دكتور محيي الدين عميمور
استأنف وزير الخارجية المصري إبراهيم كامل استعراضه لقاء كامب دافيد اي جمع السادات مع كارتر وبيغين قائلا: في فترة المساء (..) مررنا على الرئيس (..) وأخبرنا أنه قرأ مشروعنا على كارتر وبيغين، وسلّم الأخير نسخة منه، واتفق الثلاثة على العدول عن فكرة الاتفاق على إعلان مبادئ، وأن يكون هدف اللقاء التوصل إلى إطار للتسوية السلمية الشاملة، يتيح للأطراف العربية الأخرى الدخول في مفاوضات على أساسه (ولم يكن السادات بالطبع قد استشار الأطراف العربية الأخرى، والتي تعني، استنتاجا، سوريا والأردن وفلسطين).
ويواصل كامل قائلا (ص 513) بأن السادات اكتفى بأن قال لنا أنه : “قدم مشروعنا إلى كارتر وبيغين وناقشه معهما، رغم أنني نصحته بغير ذلك (..) وأعطانا الانطباع بأنه نجح أمام الرئيس الأمريكي في التصدي لانتقادات بيغين للمشروع وفي الدفاع عنه، ولو أنني من واقع التجربة لا أعوّل كثيرا على روايته (..) حيث أنه بدا من حديث كارتر أنه قد استبعد المشروع المصري كأساس للتفاوض (..) والمفهوم ضمنا من تصريحه بأنه قرر التقدم بمشروع أمريكي لمعالجة الهوة بين المواقف المصرية والمواقف الإسرائيلية (..) وأوحى بأن أمريكا ستقوم بدور الشريك الكامل لإسرائيل ضد مصر (..) ولكن المصيبة واللغز والفضيحة هو موقف السادات، فهو يستمع إلى كل ذلك ولا يغضب ولا يزمجر ولا يُعارض ولا يُفند ولا يُجادل ولا يشرح (..) ثم يصل الأمر إلى أن يطرح الرئيس الأمريكي في وضوح فكرة عقد تحالف أمريكي إسرائيلي مصري فيخرس السادات ولا ينطق (..) لقد كدت أموت خجلا وكمدا وقرفا وأنا أتابع هذه المأساة ( كامل ص 515) وقال بطرس غالي أنه يُشاركني مشاعري (..) كان بطرس يؤمن بطاعة الرئيس وأن علينا أن ننفذ ما يُقرره ونزيّن إخراجه”.
ويستأنف بطرس غالي الحديث حول نفس الموضوع فيقول بأن “أسلوب السادات كان يُربكنا، حيث لم يكن يطلعنا على تفاصيل أحاديثه مع كارتر أو مع بيغين، وكنا نلاحظ أن الزعيمين الأمريكي والإسرائيلي يحيطان وفديهما بالأمر قبل الاجتماع وبعده (..) كانت الأجواء المحيطة بنا غريبة، والسادات لا يمكن التنبؤ بأفعاله (ص 141) وكان تكتيكه يعتمد على إقناع الأطراف الأخرى بأنه “معتدل” بينما “وفده” غير مرِن (..) وكان واضحا لي أننا، أعضاء الوفد، كمٌّ مهمل (..) ومع مرور الأيام بدت كامب دافيد كمعسكر اعتقال (..) لم يكن المشروع الذي قدمه كارتر، كما يقول غالي، شاملا وإنما كان مضطربا (..) فالقسم الأول منه، وهو الانسحاب من الأراضي المصرية، لم يكن يتبعه بالضرورة القسم الثاني، وهو الانسحاب من الأراضي الفلسطينية (..) وشعر المندوبون المصريون بالصدمة إزاء الأحكام المتعلقة بسيناء، التي ستكون منطقة منزوعة السلاح تشرف عليها قوات الأمم المتحدة، وتضمّن المشروع عشرات من القيود على السلطة المصرية، وكانت تلك الشروط مهينة لمصر (غالي ص 149) وبدا السادات غافلا عن ردود الفعل العربية، كان يريد من الأمريكيين أن يضمنوا نجاح مبادرته، وكنت أخشى من أن الأمريكيين يخدعون أنفسهم، وأن السادات بدوره سوف يخدع العرب”.
