند بالذات حكما نهائيا على دور مصر العربي، لأنه يوقف العمل بكل التزاماتها العربية لحساب التزامها مع إسرائيل)
وكان واضحا أن واشنطون تكلف السادات بالقيام بدور يُعوّض دور شاه إيران، بصفته الدركي العامل لحسابها في المنطقة، ويقول المستشار الأمريكي في التقرير الذي قدمه للرئيس كارتر (هيكل ص 443)
1 – الرئيس السادات مستعدّ للتعاون مع واشنطون في مواجهة الأوضاع الطارئة في المنطقة.
2 – ما يهمه هو التوصل إلى معاهدة مصرية إسرائيلية، وأنه لا يأبه كثيرا بما يحدث على الجبهة الفلسطينية (Doesn’t give a damn) وأن كان يفضل :
– إما اتصال أمريكي بمنظمة التحرير يطمئنها بأن مصر ما زالت ملتزمة بمساعدتها.
– أو إعطاء قطاع غزة لمصر تقيم فيه حكما ذاتيا فلسطينيا (استعدادا لدور محتمل لحسين)
3 – موافقة مبدئية على اجتماع بين رئيس الوزراء المصري مصطفى خليل ووزير خارجية إسرائيل دايان (وهو ما حدث بالفعل في فبراير 1979).
وكانت النقطة المُعقدة الأولى على جدول الأعمال هي الخاصة بأولوية معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل على أي ارتباط آخر من ارتباطات مصر الدولية والعربية.
وبدأ رئيس الوزراء المصري مصطفى خليل اجتماعاته مع موشيه دايان يوم 21 فبراير 1979 في كامب دافيد (الثانية)، وكان المفروض أن كل طرف يحمل تأهيلا كاملا لمناقشة كل المواضيع المطروحة، وكانت النقطة المعقدة الأولى على جدول الأعمال هي المادة السادسة من اتفاقية كامب دافيد، وهي المادة الخاصة بأولوية معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وكان واضحا منذ اللحظات الأولى أن دايان ليس مخولا لتغيير نقطة واحدة أو فاصلة في هذا البند، خصوصا وأن مدير ديوان بيغين، إلياهو بن أليسار (المشار إليه في لقاء مينا هاوس) وصل إلى المنتجع الأمريكي والتحق بالوفد الإسرائيلي.
في تلك المرحلة كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يقوم بزيارة للولايات المتحدة ويغرق الصحف الأمريكية بتصريحات كان من أهدافها، على ما يبدو، التأثير على أعصاب المفاوض المصري، ومن بينها تصريح يدعي بأن اليهود هم بُناة الأهرام، التي هي عبقرية إسرائيلية ليس من حق المصريين نسبتها لأنفسهم، ثم يتطاول على رئيس الوزراء المصري قائلا أنه غير مستعد للتفاوض مع مصطفى خليل لأن هذا معين من قبل السادات أما أنا (بيغين) فمنتخب من قبل الشعب الإسرائيلي.
وكما كان متوقعا فقد فشل اجتماع كامب دافيد، ولكن السادات ظل متمسكا بالنهج الذي اختاره، برغم أن بيغين رفع سقف مطالبه قائلا لكارتر بأن إسرائيل لن تعيد آبار بترول سيناء إلى مصر إلا إذا وقعت القاهرة معها اتفاقا مباشرا بشأن إمدادها بالبترول، كما أن إسرائيل رفضت طلب مصر بربط معاهدة السلام بالتسوية الشاملة وبمباحثات الحكم الذاتي، بل وأعلن بيغين عن خطط إسرائيل لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية (رياض ص 519)
وقد يبدو هنا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يبالغ في تشدده، غير أن التحليل السليم يثبت أنه ما كان ليفعل ذلك لو كان يواجه بموقف حازم من الرئيس المصري، الذي كان غارقا في أوهامه، بعيدا عن وفده، معزولا عن شعبه، منقطعا عن أمته، لا يفرق بين أحلام اليقظة وواقع العمل السياسي.
وعندما استقبل بريجينسكي في 6 مارس 1979 للإعداد لزيارة الرئيس كارتر لمصر، في إطار سعيه المحموم لضمان عهدة رئاسية ثانية،كان يرى أنها تبتعد بسبب موقف بيغين منه كما قال المبعوث الأمريكي للسادات، أجابه الرئيس المصري بأن كارتر يمكنه أن يأتي مطمئنا إلى نجاح مسعاه، لأنه، أي السادات، يملك سلاحا سريا سيستعمله للضغط على بيغين، وعندما تساءل عن هذا السلاح قال السادات أنه : مياه النيل (مذكرات بريجينسكي ص 282)وهو ما فوجئ به بطرس غالي خلال زيارته في أوائل 1979 لإسرائيل عندما قال له رئيس الوزراء الإسرائيلي بانفعال : اسمع …أنا لن أبيع سيادة إسرائيل مقابل ماء النيل.(عواصف ص 451)
وحاول غالي، بتشجيع من مصطفى خليل، إثناء الرئيس عن موقفه بالقول أن اتفاقية ماء النيل لا تسمح لأي دولة من دول الحوض بأن تعطي لطرف ثالث أي كمية من المياه إلا بموافقتها، وبأن أي توزيع جديد لحصص المياه لن يكون في مصلحة مصر لأنها تأخذ حاليا أكثر من حصتها، ويضيف خليل بأنه ليس لدى مصر مياه فائضة، وبأنها حاليا تستعير جزءا من المياه المخصصة للسودان، وإيراد مياه النيل يشهد تذبذبا في السنوات الأخيرة، ولولا السد العالي لحلت بمصر كارثة (ولعل فكرة تحويل بعض المياه لإسرائيل كانت نكاية في جمال عبد الناصر بعد موته، باستثمار بعض ما أفاء الله به على مصر من مياه بفضل السد العالي، مفخرة عهد عبد الناصر)
والغريب أن الساداتكان يقول لمواجهة حجج معاونيه بكل صفاقة أننا نستطيع أن نقول للأفارقة أننا سوف نعطي مياه شرب للفلسطينيين ( هيكل ص 453) وهكذا أصبح الرئيس المصري يتاجر باسم الفلسطينيين لمصلحة عدو الجميع.
كاتب ووزير اعلام جزائري سابق
http://www.raialyoum.com/?p=349052