دكتور محيي الدين عميمور
أعود إلى التساؤلات التي أقضت مضجع مناضل مصري قديم، كان سجينا مع السادات في القضية التي عرفت بقضية “أمين عثمان”.
كان محمد إبراهيم كامل قد عُيّن وزيرا للخارجية بعد استقالة إسماعيل فهمي، وأوردَ بطرس غالي أنه سمع انتقادا عنيفا له من صديق، لم يذكر اسمه، سأله غاضبا: كيف تقبل العمل تحت رئاسة محمد إبراهيم كامل ؟(..) لا تنس أنك تحملت عبء المخاطرة شخصيا وسياسيا ورافقت السادات إلى القدس، ويُطرق غالي، تواضعا، ولا يُجيب.
ويقول كامل (ص 450) “بدأت عملية الإعداد للقاء الثلاثي الذي سيصبح محل اهتمام كبير من كل الدوائر في الدول المعنية، ففي إسرائيل كان بيغين يواصل الاجتماعات بمجلس وزرائه وبلِجان الكنيست وبالمستشارين والخبراء لدراسة ملفات اللقاء، وكان كارتر يمضي ليال بأكملها مع مستشاريه لنفس الغرض، أما السادات فكان يواصل “صيامه” متجولا بين استراحاته في المعمورة والإسماعيلية والسويس، وكنت أتصلُ به هاتفيا لأستطلع رأيه في بعض النقاط، وشعرت من قبله بنوع من عدم الاكتراث (..) كان يمضي نهاره في تكاسل واسترخاء، وبعد أن يتناول إفطاره (..) كان يستقبل الشخصيات والوفود (..) ويلقي المحاضرات، ويتكلم في أي شيء، في التاريخ والسياسة والاقتصاد وفلسفة الحياة وأخلاق القرية، أو يستعيد ذكريات كفاحه الوطني، وعندما وصل الأمر إلى مرحلة تتطلب الاسترشاد برأي الرئيس راح هذا يُسوّف ويتهرب محتجا بأن العمل يُرهقه في شهر رمضان”.
ونتيجة لإصرار وزير الخارجية على أن يعقد اجتماع لبحث خطة العمل والاستراتيجية التي سيجري إتباعها، وافق الرئيس في النهاية على عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي يوم 2 سبتمبر 1978، ويستشير وزير الخارجية مدير المخابرات العسكرية كمال حسن علي (الذي كان رافق التهامي إلى المغرب) ويتم إعداد مذكرة تضم كل ما وصلت له الدراسات المكثفة حول الأهداف التي يجب تحقيقها في كامب دافيد.
وبدت قمة “كامب دافيد” للسادات كطوق نجاة، ويقول غالي حول الاستعداد لها: “كان السادات على ثقة من أن الأمر كله سينتهي قريبا، فهو سيعرض موقفه، وسترفض إسرائيل هذا الموقف، وسيؤيد الرأي العام الأمريكي مصر، وسيرى كارتر أن موقف مصر جيد وموقف إسرائيل سيّئ، ومن ثمّ تقوم واشنطن بالضغط على إسرائيل لقبول ما قدمه السادات”.
ولم يستطع غالي تحمل هذا الطرح الساذج الذي يتجاهل معطيات الواقع وموازين القوى في واشنطن فيقول: “أعتقد أن الأمر ليس بمثل هذه البساطة، وأخشى أن الأمريكيين لن يضغطوا على إسرائيل، وأن السادات سيقوم في هذه الحالة بتقديم تنازلات (ص 77) وكان السادات يعتبر غزة مسؤولية مصر بحكم الأمر الواقع، وأنه سوف يعطيها للأردن !!!، الأمر الذي يُوفر للمملكة ميناء على البحر الأبيض، علاوة على جموع من الغزاويين الغاضبين” ??? (ص 144) ولعل هذا يُذكر بما قاله بيغين من أن : “السادات فتح الطريق بمبادرته إلى اتفاق مصري إسرائيلي، فهو لم يجئ إلينا مفوضا من أحد، ولم يستشر زملاءه من الملوك والرؤساء العرب قبل أن يأتينا، والرئيس الوحيد الذي استشاره هو الأسد، الذي رفض أن يعطيه تفويضا بالحديث نيابة عنه”.
