كشف مايك هرارى، رئيس قسم العمليات الخاصة "قيسارية" ووحدة الاغتيالات "كيدون" فى جهاز "الموساد" الإسرائيلى والمعروفة باسم "قيسارية" عدد من الأسرار حول طبيعة عمل تلك الوحدة والعمليات التى قامت بها ضد شخصيات ورموز عربية داخل الدول العربية، وبعض الدول الأوروبية، وذلك خلال حوار مطول أجراه مع صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية.
وقال الكاتب الصحفى الإسرائيلى رونين بيرجمان، فى مقدمة الحوار الطويل الذى أجراه مع هرارى قبل صدور كتاب يروى سيرته الذاتية وعمله فى جهاز الشاباك، ثم الموساد: "فى أروقة الموساد يذكرون اسم مايك هرارى باحترام كبير، فهذا القائد الأسطورى هو الذى أقام قسم العمليات الخاص (قيسارية)، وأقام وحدة (كيدون) لتنفيذ الاغتيالات، وهو المحارب الذى شارك فى عمليات تقشعر لها الأبدان، كاغتيال خاطفى الرياضيين فى ميونخ، وعملية ربيع الشباب فى بيروت، وعملية عنتيبى، وهو الشخص الذى شكل إلهاما لعشرات الأفلام السينمائية فى هوليود، والكتب والبرامج التليفزيونية"، على حد قوله.
وأضاف بيرجمان أن هرارى نفذ وخطط عددا من عمليات اغتيال لشخصيات عربية وفلسطينية، كان من بينهم الأديب الفلسطينى غسان كنفانى، إضافة إلى التخطيط لاغتيال زعيم عربى، وهى الخطة التى أوقفتها رئيسة الحكومة الإسرائيلية جولدا مائير، فى حينه خشية أن تؤدى إلى التعرض لمسئولين إسرائيليين كبار.
وسرد هرارى خلال اللقاء كيف استدعاه رئيس الموساد، فى حينه، إيسار هارئيل، فى مطلع الستينيات وأبلغه بالعملية ذات الخطورة البالغة التى سيرسله إليها، وإنها ستتم فى أعماق إحدى دول المواجهة، وإنه يبحث عن متطوعين لأداء المهمة.
وقال هارئيل لهرارى: "إذا تم القبض عليك فإنه يمكن لله فقط إنقاذك"، فيما رد هرارى حينها أنه وافق على الانضمام لأن الشخص المستهدف شكل خطرا كبيرا على إسرائيل، ولم تكن المرة الأولى التى يطرح فيها اسمه، فلقد سبق للموساد أن ناقش عدة مبادرات لاغتياله.
وأضاف رئيس وحدة الاغتيالات فى الموساد الأسبق للصحيفة العبرية، أنه لم يشكك بمهنية مجلس الحكماء بالموساد الذى يجلس ويتخذ القرارات الصحيحة دون أى علاقة بموقفه شخصيا من الموضوع، وباستثناء ذلك اعتبر أن الشخص المستهدف يستحق الاغتيال، ولم يتقرر عبثا الحكم عليه بالموت، فمنذ ولادته وهو يتسبب بالمشاكل لإسرائيل، وشكل خطرا مباشرا وواضحا على أمنها.
وأضاف هرارى أن الموساد تلقى معلومات تفيد بأن المستهدف سيقوم بزيارة بلد إسلامى، وكان من المخطط تنفيذ العملية على أيدى قناص من إحدى العمارات المجاورة للشارع الذى كان يفترض أن يمر به موكب المستهدف، وكانت مهمة هرارى تهريب بندقية القناص إلى الدولة الإسلامية، والانضمام إلى وحدة القناصة خلال التحضير للعملية، وقد تقمص هرارى فى حينه شخصية رجل أعمال يصل إلى ذلك البلد فى إطار عمله، ودبر لنفسه شهادة مؤهل لتعميد المسيحيين، وحصل بموجبها على جواز سفر أجنبى وتأشيرة دخول إلى البلد المعين، وتسلم هرارى الحقيبة التى كان يفترض أن يخبئ فيها بندقية القناص، لكنه توصل إلى خطورة ذلك، وقرر إدخال البندقية بشكل علنى، وعليه غير الخطة وتقمص هوية ثرى مدلل خرج فى رحلة صيد فى ذلك البلد الإسلامى، وتحضيرا لذلك قام هرارى وزوجته بجولة فى المتاجر الراقية فى باريس، واشترى تسعة حقائب جلدية ثمينة وبدلات اعتيادية وبدلات للصيد، وتم وضع البندقية فى إحدى الحقائب بشكل علنى، بعد معايرتها من قبل خبراء إطلاق النيران فى الموساد.
