دكتور محيي الدين عميمور
ويفاجأ مصطفى خليل عند استقباله في مصر لوزير البترول الإسرائيلي “إسحق موداعي” (الذي رافقه وزير الدفاع إيزرا وايزمان) بأن زائره يقدم له صورة من خطاب بعث به كارتر إلى بيغين، يشهد فيه الرئيس الأمريكي بأن الرئيس السادات التزم أمامه بأن تقدم مصر لإسرائيل كمية من البترول لا تقل عمّا كانت هذه تحصل عليه من آبار سيناء، وأن يتم ذلك بأسعار تفضيلية وبصفة مستديمة، ويحاول مصطفى خليل التهرب من تبعات مواقف السادات فيقول لموداعي بأن خطاب كارتر ليس ملزما للحكومة المصرية، خصوصا ولم يرد له ذكر ضمن الملاحق الرسمية لكامب دافيد، ويتدخل وايزمان ليهدد خليل قائلا بأنه سيضطر إلى طرح الأمر على السادات.
وتتعثر الأمور نتيجة لموقف مصطفى خليل الوطني.
ثم يجيء وايزمان مرة ثانية لمصر لإعداد زيارة سوف يقوم بها بيغين نفسه لانتزاع مكاسب جديدة لإسرائيل، ويلاحظ خليل أن الوزير الإسرائيلي تفاداه تماما وذهب للقاء السادات في أسوان، استراحة الرئيس، وبدون المرور بالقاهرة للالتقاء به، ولأن أمورا كهذه لا يمكن أن تجري إلا باتفاق بين الطرفين يفهم خليل أن رئيسه تخلى عنه.
وهكذا كان الرئيس المصري أول من أهان مصر وأضاع حقوقها.
فهم مصطفى خليل، رئيس الوزراء المصري، بأن الرئيس السادات تخلى عنه عند اجتماع مجلس الأمن القومي المصري، فقد طرح السادات مشروعا يتضمن تزويد إسرائيل بالبترول، وتوصيل مياه النيل لإسرائيل، ثم كان البند الثالث المفاجأة هو حديث السادات عن “إلغاء” جامعة الدول العربية وإنشاء جامعة للشعوب بدلا منها، قائلا بأنه لم تعد هناك فائدة من هذه الجامعة، وأنه إذا أرادت بقية الدول العربية أن تتمسك بها فليأخذوها بعيدا عن مصر.
وقد يبدو طلب إبعاد الجامعة عن مصر كإرادة رئاسية مصرية، ولكنه كان في واقع الأمر طلبا أمريكيا إسرائيليا أوحِي به للسادات (عواصف ص 458) يستند إلى ادعاء أن الجامعة منظمة إقليمية قامت أساسا على استبعاد إسرائيل وحصارها، وبما أن السلام قادم فإن أي تنظيم إقليمي يجب أن يضم إسرائيل أيضا في إطار الشرق الأوسط.
وبالتالي فإن صراخ أجهزة الإعلام المصرية تنديدابقرار مؤتمر القمة العربي في بغداد نقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس لم يكن له مبرر، اللهم إلا تحريض الشعب المصري على بقية الدول العربية، “التي عزلت نفسها وهي تحاول عزل مصر”، طبقا لما واصل الإعلام المصري اجتراره عبر السنين، وبالطبع فإن قيادات الإعلام تسترت على حجم الاستجداء الذي قام به النظام بعد ذلك طوال عشرية كاملة لاسترجاع مقر الجامعة العربية إلى القاهرة، والذي كان من أهم من عملوا لتحقيقه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وتم ذلك عبر قناة قمة إسلامية.
ويحل كارتر بمصر، ويعطيه السادات تفويضا carte blanche)) في الوصول إلى حل يرتضيه مع بيغين، ثم يتوجه لمقابلة رئيس الوزراء الإسرائيلي في 10 مارس ليعرض عليه فكرة السادات بإمكان تطبيق الحكم الذاتي في قطاع غزة أولا، مع رغبة الرئيس المصري وضع ضباط اتصال مصريين في القطاع (رياض ص 522) ويرفض بيغين هذا بشكل قاطع، فإسرائيل تتصرف على أساس أن الرئيس الأمريكي يحتاج إليها لكي ينجح في انتخابات الرئاسة القادم أكثر مما تحتاج إسرائيل إليه لتوقيع معاهدة سلام مع مصر، ويقول ويليام كوانت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أدرك أن الأمر كله أصبح في يده، فكارتر مفوض من السادات وهو في حاجة لاتفاق يُحسّن فرص انتخابه.