ويقول الرئيس المصري لمعاونيه وهم يتجهون إلى كامب دافيد بأنه “سيضع نموذجا للاتفاق، والكلّ أحرار في الدخول أو الخروج، وسأقول لكل العرب بصراحة أن قرار الحرب والسلم في يد مصر !!!، ومصر تتكلم باسم نصف الأمة العربية وزيادة !!”، ويُعلق هيكل قائلا بأن السادات كان يتحدث وكأن المؤتمر سيكون تحت رحمته (ص 420) لأنه سوف يستطيع أن يُفرقع كل شيء، ويهدم فرص كارتر الانتخابية، ويكشف مناحم بيغين (..) ولن يكون أمامهما إلا القبول بمشروعه.
ويقول غالي (ص 142) أنه : “في اجتماع برئاسة السادات ثارت مناقشة حامية بين الرئيس ووزير الخارجية كان كامل فيها على حق، لكنه لم يتمكن من عرض موقفه بفاعلية، فلم يكن بعصبيته واضطرابه ناجحا كمفاوض (ضربة مجانية من غالي لكامل) وكان واضحا أن السادات يريد أن يخرج بوثيقة دولية مهما كان الثمن، إذ كان يُدرك أنه بدون هذه الوثيقة سوف تبدو رحلته إلى القدس والمبادرة الديبلوماسية اللاحقة فاشلة (ويلاحظ أن غالي تفادى الدخول في المناقشة رغم اعتقاده بأن الوزير على حق)
ثم يقول “تفهمتُ مخاوف كامل، ففي رأيه أن السادات لم يكن يدرك بالضبط ما يريدُ تحقيقه (..) وكان يخشى أن يربط الرئيس بين الفشل في كامب دافيد وفشل مبادرته السلمية ككُلّ (..) وبذلتُ قصارى جهدي لتهدئته، وأوضحتُ أن دورنا ثانوي (!!!) وأن القرار السياسي سيتم اتخاذه، شئنا أم أبينا” (واضح).
ويروي كامل أن السادات قال (ص 469): “المطلوب أن نكسب الرأي العام العالمي والرئيس كارتر إلى صفنا (..) وهناك نقطتان في مشروعنا (..) صيغة ترسم الحدود بحيث تحقق الأماني المشروعة للفلسطينيين والأمن لإسرائيل، ولا بد أن تحدث تنازلات في الضفة (من الجانب الفلسطيني بالطبع) والثانية تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين بعد فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، غزة تعود لمصر والأردن تأخذ الضفة، والجميع يُؤيدون ذلك (..) وفيما يخص الدولة الفلسطينية (..) للفلسطينيين حق تقرير المصير مع رابطة مع الأردن، وسأعترض على منظمة التحرير الفلسطينية حتى ولو قبلتهم إسرائيل”.
أما وزير الخارجية المصري فقد تحدث بوضوح وبشيء من الحدة، وهو ما نبهه إليه مساعده أحمد ماهر (وزير الخارجية فيما بعد) موضحا الأخطار التي تتضمنها أفكار الرئيس، وكان من بين ما قاله أن : الموافقة على هذه الصيغة تعني أننا تخلينا عن هدف استراتيجي ثابت، أي إخراج الأرض والسيادة من دائرة التفاوض، وتعني في نفس الوقت أننا وافقنا على نظرية الأمن الإسرائيلية (..) وبالتالي سلمنا بما تطالب به إسرائيل من تنازلات إقليمية في الضفة وغزة بدعوى حماية أمنها (..) وسنكون ألحقنا ضررا جسيما بالقضية الفلسطينية بدون أن نحقق سلاما أو استقرارا (..) كيف يحق لنا أن نتفاوض على تنازلات إقليمية في الضفة الغربية وغزة ؟ هل نملك التنازل عن أرض ليست أرضنا بدون تفويض من أصحابها الشرعيين؟ (..)
ويؤيد الفريق الغمسي طرح وزير الخارجية باستبعاد الأراضي من ترتيبات الأمن.