وفور هبوطه فى البلد الإسلامى سارع هرارى إلى استئجار حمال لنقل حقائبه، الأمر الذى منحه احتراما كبيرا كما يقول، إلى حد أن رجل الجمارك لم يفتح الحقائب لفحصها، وسمح لهرارى بالدخول مع البندقية، ولكن لخيبة أمل هرارى وفريق الاغتيال، تقرر فى اللحظة الأخيرة تغيير مسار الشخص المستهدف.
وقال هرارى: "لو تمكنا من قتله لكنا قد وفرنا الكثير من وجع الرأس على أنفسنا"، فيما أوضح محرر الصحيفة أن الفرصة سنحت ثانية بعد عشر سنوات، عندما أصبح قائد وحدة "قيسارية"، وخطط لاغتيال الشخص ذاته الذى وصفه بـزعيم "المخربين"، مشيرا إلى أن هذا المصطلح كانت تطلقه إسرائيل على ياسر عرفات.
وقال هرارى إن الفرصة تولدت فى عام 1970، حيث تم الاتفاق على قيام القناص بإطلاق النار على المستهدف خلال مشاركته فى حدث جماهيرى، ووصل ورجاله إلى البلد المستهدف عدة مرات من أجل التخطيط للعملية، وكان كل شىء جاهزا، إلا أن رئيسة الحكومة فى حينه، جولدا مائير، لم تصادق على تنفيذ العملية، خشية أن تؤدى إلى التعرض لمسئولين إسرائيليين كبار.
وطلب هرارى المصادقة على خروج المجموعة كما خطط لها، لتنفيذ عملية وهمية لا يتم خلالها إطلاق النار، قائلا: "إن المجموعة وصلت إلى المكان المحدد، وكان الشخص المستهدف على فوهة البندقية لكنه لم يتم اغتياله.. ويشير إلى أن الشخص مات موتا طبيعيا فى وقت لاحق".
وتحدث هرارى عن الأهداف التى حددها لنفسه بعد تسلمه لقيادة "قيسارية" فى الموساد، فى عهد تسفى زامير، قائلا: "إنه حدد 4 أهداف وهى جمع المعلومات فى البلد المستهدف، وتحضيرا للعمليات، والقيام بعمليات تفجير وإصابة، وتنفيذ المهام الخاصة كتهريب المخطوفين عبر الحدود".
وأضاف الصحفى الإسرائيلى الذى أجرى الحوار، أن "قيسارية" واصلت العمل تحت قيادة هرارى فى الدول العربية، ونفذت عمليات مختلفة، وفى إحداها، مثلا، تم شل شحنة من السيارات العسكرية للجيش المصرى بطريقة خاصة من خلال سكب السكر فى المحركات، موضحا أن هرارى ركز جل اهتمامه على التحدى الجديد الذى ظهر فجأة على عتبة جهاز الاستخبارات وهى حركة فتح وبقية التنظيمات الفلسطينية.
وقال هرارى خلال الحوار: "قررنا تغيير الطريقة، والانتقال إلى محاربة المقاومة، ولم يكن لدى ما يكفى من المحاربين الأكفاء لملاحقة عناصرها، ولا أسلحة ملائمة، وفى إحدى المرات تلقينا معلومات ليست كافية حول مكتب معين فى بيروت قيل إنه مقر لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وقام محاربو قيسارية بتوجيه 4 صواريخ من نوع آر بى جى، هى كل ما كانت تملكه، وتوقيت انطلاقها بشكل أوتوماتيكى، وهربوا من المكان".
وأضاف هرارى: "اتضح فى نهاية الأمر أن المكتب كان إداريا، وأصيبت جراء العملية عدة سكرتيرات واحترقت بضع أوراق فقط، وبعد ذلك بوقت قصير فجر رجال "قيسارية" فى بيروت الأديب الفلسطينى غسان كنفانى، الناطق بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ردا على عملية اللد".
وأوضح هرارى أنه فى ذلك الوقت بدأ تنفيذ ما يعرف اليوم داخل أروقة جهاز الموساد باسم "الإحباط المركز"، وهو اغتيال الشخصيات المسئولة عن العمليات المسلحة ضد إسرائيل، وكان أحد الأهداف قائد العمليات فى الجبهة الشعبية وديع حداد، وفى البداية قام رجال قيسارية بتفجير مدير مكتبه، وخططوا بعد ذلك لاغتياله فى منزله.