وفي اليوم العاشر يكتشف الرئيس المصري أن ما هو معروض عليه لا يفي بالحد الأدنى لمطالبه، حتى بالنسبة لحل مصري إسرائيلي، فتراوده فكرة “فرقعة” المؤتمر، ويسجلُ السادات نقطة هامة لصالحه عندما يبلغ كارتر من أنه لن يستطيع الاستمرار في المباحثات مع إسرائيل، وأنه سيعلن ذلك في مؤتمر صحفي، وكان مناورة رائعة أعطته الفرصة لممارسة سياسة حافة الهاوية، تماما كما كان يخطط لذلك أو يطمح إليه، لكنه أضاعها للأسف لأنه كان متعجلا لركوب السيارة المكشوفة التي تخترق جموعا هاتفة بحياة بطل الحرب والسلام، وكان الطرف الأمريكي هو الذي أحيا ممارسات فوستر دالاس، المتعلقة بسياسة حافة الهاوية.
فقد انزعج الأمريكيون بالطبع مما قاله السادات، وقال سيروس فانس بأنها: “ستكون ضربة كبيرة إذا صدر تصرفٌ يفهم منه الشعب الأمريكي بأن التقدم نحو السلام توقف”، ويأخذ الكلمة “والتر مونديل” نائب الرئيس ليقول للسادات، وفي ذهنه معلومات عن شخصية الرئيس المصري، أنه “أصبح خلال 48 ساعة رجل دولة ورسولا للسلام”، لذا “يجب ألا تعطي إسرائيل الفرصة للإفلات والادعاء بأن ما قمتَ به كان زائفا”، ويقول كارتر بأن : “قرارا يتخذه السادات بوقف المفاوضات سيُعطي بيغين الفرصة ليقول بأنه يريد ولكن السادات لا يريد”، ويتدخل بريجنسكي ليقول للسادات بأنه : “إذا أعلن قرارا سلبيا عن المباحثات مع إسرائيل فإن ردّ الفعل الأمريكي سيكون أن اجتماعك هذا مع الرئيس كارتر كان فاشلا، وهذا ليس في مصلحة أحد”.
ثم يقول كارتر للسادات وهم وقوف، ويسجل هيكل أن الرئيس الأمريكي كان يتحدث بجدية قاتلة (Deadly serious) : إنك تريد أن تنسحب من المؤتمر، لكن ذلك سوف يعني نهاية العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية (..) إن ذلك سوف يعني أيضا نهاية شيء أعتز به وهو الصداقة بيني وبينك.
وأتصوّر أنه “لوْ” كان هواري بو مدين أو جمال عبد الناصر أو الملك فيصل أو صدام حسين أو على ذو الفقار بهوتو مثلا في موقع السادات لقال لكارتر بهدوء: لقد اعتمدت عليك شخصيا لانتزاع ولو جزء من حقوق بلادي، ولكن يبدو أن الضغوط عليك كانت كثيرة ومعقدة، وأنا لا أريد أن أحملك فوق ما تطيق، ولهذا أنسحب، وسأقول أنا أيضا رأيي علنا في كل ما حدث، وسوف أعرب عن شكري لكل جهودك الخيّرة، وأعرب للشعب الأمريكي عن امتناني لكريم ضيافته.
لكن السادات كان قد وضع كل البيض في سلة واحدة، وكان كل ما يهمه أن يرجع إلى بلاده في صورة المنتصر، حتى ولو لم يكن الأمر كذلك، وهو ما يمكن أن يوفره له الإعلام الأمريكي والدولي الذي تحركه الأصابع الإسرائيلية، وما سوف يردده الإعلام المصري، اضطرارا أو مسايرة أو ممالأة وارتزاقا.
ولم يفهم السادات أن “صديقك من صدَقك لا من صدّقك”، وهكذا وجد نفسه وحيدا في مواجهة ممثلي أقوى قوة في العالم، لأنه فضل دائما أن يتصرف بنفس الطريقة التي كان يتصرف بها فرعون : “ما أريكم إلا ما أرى”، رغم وجود عدد من خيرة الوطنيين الديبلوماسيين من أبناء مصر حوله، تغاضى عنهم واستهان بهم وعزل نفسه عن أمته بل وراح يُعاديها ويستعديها حارما نفسه من عمقه الاستراتيجي، وبالتالي أصبح فريسة للمناورات الإسرائيلية الأمريكية.