كان كامل وبقية أعضاء الوفد من الوطنيين المصريين يغلون غضبا من الأسلوب المتبع في تعامل الرئيس مع أخطر قضية تمس مصر، ويتوجسون شرا من احتمال تضحية السادات بكل المكاسب المصرية، وكان واضحا أنه، ولتقديم النتائج الهزيلة لشعبه كأنها إنجازات كبرى، سوف يعتمد على “الأرمادا” الإعلامية التي لم يرتقِ روادها حتى إلى مرتبة النزاهة التي تحلى بها سحرة فرعون، وإن كنت أسجل هنا تقديري لكثيرين من رجال الإعلام، تصدّوا، في حدود الممكن والمتاح، لأكاذيب السلطة عندما تبين حجم الخديعة الكبرى.
وينتهي الاجتماع ويواجه السادات وزيره في مدخل الشرفة، ويروى الوزير المشهد قائلا : “كأنما كان ينتظر ليُطلق شيئا حبيسا في داخله، فقد شرع يقهقه ضاحكا بطريقة مسرحية تدل على التسفيه، ثم قال بصوت جهوري هز المحيطين به : بقى إنت فاكر نفسك ديبلوماسي يا سي محمد (..) أنا حا أقدم مشروعي وأفرقع المؤتمر وأرجع مصر بعد 48 ساعة بالكثير، وغالبت نفسي حتى لا أقهقه بدوري على سخافة ما قاله” (السلام الضائع ص 472)
وتنشر صحيفة الأهرام يوم 31 أغسطس مضمون اجتماعات مجلس الأمن القومي، ويورد مُراسلها حمدي فؤاد، وهو على دين غالي، بأن : “مصر ترفض أي اتفاقيات جزئية أو ثنائية وتتمسك بالحل العادل والدائم، وأكد الرئيس لمجلس الأمن القومي أنه لا تنازل عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ولا عن انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية”.
وواضح هنا حجم الخداع الذي كان يُمارَسُ على الرأي العام المصري، مقترنا دائما بشحنات متفاوتة التضخيم من الهجوم على العرب وتشويه مواقفهم، استثارة لحمية الشعب المصري.
ويتجه السادات إلى أمريكا بعد توقف في باريس، حيث ترك أسرته لضرورات ارتأتها، ويلتقي الرئيس “جيسكار ديستان” الذي يبدى له تشاؤمه من أن يُسفر اجتماع كامب دافيد عن شيء، فيقول له السادات بأنه سوف يستعمل أسلوب دالاس، ويضع الجميع على حافة الهاوية (on the brink) ولم يحاول الرئيس الفرنسي أن يستوضحه تاركا الأمر للأيام، لكن كامل علق (ص487) بأن “الجانب الفرنسي كان مفرطا في التشاؤم، وقد بُنيتْ تقديراتهم على أساس أن بيغين لن يتزحزح قيد أنملة عن مواقف المتصلبة”.
ولقد كان من الممكن أن يكون لقاء كامب دافيد، والذي استمر 13 عشر يوما، وانتهى بعد منتصف سبتمبر 1978، فرصة لا تعوض لانتزاع بعض الحقوق العربية، لو تم التعامل معه كمؤتمر فيه كرّ وفرّ وتاكتيك ومناورات وتوزيع للأدوار بين الرئيس ومساعديه، حيث تكون القوة الضاربة وفدا منسجما يتكامل فيه دور الرئيس مع دور كل عضو، صغر أم كبُر.
لكن هذا لم يحدث مع الأسف، فقد بدأ الرئيس المصري المباحثات بطلب اجتماع “مُغلق” بينه وبين الرئيس الأمريكي، واتضح أن هدفه “إخفاء” عناصر المحادثات عن الوفد المصري بالذات، وبالتالي عن الرأي العام المصري والعربي، في حين كان معروفا أن كارتر سيُبلغ مساعديه بكل ما حدث.
وكنت أشرت إلى قضية اللقاءات المغلقة بين رئيسين، ولاحظت، وأنا أعد هذه السلسلة، أن وزير الخارجية المصري توقف أيضا عند هذه القضية ملاحظا أنها “أصبحت من سمات الزمن الذي نعيش فيه، إذ تتيح جوّا هادئا متحررا من التكلف (..) لكن ما يدور فيها ليس أحاديث شخصية بين طرفين أو ملكية خاصة لهما (..) بل يُعتبر جزءا متمما أو مكملا للأجزاء والأنشطة الأخرى المتصلة بالموضوع، ويجب أن يُضاف إلى حصيلتها (..) ومن ثمّ يجب أن يتم تسجيل ما دار فيها بأمانة” ( السلام الضائع – ص 176) لكن الحال لم تكن كذلك مع الرئيس السادات إلاّ فيما ندر.
