في الحلقة السابقة تم مناقشة فلسفة الهجوم الجوي الذي قرر التحالف شنه على العراق. و كيف ان الاستراتيجية هي التركيز على مفاصل الدولة و حرمان الجيش العراقي من التموين و ضرب مرافق الدولة قبل ضرب الجيش. و كيف ان ضربة الافتتاح اشتملت على ضرب محطة الرادار المبكر غرب العراق و عدة اهداف استراتيجية باستخدام صواريخ توماهوك و طائرات الشبح. و هذه الضربات بطبيعة الحال تمثل ما يقارب من شكة الدبوس لدولة كبيرة و جيش كبير كالجيش العراقي. و كان كل افراد الدفاع الجوي العراقي - و اﻷمريكي - ينظرون بمشاعر متضاربة نحو كم الطائرات الهائلة التي تبدو متجهة نحو العراق و الظاهرة على شاشات الطرفين! اسراب كاملة من طائرات F15 و F16 و F-18 و B52 و F111 و A6 و التورنيدو بمجموع الف طائرة في ذلك اليوم العصيب. تساندها 4 طائرات اﻷواكس و 180 من طائرات التزويد بالوقود الموجودة فوق الأراضي السعودية. كانت مطارات العربية السعودية مزدحمة لدرجة انه لم يكن هناك مجال لاقلاع قاذفت البي-52 منها. و بالتالي كانت تقلع من جزيرة دييغو غارسيا، او اسبانيا، او حتى امريكا نفسها. الصورة ادناه توضح كيفية تجمع الطائرات المقاتلة و القاذفة و تزودها بالوقود قبل التوجه لتنفيذ مهامها (من غارة يوم 3 ايام القصف الجوي)
هذه "الارمادا" من الطائرات كانت تهدف الى:
1- ضرب المزيد من اﻷهداف الاستراتيجية: وزارة الدفاع، مقر الحاسوب المركزي التابع لوزارة الدفاع، مقرات قيادة القوات الجوية، مقرات قيادة الحرس الجمهوري، القصر الجمهوري الجديد، الخ
2- اكتساح منظومة الدفاع الجوي العراقي.
3- صيد الطائرات المقاتلة العراقية التي قد تخرج لاعتراض الطائرات المغيرة (أوكلت هذه المهمة لطائرات F15C التابعة للسرب 53 التكتيكي و تم منع طائرات البحرية اﻷمريكية من طراز F14 من المشاركة في هذه المهمة بسبب ضعف قدراتها على التمييز بين الطائرات الصديقة و العدو من مسافة بعيدة، و هو مثال من قصص كثيرة عن الاحتكاك بين افرع الجيش اﻷمريكي).
4- ضرب صواريخ سكود الموجودة غرب العراق و الغاء تهديدها لاسرائيل.
5- "زيارة" فرق الحرس الجمهوري المدرعة و ضربها.
و كما يعرف اي متابع، فهذه اكثر مراحل العمل الجوي حراجة: فشبكة الدفاع الجوي لا تزال متكاملة، و احتمال حصول الاخطاء من قبل القوات المغيرة كبير. و حتى العمليات العسكرية الناجحة مثل حرب 1967 للجانب الاسرائيلي و غزو النورماندي تم فيهما خسارات كبيرة في سلاح الجو في اليوم الأول (40 طائرة اسرائيلية و 117 طائرة لغير الحلفاء على الترتيب). و اي "مذبحة" لسلاح الجو قد تنعكس على المزاج الشعبي اﻷمريكي المتردد اصلا في خوض الحرب و قد تدفع شوارتزكوف لهجوم بري مبكر.
