تُعتبر عملية البلوطة (Operation Oak) أو إغارة غران ساسو (Gran Sasso Raid) من أهم وأجرأ العمليات العسكرية الخاصة التي تم تنفيذها إبان الحرب العالمية الثانية. وهي العملية التي نجح فيها كوماندوس ألماني في تحرير رئيس الوزراء الإيطالي المُعتقل بينيتو موسوليني.
هتلر وضع الخطة
تكتسب هذه العملية أهميتها من عدة مزايا جعلتها فريدة من نوعها. فالزعيم الألماني أدولف هتلر وضع بنفسه الخطة وأشرف على التحضيرات بأدق تفاصيلها. الميزة الثانية تمثَّلت بهدف العملية، بينيتو موسوليني، أحد ألمع رموز الحرب. الميزة الثالثة كانت الجرأة المنقطعة النظير، فالوضع العام في إيطاليا كان قد أصبح غير ملائم للألمان والبيئة الموالية لهم تغيَّرت. أما الميزة الرابعة فكانت مستوى التنسيق العالي بين مصادر المعلومات والقوى المُنَفِّذة مما ساعد في خفض الخسائر للحد الأدنى.
ليلة 24-25 تموز 1943 صوَّت المجلس الأعلى للفاشية بحجب الثقة عن موسوليني وعزله، فاستبدله الملك فيكتور إيمانويل الثالث في اليوم التالي بالمارشال بياترو بادوغليو وأمر باعتقاله. شكَّل هذا التحول الدراماتيكي في السياسة الإيطالية صفعة قوية للألمان، ما دفع هتلر لبذل كل جهد ممكن في سبيل إفشال هذا التحول، وإعادة الأمور إلى سابق عهدها، خصوصًا وأن الحلفاء باتوا على الأرض الإيطالية وغاراتهم أضحت تطال العاصمة روما.
قرَّر هتلر إخراج موسوليني من الاعتقال وإعادته الى السلطة بأي ثمن، فبدأت التحضيرات بسرعة وسريّة خوفًا من تسليمه للحلفاء. لم يكن النظام الإيطالي الجديد بغافل عن النوايا الألمانية، لكنه كان عاجزًا عن الوصول إلى معلومات واضحة ودقيقة عن المخطط الألماني، ولتفادي المفاجآت تم تغييـر مكــان الاعتقــال أكثــر من مرة.
تولّى هتلر شخصيًا إدارة هذه العملية، ونظرًا إلى درجة تعقيدها وخطورتها، فقد حذَّره مستشاروه العسكريون بأن نسبة الخسائر قد تصل إلى حدود 80%. لهذه الغاية، وفي اليوم التالي أي 26 تموز 1943، أجرى هتلر بنفسه مقابلات مع ستة ضباط رشّحتهم القيادة العسكرية العليا لتنفيذ المهمة، وبنتيجة هذه المقابلات كلَّف النقيب أوتو سكورزيني من القوات الخاصة لمعاونة الرائد هارالد مورس بالتنفيذ تحت إشراف اللواء الطيار كيرت شتودنت.
على الأرض
في 27 تموز وصل شتودنت وسكورزيني إلى روما، وباشر الأخير على الفور عمليات استقصاء وتعقّب لمكان احتجاز موسوليني، مجنّدًا لذلك مجموعة خاصة من المخبرين المهرة. بداية تمّ تحديد مكان الاحتجاز في ثكنة الرماة في روما، لكن وقبل أي تحرك ألماني كان بادوغليو قد أعطى أوامره بنقل موسوليني إلى جزيرة بونزا (Ponza) في البحر التيراني لتوجّسه من نوايا الألمان.
شكَّلَ تغيير مكان احتجاز موسوليني تحديًا لسكورزيني الذي ازداد عزمًا وإصرارًا على إيجاد هدفه. لم يمضِ سوى بضعة أسابيع حتى نجحت التحريات في تحديد مكان الدوتشي. لكن، ولسوء حظ سكورزيني، تنبّهَت الحكومة الإيطالية لتحرّكاته بعدما أُثيرت الشكوك حول سبب وجوده في إيطاليا وطبيعة المهمة المكلَّف بها، فتمّ نقل موسوليني إلى جزيرة مادالينا (Maddalena) قرب الساحل الشمالي الشرقي لجزيرة سردينيا. مرة جديدة يجد سكورزيني نفسه عند نقطة البداية، لكن هذا لم يُضعف عزيمته، بل هو ثابر على متابعة عمله بالوتيرة نفسها.