واضطر الرئيس المصري للتراجع، لأن من كانوا أمامه فهموه حق الفهم، وعرفوا حقيقة ما يطمح إليه، وكان مشروع كارتر صورة طبق الأصل من المقترحات الإسرائيلية، وكان مُبرّر قبوله للمشروع، كما عبّر عن ذلك لوزير خارجيته، بأن : “نجاح مؤتمر كامب دافيد سيؤكد نجاح كارتر في الانتخابات الرئاسية القادمة، وعند ذاك سينفذ الرئيس الأمريكي وعوده لأنه رجل قيم ومبادئ !!”، وكأن السياسة قيم ومبادئ لا توازن قوى وتبادل مصالح، ومن هنا جاء الرد الأمريكي على شكل مشروع يحقق كل الآمال الإسرائيلية”.
ويقول السادات بأنه لم يتنازل للإسرائيليين حتى عن بوصة واحدة، غير أنه استجاب لنداء:”الرئيس كارتر، حليفنا وصديقنا، وهو حليف يحتاج كلانا لمعونته ويتلقاها.
عندها تتغلب روح الوطنية المصرية الأصيلة عند وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل فيقدم استقالته فورا للرئيس، الذي يقبلها بنفس السرعة، ويجري هذا كله في كامب دافيد.
وأسجل هنا ما رواه إبراهيم كامل عن غالي، الذي كان يشكو من رسائل تهديد تلقاها إثر مرافقته للسادات إلى القدس، وقال (عن غالي ص 529) éإنهم يتهمونني بأنني الجيل الثالث من الخونة، ويردّ كامل ضاحكا : أنا لا أعرف إلا اثنين، أنت وجدّك (بطرس غالي باشا الذي اغتاله وطني مصري اسمه الورداني لحكمه بالإعدام على شهداء دنشواي 1906، ولموافقته على مدّ امتياز قناة السويس حتى 1969) فمن هو الثالث؟، ويجيب غالي :عمي نجيب باشا، تورط مع الإنغليز في الحرب العالمية الأولى”.
ويلاحظ هنا أن الوزير المصري يقدم نفسه دائما على أنه بطرس بطرس غالي، مكررا اسم بطرس للتذكير بارتباطه بجده المُغتال.
وعندما أحس بيغين باتجاه كارتر لاقتراح مشروع جديد سارع فقدم له التعهد الكتابي القديم الذي كان كيسنجر قد التزم فيه بعدم التقدم بأي مشروع يتعلق بتسوية النزاع العربي الإسرائيلي قبل التشاور حوله مقدما مع إسرائيل، وكان رضوخ واشنطون، كما يقول كامل، ضربة قاصمة للمركز التفاوضي المصري في كامب دافيد.
ويقول غالي أن الرئيس: “وافق على التوقيع على وثيقة مُعدّلة لم يعرف أحدٌ منا شيئا عن مضمونها (..) وقال لنا أنه وافق لأنه كان مقتنعا أن بيغين سيرفض (..) غير أن وليم كوانت أبلغني بعد ذلك بوقت طويل أن السادات كان قد أعلم الأمريكيين بموقفه المتخاذل”.
ولم يكن مؤكدا أن كارتر وعد السادات بشيء، فقد نفى الرئيس الأمريكي وجود صفقة، وكانت الحقيقة أن ما تم التوصل إليه كان مجرد إطار للحل، وهو بوضوح، حلّ مصري/ إسرائيلي، ويروي هيكل أن بيغين قال لكارتر بأن : “السادات يُمكن أن يأخذ لمصر بمقدار ما يُعطي من فلسطين” (ص 428) ولم يدرك الرئيس المصري أنه كان بموقفه ينسحب بمصر من الوطن العربي، ويحْصُر مستقبلها وراء سيناء.
وفيما يتعلق بفلسطين، فقد وقع الرئيس على بند يقول بأنه: “إذا تقاعس الملك حسين عن أداء دوره في الاستقلال الذاتي (الذي لم يُستشر فيه الفلسطينيون) فإن مصر سوف تكون مستعدة لأداء هذا الدور”.