اضافة لذلك ان الغارة ليلية. و الطيران الليلي اخطر نسبيا من طيران النهار حتى في المراحل التدريبية. و تجد انه حتى في جيش متقدم كالجيش اﻷمريكي يكون هناك اقتصاد في التدريب الليلي. و نضيف لذلك ان الكثير من الطيارين (و بعضهم طار اكثر من 2000 ساعة) يخوض معركة بهذا الشكل ﻷول مرة. و كان الاتفاق ان يتم تقسيم السرب لنصف نهاري و نصف ليلي. و صارت مشكلة كبيرة كون السرب الليلي يعني ان تكون يقظا في الليل و تنام - و هنا المشكلة - في النهار وسط ضجيج القاعدة الجوية. و صار الطيارون يلجأون للعقاقير المنومة و المنشطة لدرجة ان طبيب السرب نبه القائد لهذا و تم منعها باﻷمر العسكري و مع تكثيف التدريب قبل الهجوم بدأت الاحتكاكات تزداد بين الطرفين.
و بالعودة للمعركة الجوية، فبعد ضرب الرادار المبكر غرب العراق، فقد فتحت ثغرة عرضها 30 كم في نظام الانذار العراقي. مما افقد العراقيين القدرة على التصرف المسبق امام اي تهديد قبل دخول المجال الجوي العراقي. عموما فقد انتبه ضباط الرادر العراقيون لما يشبه السرب من الطائرات المغيرة على شاشة الرادار. و تم فتح رادارات التتابع - و التي تكون مقفلة خوفا من كشفها و استهدافها - من اجل اسقاط هذه الاهداف. و شعر العراقيون بالفرح عندما بدأت التقارير عن اسقط عدة اهداف بصواريخ السام بكفاءة ممتازة.
هذا الفرح و الاحتفال لم يطل طويلا، فقد تبين ان هذه الاهداف لم تكن طائرات، بل كانت درونات! فقد استخدم اﻷمريكيون طائرات بدون طيار من طراز BQM-74 و التي كانت مبرمجة لتطير اليا نحو بغداد و تزويد جسمها بعواكس تجعلها تبدو بحجم الطائرة على الرادار. و على مسافة 3 دقائق خلفها كانت 70 طائرة تطير و تنتظر ان يفتح العراقيون راداراتهم لاستهدافها مباشرة. و كانت هذه القوة تطير تحت الصمت الراداري حتى لا تنكشف الخطة باستثناء كلمة السر (ماغنوم) لاطلاق صواريخ الهارم (استخدم البريطانيون نظام اكثر تطورا اسمه ALARM). و باطلاق 200 صاروخ تم تعيينها على الرادارات العراقية بعد كشفها بهذا الشكل المخزي تم تحييد الدفاع الجوي العراقي الذي كلف المليارات و سنوات من التجهيز. و صار للعراق بطاريات سام و مضادات طائرات تعمل بشكل مستقل و منعزل مما اضعف الدفاع الجوي كثيرا.
المحزن في اﻷمر ان الاسرائيليين استخدموا نفس اﻷسلوب بالضبط عام 1982 لتدمير الدفاع الجوي السوري في البقاع. فكيف فات على العراقيين تعلم العبر من ذلك الهجوم؟ و حتى لو قلنا ان العداوة بين الطرفين منعت ان يرسل العراقيون وفدا للاطلاع على دروس المواجهة (كما تفعل الجيوش المحترمة) الم يكن من الممكن تعلم هذه الدروس من الروس أو حتى من خلال الرصد و التجسس؟ فعلا امر محزن ان الدفاع الجوي لجيش عربي قوي تم تكسيحة للمرة الثالثة خلال ساعات في 25 عام. مرة لمصر و مرة لسوريا و مرة للعراق.