وقال هرارى: "ولكن ما العمل إذا كان البيت يتألف من غرفتين، إحداهما صالون وفى الثانية جلست امرأة وطفلتها، لقد أمرت جولدة بعدم المس بشعرة أى برىء، وإلا لكنت قد شطبت الطابق كله، وما حدث هو أن عميل الموساد صوب الصاروخ إلى الغرفة التى جلس فيها حداد، وقام بتوقيت إطلاق النار، ولكن حداد انتقل قبل لحظة من العملية إلى الغرفة الثانية ونجا".
وأضاف هرارى أن مثل هذه المصاعب جعلته يفكر بإنشاء قوة تختص بعمليات الإصابة، فتولدت الوحدة الخاصة "كيدون".
وقال رئيس وحدة الاغتيالات سابقا: "إن فى الجهاز السياسى فى تلك الأيام كانت شخصيات ضغطت على الموساد كى ينتهج سياسة العين بالعين، فإذا كانوا يفجرون لنا حافلة فى القدس يجب تفجير أربع حافلات فى بيروت أو القاهرة، سيما أنه كان يمكننا أن نفعل لهم ما يفعلوه لدينا، فى القاهرة وعمان ودمشق وفى كل مكان"، مضيفا أنه بعد مقتل الرياضيين الإسرائيليين فى ميونخ، أمرت جولدة هرارى بالخروج فى حملة اغتيالات مترامية الأطراف فى أوروبا.
وقال هرارى: "إن أسماء العمليات كانت تختلف تماما عما أعلن فى حينه كـ"غضب الله" و"سيف جدعون"، حيث تم اختيار الأسماء من أسماء موظفات الموساد وأسماء أخرى تافهة، كما أن حكاية إنشاء محكمة وإجراء مداولات ومحاكمة المستهدفين فى غيابهم لم يحدث بتاتا، ولم يتم إقامة وحدة إكس السرية، فكل ما حصل هو أن جولدة ضمت إليها عدة وزراء لاتخاذ القرارات المتعلقة بالاغتيالات"، موضحا أنه كان المستهدف الأول عادل وائل زعيتر، ممثل حركة فتح فى روما.
ولفتت يديعوت إلى أن هرارى يحتفظ حتى اليوم بالمسدس الذى استخدمه لاغتياله، وخلال أقل من سنة اغتالت "قيسارية" 14 شخصية، وكان يمكن للعمليات أن تستمر لولا الإخفاق الذى حصل فى بلدة ليلهامر النرويجية فى سبتمبر 1973، وكان المستهدف على سلامة الذى ادعى الموساد أنه قائد "ايلول الأسود"، لكن المجموعة أخطأت فى تشخيص الهدف وقتلت الشاب أحمد بوشيقى، المغربى الذى كان يعمل نادلا. وفى أعقاب ذلك تم اعتقال ستة من رجال الموساد فى النرويج.
وقال هرارى عن تلك الحادثة: "إن رأى الأغلبية أقر بأن الشخص الذى شوهد كان حسن سلامة، فيما قال البعض إنه ليس هو، ولكن الأغلبية تقرر حتى إذا كنت تعتقد أن الشخصين لا يتشابهان بتاتا، وهذا هو الخطأ الأول الذى وقع فيه رجال الموساد.
أما الخطأ الثانى الذى رافق العملية حسب هرارى فيتعلق بالانسحاب من المكان. لقد كان من المقرر أن يقوم أحد رجال الموساد الذى شارك فى العملية بإلقاء مفاتيح السيارة المستأجرة التى استخدمت لتنفيذ العملية، والعودة إلى مسكنه فى القطار، لكن رجل الموساد قرر إعادة السيارة إلى الشركة، وهناك كان ينتظره رجال الشرطة، لأن شاهدة عيان سجلت رقم السيارة. وتم اعتقال رجل الموساد، وقاد الشرطة إلى المسكن فاعتقلت الجميع.
وكشف هرارى فى نهاية اللقاء أن ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد كانوا أهدافا مركزية لوحدة "قيسارية" طوال الوقت، مضيفا: "أحضرنا معلومات دقيقة حول أماكن تواجدهم، لكن سلاح الجو كان يصل متأخرا لبضع دقائق".