خدعة ماكرة
في أثناء إحدى الجولات، رصدت طائرة استطلاع ألمانية تحرّكات غير اعتيادية وانتشارًا مكثَّفًا لجهاز الحماية حول فيللا فيبر على جزيرة مادالينا. ساورت سكورزيني شكوك حول وجود هدفه في الفيللا، ولكي يقطع الشك باليقين قرَّر اللجوء إلى الخدعة، فأرسل أحد مساعديه الملازم هانس فارغر، إلى الجزيرة متظاهرًا بأنه بحّار، وخلال المناقشات في الفندق الذي نزل فيه، وبلهجة لا تخلو من البراءة، راهن فارغر على أن الدوتشي قد مات، فقبل أحد بقَّالي الجزيرة الرهان وجزم أنه يزوّد فيللا فيبر بالخضار والفاكهة يوميًا، وأن الدوتشي موجود داخلها. في المساء توجَّه البقّال وفارغر إلى الفيللا وشاهدا موسوليني يتنزَّه في الحديقة، خسر فارغر رهانه، لكنّ فرحته بالصيد الثمين كانت لا توصف.
تمكّن سكورزيني، بفضل حنكته، من تحديد مكان الدوتشي، إلا أن الحظ العاثر لم يفارقه، إذ وبعد حصوله على موافقة هتلر على التنفيذ بتاريخ 28 آب 1943، وقبل يوم واحد من الموعد المحدَّد، تم تغيير مكان الاعتقال. فقد ساور السلطات الإيطالية القلق من تحليق طائرة استطلاع ألمانية فوق الجزيرة، ونظرًا إلى عدم رغبتها بمواجهة أي مفاجأة غير سارّة، قرَّرت نقل السجين مجددًا إلى مكان أكثر أمنًا. وفي 27 آب غادرت طائرة تابعة للصليب الأحمر جزيرة مادالينا حاملة موسوليني إلى وجهة مجهولة.
كان سكورزيني على الجزيرة يضع بنفسه اللمسات الأخيرة قبل التنفيذ عندما وصله الخبر المشؤوم من الملازم فارغر... الحظ العاثر مجددًا، لكن سكورزيني تابع عمله بإصرار، حتى أن الحظ الذي عاكسه يئس وانتقل ليقف إلى جانبه. فخلال إحدى عمليات التنصّت على الاتصالات الإيطالية، تمّ اعتراض رسالة راديوية مشفَّرة فُهِمَ منها أن موسوليني أصبح في فندق كامبو أمبراتوري. كما أن المخابرات الألمانية رصدت إجراءات أمنية غير اعتيادية في محيط غران ساسو.
نقل الخبر إلى سكورزيني ضابط كبير في المخابرات يدعى هيربرت كابلر. هذا الخبر إضافة إلى الرسالة الراديوية شكَّلا دليلًا قويًا إلى وجود موسوليني في المكان، لكن احترافية سكورزيني تطلَّبت منه التثبّت أكثر من صحة هذه الفرضية قبل الإقدام على أي خطوة، فالخطأ في هذه الحالة قاتــل وتداعياتــه لن تكــون سهلة.
فندق كامبو أمبراتوري عبارة عن منتجع سياحي لرواد التزلج في أعالي جبال الأبنين على ارتفاع يتجاوز 2100 متر عن سطح الأرض. يقع الفندق في أعلى الجبل، حيث لا طرقات توصل إليه. الوسيلة الوحيدة لدخوله والخروج منه، هي مركبة معلَّقة على سلك تنقل النزلاء والزائرين صعودًا ونزولًا.
بغية تحقيق مراده، لجأ سكورزيني إلى خدعة جديدة من خدعه، فأرسل الملازم الألماني الطبيب ليو كروتوف إلى كامبو أمبراتوري بحجة استطلاع إمكان نقل جنود ألمان مصابين بالملاريا إلى الفندق بهدف النقاهة. لدى وصوله إلى قرية أسيرجي أسفل الجبل ليستقل المركبة صعودًا إلى الفندق تم منعه وأُعلِمَ أن منطقة غران ساسو قد أُعلِنَت منطقة عسكرية. هذا الرفض كان إشارة واضحة لسكورزيني للبدء بوضع تفاصيل خطته الجهنمية.