ويقول له إبراهيم كامل (ص 545) بأن: “هذا مستحيل عمليا، وعلى أي أساس؟ وماذا نعرف نحن عن الضفة الغربية؟ ثم إن علاقاتنا مع المنظمة مقطوعة ومتوترة، وقد يؤدي تدخلنا في الضفة إلى الاصطدام بها فماذا سيكون الوضع ؟، وأجاب السادات بعنجهية : سأرسل قواتٍ مصرية إلى الضفة الغربية، وأنا أعلم أنه قد يُقتل عدد من أفرادها ولكنهم سيقتلون عشرة من أفراد المنظمة مُقابل كل مصري يُقتل، وقلت له وأنا أكبح جماح غضبي : هذا جنون، إن عدوّنا هو إسرائيل وليس الشعب الفلسطيني الذي قمت بمبادرتك لحل مُشكلته”.
ولم يكن ذلك جنونا بقدر ما كان استهانة بالدماء العربية، بما في ذلك الدماء المصرية، وهو ما يبرز مرة أخرى خلفية السادات في مأساة لارناكا.
ويرفع كامل مذكرة للرئيس كان أسلوبها السيكولوجي الهادئ المرن، كما أراده وعبر عنه وزير الخارجية المصري : “يستهدف أن يتجرع السادات محتوياتها بما يُشعره بأن فشل كامب دافيد لا يعني فشل مبادرته ونهايتها، وبما لا يثير جزعه من أن يؤدي ذلك إلى صدام بينه وبين كارتر، الذي بات يعتقد أنه أمله الوحيد وحجر الزاوية في علاقاته الدولية، وحتى يتقبل، بصورة لا تمسّ كبرياءه ولا تجرح مشاعره، التوجه من جديد إلى العرب بصورة متدرجة، تبدأ بالاتصال بالزعماء المعتدلين، ثم مؤتمر قمة مصغر يؤدي بدوره إلى موقف عربي موحد ونهائي لتحقيق السلام”.
كان ذلك في سبتمبر وقبل مؤتمر الصمود والتصدي الثالث في دمشق (20-23 سبتمبر 1978) وقبل أن يتسرب شيء عن مرض الرئيس بو مدين، الذي كان قال بأنه على استعداد للذهاب إلى القاهرة والاعتراف علنا بخطئه إذا نجحت مبادرة السادات، وبأنه على استعداد لوضع كل إمكانياته في خدمة مصر إذا كان هناك تراجع عن مبادرة لم تؤدّ النتائج المرجوة منها، وكان خطاب الرئيس بو مدين عن التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني في مؤتمر دمشق تحليلا بالغ العمق شديد الأهمية، لدرجة أن الرئيس الفلسطيني قال، عندما أعطيت له الكلمة بعده : ما الذي يمكن أن يُقال بعد ما قاله “المعلم” (بالنطق المصريّ) وهو ما أكده لي الرفيق القديم الأخ عبد الملك كركب عندما أحسست أن ذاكرتي كادت تخونني.
ويقول كامل (ص 558) إن “السادات كان يطمح إلى أن يصبح حليف أمريكا وشرطيها، وكان يعتقد أن مدخله إلى ذلك هو معاداته للاتحاد السوفيتي وإهانته، واستعداده لأن يقوم لحساب واشنطون بالتصدي للوجود السوفيتي في الشرق الأوسط وإفريقيا، بالإضافة إلى مساندته للنظم التي تدور في فلك أمريكا كنظام “موبوتو” (قاتل لومومبا) ولعل قيامه بمبادرته لإقرار السلام مع إسرائيل يدخل في خلفياتها استرضاء أمريكا وكسب ودها”.
ويستنتج هيكل أن السادات قدّر أن الوضع في مصر يقتضي حركة سريعة تشغل الناس بفوائد السلام، وتلفِت أنظارهم بعيدا عن عملية التفاوض، ثم تلهيهم بعيدا عن القضية الفلسطينية وعن غيرها من القضايا العربية، ومن هنا كانت ضرورة تحريض الشارع المصري ضد كل ما هو عربي بحيث يُصبح العرب هم العدوّ الرئيسي، لكن شاغل السادات كان السعوديون، فهم مصدر تمويل رئيسي، وخط اتصال ضروري مع واشنطون، ولهم في المنطقة وزنٌ يعادل موقف الرافضين، ولهذا طلب من كارتر أن يقنع الرياض بالتحفظ في ردة فعلها على كامب دافيد، وكان يتصور أن السعودية ستتخذ أي موقف تشير به واشنطون، مثلها في ذلك مثل الأردن.
http://www.raialyoum.com/?p=348080