وعندما يعود الرئيس الأمريكي إلى مصر يوم 13 مارس ليعرض ما توصل إليه مع بيغين يقابله السادات في مطار القاهرة بقوله، كما يروي كارتر في مذكراته : إن شعبي في مصر غاضب للطريقة التي عامل بها الإسرائيليون “صديقنا” كارتر، ويصفعه الرئيس الأمريكي بالقول : لم تكن معاملتهم سيئة لي (وبالعربية الفصحى .. وانت مالك، واشْ دخلك).
ويُعلق محمود رياض قائلا : لا أعتقد أن مواطنا مصريا قد غضب للطريقة التي عامل بها بيغين الرئيس كارتر طالما أنه قبل المهانة له ولبلده، وتراجع، بأمل عهدة رئاسية ثانية، عن تعهداته السابقة خدمة لإسرائيل، التي لا يستطيع اقتصادها أن يبقى متماسكا شهرا واحدا إذا تخلت عنها واشنطن.
ويُبلغ كارتر السادات بأن اتفاقية السلام المطروحة هي أفضل ما يمكن الوصول له، ولم يكن أمام الرئيس المصري إلا الموافقة على شروط بيغين، فلم يعد يملك رفض ما توافق عليه واشنطن بعد أن ربط سياسته بسياسة العاصمة الأمريكية، وهكذا يقول لكارتر أنه يُوافق على كل شيء من أجله هو وليس من أجل بيغين، وهو التعبير الذي سيردده غالي ورفاقه في الخارجية المصرية على سبيل النكتة مرددين، بمناسبة وبغير مناسبة : علشان كارتر.
وكان أخطر ما قام به كارتر، وبالإضافة إلى تعهده بإمداد إسرائيل بالبترول لمدة عشرين سنة، تقديمه لمذكرة تفاهم بين الحكومة الأمريكية وإسرائيل، تلتزم فيها واشنطون باتخاذ التدابير التي تراها مناسبة في حالة انتهاك معاهدة السلام، وتتعهد بتأييد الإجراءات التي تتخذها إسرائيل في هذه الحالة، كما التزمت بأن تعارض وتصوت ضد أي قرار أو إجراء تتخذه الأمم المتحدة إذا كانت له آثار معاكسة على اتفاقية السلام، وبالطبع فإن الذي يحدد ذلك هو الطرف الإسرائيلي.
ومعنى هذا، كما يقول فهمي ويؤيده غالي، بأن واشنطون قبلت وجهة النظر التي تذهب إلى أن انتهاكات المعاهدة لا يمكن أن تكون إلا من مصر.
ويُدرك المفاوض المصري ورئيس الوزراء خطورة الالتزام الأمريكي مع إسرائيل ويرفض ذلك في رسالتين بعث بهما إلى وزير الخارجية الأمريكي سيروس فانس، وينبه الرئيس المصري لخطورة الأمر، ولكن السادات، كما يُقال، سرقته السكين، ولم يُبدِ كما توقعتُ، طبقا لتعبير بطرس غالي : *أي اهتمام بما قاله له رئيس وزرائه، فبالنسبة للسادات (غالي ص 204) لم يكن ليستطيع أن ينقص من سحر الاحتفال الذي سيجري في الساعات القادمة*.
ويتجاهل فانس الرسالتين على أساس أنهما تعكسان وجهة نظر مصطفى خليل الشخصية.
وتوقع معاهدة السلام، كما أسميت، في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض يوم 26 مارس 1979، حيث كان هنري كيسنجر يجلس بجوار بطرس غالي، مدعوّا له كالآخرين، ويورد غالي ردّ فعل كيسنجر، نقله له فيما بعد السفير الأمريكي في مصر هيرمان ايلتس، ويتساءل الوزير السابق بصوت عالٍ: لماذا وقع السادات على هذه معاهدة ؟ لقد كان بوسعي أن أحصل له على ما هو أكثر كثيرا.
ولم يقل غالي بأن كيسنجر لم يكن أقل خداعا للسادات ممن تعاملوا معه بعد ذلك، لأن هدفهم جميعا كان خدمة إسرائيل، لكنه يضيف تعليقا آخر بالغ الأهمية، يُبرز سبب انتكاسة الموقف المصري، فهو يقول تعليقا على الحفل قائلا : حزّ في نفسي أن أدرك، عندما ظهر بيغين ودايان وكيسنجر على شاشات التلفزة، أننا، نحن المصريين، لا ننتمي إلى النادي، وكنا كمن ينظر إلى الأحداث من الخارج (أي أنه لم يكن يعرف جوهر ما كان يحدث في الواقع).
ويحدث أمر أخر يؤكد وطنية المفاوض المصري الذي لم ينجح السادات في الاستفادة منه، وكان ذلك عندما قرر خليل نشر الخطابين اللذين اعترض بهما على الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي، ربما تسجيلا تاريخيا للمواقف، ويروي غالي ما حدث قائلا بأنه، وللمرة الأولى، يفقد فانس أعصابه ويرتفع صوته قائلا : هذان الخطابان وثائق سرية وليسا للنشر.