و لم تنته غارات تلك الليلة بعد، فبعد الهجوم اﻷول بطائرات الشبح (و الذي تم ايضا بصمت راداري كامل) اتت موجتان اخرتان: اﻷولى من 8 طائرات و الثانية من 12 طائرة. و الاهداف كانت مشابهة للضربة الشبحية اﻷولى: مقرات الدفاع الجوي و القواعد الجوي و المقر الرئاسي في ابو غريب و مواقع كيماوية و مخازن سلاح. و قد استخدم العراقيون المدفعية المضادة و الصواريخ بدون اي تقييد. و كانت تعبيرات الصدمة ظاهرة على وجوه طيارين الشبح و هم يطيرون بين الحياة و الموت بين نيران المدفعية المحيطة بهم من كل جانب دون ان تراهم (البصمة الرادراية للشبح قد تظهر على شاشة الرادار للحظات قبل ان تختفي) و كان من الصعب في هذه الظروف تأمين عشر ثوان من الطيران الثابت لتوجيه قنابل الليزر اﻷمر الذي جعل دقة اﻹصابة اقل من 50%. و لنا ان تخيل المشهد لو عرفنا ان كل طائرة في السرب عادت لقواعدها و هي تظن انها الوحيدة التي نجت في ذلك اليوم العصيب! لكن الحظ كان الى جانبهم و لم يخسر الامريكان اي طائرة شبحية في تلك الليلة. بل من الف غارة في ضربة الافتتاح فقد اﻷمريكيون طائرة واحدة فقط و كانت من طراز F18 ، نجح طيار Mig25 عراقي بالتسلل بين نطاق تغطية طائرتي اواكس (و كل طائرة ظنته يتبع قطاع الثانية و لمح اطلاق صاروخ هارم و تمكن من اصطياد الطائرة المطلقة. و هذه كانت اكبر فرصة للعراق في ايذاء العدو و قد ضاعت.
جاء بعدها دور ال B52. و كانت اول غارة لهذه الطائرة الفذة منذ حرب فيتنام. تم تكيفها بضرب 4 مطارات و قام البريطانيون بضرب مطاري الأسد و التقدم. البحرية الأمريكية ضربت منشأة تصليح للمقاتلات العراقية و قامت طائرات A-6 بضرب منشأة سكك الحديد في البصرة، و قامت قوات الجيش و البحرية و القوات الجوية السعودية بضرب مطار الشعيبة في الكويت (مجموع 38 طائرة) و قامت طائرات F111 بضرب مخازن الكيماوي قرب قاعدة ال H3 و سلمان باك و الديوانية. و تم ضرب ابراج التحكم في مطارات الجلبة و بلد في جنوب العراق و مطارات على سالم و احمد الجابر في الكويت. عموما انتهت اكبر غارة جوية في تاريخ الجيش الامريكي و خلال يوم و بعض يوم، هوجم العراق بغارات جوية اكثر مما هوجم طوال حربه مع ايران. و كان وزن القذائف حوالي 2.5 مليون طن.
طبعا الجانب اﻷمريكي واجه مشاكل كثيرة بدوره: قنابل لم تنطلق، طائرات عادت بسبب اعطال، نسبة اصابة ضعيفة بسبب المقاومة العراقية او اخطاء الطيارين. اخطاء الطيارين في التعامل مع الدفاع الجوي العراقي (اطلاق فلاشات التموية الحراري لتحييد الصواريخ العراقية بشكل خاطئ اصاب بعض الطياريين بالعمى لعشرة ثوان كاملة كادت فيه طائراتهم ان تسقط!). و سقط للحلفاء 3 طائرات: بريطانية، و امريكية و كويتية!
و لكن هذا لم يغير الصورة كثيرا. مع اطلالة فجر 17 يونيو. كانت الحرب الجوية في حكم المحسومة و هي ثاني حرب يخسرها العرب في ضربة الافتتاح. و تبعات سوء التخطيط العراقي على المستوى العملياتي سوف يدفع ثمنها العراق جيشا و شعبا لخمسة اسابيع من القصف. من الرياض اتصل شوارتزكوف بكولين باول في واشنطن و قال له اﻷخبار الخارقة. و لكنه قال له: ننتظر رد الفعل العراقي. فماذا كان في جعبه العراق من سهام ليرد على الهجوم اﻷمريكي الكاسح؟ يتبع في الحلقة القادمة.
Crusade, Rick Atkenson