وكان الوفد المصري إلى كامب دافيد يحمل مشروعا، لم يساهم وزير الخارجية في إعداده ولكنه يقول عنه، بأن : “السادات لم يكن يستطيع أن يصوغ بنفسه مشروع إطار السلام، فإلى من لجأ؟ هو اختار السيد أسامة الباز (وهو) متمكن من قضية النزاع العربي الإسرائيلي، وبارع في الصياغة، وهي عملية بالغة التعقيد، بعنصريها القانوني والسياسي (كامل ص 480) كان مشروعا جيدا متماسكا يصلح لأن يكون أساسا للتسوية الشاملة لو تدرجنا إليه في الوقت المُناسب، لكن السادات، بما جُبل عليه من تسرّع وتبديد، ألقى به وقودا في المرحلة الأولى من المباحثات (..) في حين كنت أرى عدم تقديم المشروع في المرحلة الأولى التي يجري فيها استكشاف موقف كارتر ومدى استعداده للتحرك، ولفضح موقف بيغين (..أما) إذا عرضنا مشروعنا في البداية فيجب التمسك بكل أحكامه بكل قوة وعدم القبول بإجراء أي تعديل، إلا إذا عدّل بيغين مواقفه، وليس في هذا ما يمكن أن يُغضب كارتر”.
والواقع أن المشروع المصري الذي وضع له عنوانا : “إطار التسوية السلمية الشاملة لمشكلة الشرق الأوسط” لم يكن يقل عن خطاب السادات في الكنيست، مضمونا وصياغة ودسامة، وارتكز في مجموعه على تنفيذ القرارين الأمميين 242 و 338، لكن السادات يُفاجئ الجميع في افتتاح اللقاء بقوله عنه لكارتر بأنه “مجرد موقف تفاوضي” (هكذا كشف أوراقه منذ الدقائق الأولى) وأنه يقدمه لتسجيل المواقف ولإسكات بعض المتشددين من أعضاء وفده الذين لا يطمئن إلى توجهاتهم (هيكل ص 421) ثم يضيف بأن هناك مشروعا آخرا مُعدّلا.
ويكشف وزير الخارجية المصري الأسبق تفاصيل حول اللقاء في مذكراته فيقول (ص 350) بأنه في الاجتماع الأول أصر السادات على أن يكون أول المتحدثين، وتلا كلمة طويلة متشددة سجل فيها الموقف المصري، ثم سارع بنشرها في الصحافة المصرية حتى يقول للناس جميعا أنه لم يُقدّم أي تنازل لإسرائيل، غير أنه تجاهل فيما بعد كل ما أعلنه على رؤوس الأشهاد، وهو ما كان الإسرائيليون قد فهموه جيدا، وأدركوا، كما قال موشيه دايان في مذكراته (الانفراج – ص 163)، من أن التشدد ليس إلا غطاء.
كانت وضعية الوفد المصري في الاجتماع الأول الذي احتضنه كامب دافيد في النصف الأول من سبتمبر 1978، والذي كان يُعرّبه العقيد القذافي فيسمّيه : “اسطبل داوود”، وضعية مزرية بالنسبة لوفد يضم أقطاب الديبلوماسية المصرية، ويستعرضها هيكل فيقول (ص 422) بأن الوفد كله تقريبا كان لا يعرف ما يجري حوله، وكان وزير الخارجية إبراهيم كامل يُحسّ بأن شيئا ما يجري طبخه، وهو :”يشم الرائحة ولا يرى المائدة”، وكاتب الدولة للشؤون الخارجية بطرس غالي مشغول بالحالة النفسية لنائب رئيس الوزراء حسن التهامي، والسادات ما زال يراهن على وايزمان.
ويقول كامل (ص 498) في قاعة الطعام قابلْنا الوفد الإسرائيلي حول مائدة مستديرة يتناولون طعامهم يتوسطهم بيغين وزوجُه، والذي استمر يتناول طعامه في المطعم طوال فترة المؤتمر، على خلاف الرئيس السادات الذي لم يزره على الإطلاق، وكان يتناول طعامه وحيدا في مقر إقامته.
ملاحظة: نشرت هذه الحلفة بتصرف.
http://www.raialyoum.com/?p=347075