ولم ينشر الخطابان لأن الرئيس المصري لم يسمح بذلك، ويقول غالي : لم أكن وحدي الذي يشعر بأن إسرائيل هي الرابحة ومصر هي الخاسرة في تلك المعاهدة (ص 208) ومع ذلك استقبل الأمر في القاهرة بالأهازيج، وروّج الإعلام المصري فيما بعد لأسطورة الادعاء بأن : “السادات ضحك على بيغين وخدعه”، وهو ما ردده يوماجنرال عضو في مجلس الشعب بدون خجل ولا وجل.
ويُعطي غالي صورة عن الترحيب بالمعاهدة، تطبيقا للتعليمات بالطبع، فيقول إنه أقيمت حفلة ساهرة بقصر القبة بمناسبة زيارة مناحم بيغين للقاهرة، وكانت المجموعة الإسرائيلية تجلس في جانب والمجموعة المصرية تجلس على الجانب الآخر، وبدا وكأن سورا خفيا يفصل بينهما (..) وأنقذت الموقف السيدة فايدة كامل، عضو مجلس الشعب وصاحبة الأغاني الثورية المعروفة التي تغنينا بها سنوات وسنوات، لتقول بصوت عالٍ … أن أولئك هم ضيوفنا وعلينا أن نتحدث معهم ونرحب بهم، وبطريقة مسرحية عبرت السور الخفي (..) ولم تعد أي من المجموعتين هي “الآخرين” بعد ذلك (في تذكير لغالي برواية جان بول سارتر : الجحيم هو الآخرون.).
ويواصل غالي روايته [ص 210.] قائلا : “وصل السادات ومناحم بيغين (..) وجلس الرئيسان وقرينتاهما إلى مائدة ممتدة (..) وجلستُ إلى مائدة مع (..) نسيم جاعون، المليونير الإسرائيلي السوداني الأصل، وكان إبان ” ثورة الاشتراكية المباركة ” (والمقصود ثورة يوليو، والمفروض أنها هي مرجعية رئيس الجمهورية التاريخية، ووضع غالي الكلمات الثلاث بين مزدوجين، وعنصر التعريض واضح) كان غادر الخرطوم إلى المهجر في أوروبا حيث ضاعف ملايينه عدة مرات (..) وكنتُ في نفسُ هذا اليوم قد أصدرت بيانا بأن القرار المتخذ في بغداد بنقل مقر الجامعة العربية من القاهرة ينتهك ميثاق الجامعة العربية ويعتبر لا غيا وكأنه لم يكن (..) كما أعلنتْ مصر الاحتفاظ بالوثائق، وتجميد حسابات الجامعة العربية المصرفية في القاهرة”.
إلى هذه الدرجة وصل العبث الديبلوماسي المصري، حتى بحسابات الدول المصرفية.
ويستكمل غالي : “وفي اليوم التالي (..) وحال خروجه من الصالون حيث أمضى ساعة وحده مع السادات، قام بيغين بتحيتي بصوت عالٍ وعلى مسمع من الصحفيين، وقال : ها هنا صديقي بطرس الذي سيأتي في الأسبوع القادم إلى القدس ليشارك في احتفال تبادل وثائق التصديق مع زميله موشيه دايان، وفاجأني هذا النبأ وغاص قلبي، واتصلت هاتفيا بالدكتور مصطفى خليل لأقول له : يبدو أن الرئيس قد وافق على استكمال تبادل وثائق التصديق في القدس، وإذا ما حدث ذلك فإنه سيعني اعترافا من مصر بأن القدس هي عاصمة إسرائيل، وهذا الأمر يتعارض مع موقف المجتمع الدولي كله، فحتى الولايات المتحدة لم تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل (..) واتصل مصطفى خليل بالرئيس وأقنعه بأن يتم التبادل في واشنطون أو في سيناء (..) وتحدث بيغين عند مغادرته مصر معي ليفهمني أنهم أبلغوه باعتراضي، فقد قال مبتسما : بالرغم من اعتراضك فإنني أدعوك للقيام بزيارة رسمية لإسرائيل وللقدس″
والسؤال الذي يطرح نفسه : من أبلغ بيغين بأمر حدث بين ثلاثة أشخاص، ومن المؤكد أنه لم يكن بطرس غالي، ولا يتصور إنسان أن يكون هو مصطفى خليل.
ويواصل الإعلام المصري الادعاء بأن السادات ضحك على بيغين، والمؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان يقرأ ذلك ويضحك بصوت عالٍ وهو يُعلق عليه مع مساعديه.