مجازفة كبيرة
وضع سكورزيني خطة قوامها هبوط مئة مظلي في الباحة الخلفية للفندق وتحرير موسوليني ومغادرة الفندق. لم تكن الخطة سهلة أو خالية من المخاطر، فالفندق محمي بحراسة مشدَّدة وقد يعمد الحراس إلى تصفية السجين في حال توافر لهم الوقت الكافي، لذلك قرَّر سكورزيني استخدام الطائرات الشراعية التي لا تُصدر أصواتًا ليتمكن المغيرون من الوصول إلى الفندق من دون أن يلاحظ الحرس ذلك. نجح سكورزيني في الحصول على موافقة هتلر على الرغم من درجة المجازفة العالية وغير الاعتيادية التي تنطوي عليها الخطة.
بتاريخ 12 أيلول، أي بعد أربعة أيام من إعلان الهدنة بين الإيطاليين والحلفاء، وحوالى الساعة الواحدة ظهرًا, انطلقت 12 طائرة ألمانية من مطار براتيكا دي ماري إحدى ضواحي روما. لم تكن عملية الهبوط سهلة في كامبو أمبراتوري، لكن بالنتيجة لم تكن الخسائر كبيرة، فقد تضرَّرت بعض الطائرات فيما تدمّرت واحدة من دون خسائر في الأرواح. بالتزامن مع عملية الهبوط كانت قوة برية بإمرة الرائد مورس تصل إلى قرية أسيرجي وتسيطر على المركبة بعد استسلام الحراس الذين أصيبوا بالصدمة، وقد تم بذلك عزل القوى المتمركزة في الفندق ومُنِع أي إمداد من الوصول إليها.
فور وطئهم الأرض، اندفع المهاجمون بسرعة باتجاه الفندق وسط دهشة وذهول نحو 200 من عناصر الشرطة الجيّدي التسليح. ومع استجابة قائد الحامية لمناشدة سكورزيني له بحقن الدماء، سقط الفندق بيد المهاجمين من دون أي مقاومة إيطالية.
تمكّن المهاجمون من تحرير موسوليني، وما أن وصل إليه سكورزيني حتى بادره بالتحية قائلًا: «سيدي الدوتشي، لقد أرسلني الفوهرر لتحريرك»، فعانقه موسوليني وأجابه باقتضاب: «كنت أعلم أن صديقي لن يتخلى عني».
ووفق الخطة الموضوعة، وصلت طائرة صغيرة يقودها النقيب هنريك جرلاخ الطيار الخاص للواء شتودنت، لنقل موسوليني.
مهمة دخلت التاريخ
كان مدرج الإقلاع قصيرًا، والطائرة غير مُعدَّة لحمل راكبين، لكن كان من الضروري أن يرافق سكورزيني السجين المحرَّر، مما جعل الإقلاع مستحيلًا. لجأ جرلاخ لمناورة شديدة الخطورة، فقد أمسك المظليون الألمان بذيل الطائرة بينما قام هو بتشغيل محرّكها بأقصى قوته، وعند إشارة محدَّدة أفلت المظليون الطائرة فقفزت إلى الأمام نحو الوادي وانطلقت عائدة باتّجاه مطار براتيكا دي ماري، حيث نُقِلَ موسوليني بواسطة طائرة أخرى إلى فيينا ومنها إلى ميونيخ وهناك كانت زوجته بانتظاره. في فيينا تلقى سكورزيني اتصالًا من هتلر الذي هنّأه وقال له: «لقد نَفَّذتَ اليوم مهمة سيكتب عنها التاريخ».
استغرق تنفيذ العملية 12 دقيقة لم يُطلق خلالها أي رصاصة، وقد استثمرتها الدعاية النازية إلى أقصى الحدود.
وفي الرابع عشر من أيلول وصل موسوليني إلى راستنبورغ لمقابلة الفوهرر، بينما رُقيَ سكورزيني لرتبة رائد، ونال العديد من الميداليات والأوسمة، وأضحى بطلًا في نظر دول المحور، والرجل الأخطر في العالم، بالنسبة إلى الحلفاء.