ولم يكن الرئيس السادات يملك شجاعة الاعتراف لشعبه، كما يقول إسماعيل فهمي بأنه تحرك نحو سلام منفرد مع إسرائيل، وبأنه تخلّى عن القضية العربية، وهكذا عمد إلى استخدام آلة الدعاية المصرية القوية لإقناع مواطنيه بأنه يسير في أفضل طريق، وبأن ‘الدول العربية هي المُخطئة (..) فعلى مدى ثلاثين عاما ضحّت مصر بأبنائها ومواردها (..) لخدمة القضية العربية لكنها لم تجنِ شيئا (..) وكان السادات حريصا على أن يُخفي عن الشعب المصري حقيقة السلام الذي يدور في ذهنه (..) والمصريون بالسليقة لينو العريكة ولديهم الاستعداد لاتباع قادتهم” (ص 344)
ووزير الخارجية المستقيل، هو من خيرة الديبلوماسيين الذين لم يترددوا عن كشف الحقائق للشعب المصري الذي خدع في السادات، لكن نجاحه كان محدودا ومقصورا على شرائح مثقفة نخبوية التأثير، في مواجهة ترسانة الإعلام الهائلة، التي استطاعت أن تنمي لدى الشعب إحساسا متعصبا بالإقليمية، أو الشوفينية، محاطة بغلاف من البارانويا التي أقنعت الناس بأنهم محاطون بإخوة أعداء، يلتهبون بالغيرة منهم ومن حضارتهم ومن تاريخهم ومن وجودهم العالمي، ويريدون أن يقاتلوا إسرائيل حتى آخر جنديّ مصري !!.
لكن الشعب المصري، وبعيدا عن عمليات استثارة ظرفية لجأ لها نظام الحكم، كان بالغ الذكاء شديد الإحساس بما يدور حوله، ولعل من أوضح الأدلة على ذلك فشل سياسة التطبيع التي وضع النظام كل ثقله لإنجاحها، وهو ما اتضح بجلاء في اللامبالاة الشديدة التي استقبل بها الشعب مصرع السادات (فهمي ص 345) فيما بدا وكأنه محاولة متعمدة لتناسي أن السادات كان موجودا، وهكذا كان التعليق على جنازته بأنها كانت جنازة “خواجات” لأن معظم من ساروا وراء النعش كانوا فعلا خواجات.
ويُحلّلُ فهمي السلام الذي ادعى السادات أنه حققه فيقول بأن قضية الحكم الذاتي للفلسطينيين كان مجرد تنازل وهمي من الإسرائيليين، حيث أن ما قبله السادات في كامب دافيد كان مطابقا للخطة التي كان بيغين قد عرضها على كارتر ثم على السادات في الإسماعيلية عام 1977.
وإذا كان السادات لم يحصل على شيء بالنسبة للفلسطينيين فإنه لم يحصل على شيء ذي بال لمصر نفسها، فهو لم يستعد سيادتها كاملة على سيناء لأن بنود المعاهدة وضعت بشكل يمنعها من ممارسة سيادتها كاملة، رغم أنها دولة عضو في الأمم المتحدة وفي كل المنظمات الإقليمية، وهي البلد الوحيد في العالم الذي يربط حق المرور عبر حدوده باتفاقيات مع عدوّ الأمس ومع الرباعية، في حين أن السيادة هي كالعذرية، تكون أو لا تكون.
وتولت مصر مهمة الدركي لحماية إسرائيل، وأصبحت الصحف المصرية تنشر أسبوعيا أخبارا عن قتل أفارقة كانوا ينوون التسرب إلى إسرائيل، وهم يُقتلون برصاص مصري بدلا من أن تتولى ذلك إسرائيل وعلى أرضها. ولا حديث عن السياحة الإسرائيلية في سيناء، التي يدخلها الأصدقاء الجدد بدون تأشيرة.
ولقد وقع السادات وثيقة وضعت شروطا قاسية على مدى تحرك الجيش المصري وحجم قواته في شبه الجزيرة ( فهمي ص 346) أما بالنسبة لمنافع السلام فالمعاهدة ليست إلا صفقة منفردة وغير متوازنة بين مصر وإسرائيل، تعطي لإسرائيل كل المزايا، وبالرغم من أن عدد مواد المعاهدة خفض إلى تسع مواد فقد ضم ملاحق كبيرة، تشمل كل البنود التي كانت موجودة في المشروع الإسرائيلي الأصلي.
وأحاول إلقاء نظر سريعة على المعاهدة التي كانت في واقع الأمر نوعا من عقود الإذعان، وكان المؤمسف أن أشقاء كثيرين هناك مازالوا يتغنون بفضائلها.
http://www.raialyoum.com/?p=350006