الجزء الثاني
وفي اليوم التالي عدنا إلى بيت العمّ فألفيناهم وقد أخذ منهم اليأس والخوف والقلق كل مأخذ. أنّبوا ابن عمّنا على سوء تصرفه وقلة إدراكه، وأُطلق على تلك الحوادث تسمية «وثبة كانون».
في السنة التالية، نُقل والدي إلى بغداد وسكنا في دار تقع في أحد الشوارع الفرعية التي تربط شارع عمر بن عبد العزيز بشارع عشرين في الأعظمية، والتقيت صديقي خليل إبراهيم العزاويّ الذي استقال والده من دار العجزة في كربلاء وتفرّغ للأعمال الحرة في بغداد. أمضينا أوقاتًا جميلة في اللعب وقراءة القصص والروايات. وكان خليل متعصبًا للألمان مثلي، ويكنُّ البغض للإنكليز الذين قاتلهم أبوه وأحالوه على التقاعد. كنا نتبارى في معلوماتنا عن تاريخ الحرب العالمية الثانية وأهم المعارك التي دارت فيها، وأسماء القادة البارزين من الجانبين.
كان لجماعة الإخوان المسلمين نشاط بارز في الأعظمية في تلك الأيام، وكانت تركز فيه على جمع الصبية وصغار السن في تنظيمها ليمارسوا الرياضة والسباحة بإشراف مدربين، ويتعلموا الصلاة إضافة إلى تلقينهم المبادئ الأساسية لفكر الجماعة. وانتظم معها معظم صبية المدارس، وكنت وخليل وأصدقاء آخرون من بعض هؤلاء، وأخذتنا الحماسة في أيامنا الأولى وكنا نلعب ونسبح ونصلّي ونتعلم دروس الجماعة ومبادئها، لكن كنا متحمسين أكثر للقيام بفاعليات أكثر وأكبر مما نقوم به داخل تنظيماتها مثل الخروج في تظاهرات والهتاف بسقوط الحكومة والتهاوش مع رجال الشرطة وغير ذلك. ولم يحدث أيٌّ من ذلك، فتركنا الجماعة إلى غير رجعة وعدنا إلى قراءة القصص والروايات والزيارات الأسبوعية لدور السينما في عروضها الصباحية لأفلام المغامرات، وكان يقلنا إليها سائق سيارة عائلة خليل العزاويّ من نوع «الفيات سفن ستارز»، ولم نمكث طويلًا في بغداد حيث نُقل الوالد إلى معسكر سعد في بعقوبة في لواء ديالى.
في مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى كنا على مقربة من أهلنا، وكانت دارنا لا تخلو يومًا من زيارة يقوم بها الأقارب وأبناء العشيرة، وكنا نحن أيضًا نزورهم في بلداتهم وقراهم، فتعرفت عن قرب إلى الحياة الريفية وبساطة الناس فيها وطيبتهم وكرمهم.
وفي العطلة الصيفيّة جاءت عمتي وأولادها من مدينة البصرة، وكان فؤاد بكرها يكبرني ببضعة أشهر، فدعانا أحد أبناء عمومة والدي إلى قريتهم واسمها «كصيبة» في شرق بعقوبة، على الطريق إلى شهربان وخانقين، فركبنا أنا وفؤاد القطار إلى محطة أم الهوا التي لا تبعد أكثر من عشرين دقيقة عن بعقوبة، ووجدنا فيها أحد الأقارب ينتظرنا مع حصانين، فانطلقنا راكبين إلى القرية، وكان الشيخ «سَبِـعْ» ابن عمّ الوالد يقطن في بيت كبير مبني من الطين، وبجانبه مضيف كبير مفروش بالبسط والمدّات الطويلة الملونة، يؤمّه رجال القرية نهارًا وتُدقّ القهوة، ويوزّعها أحد أبنائه عليهم. كنا نتناول عشاءنا بعد غياب الشمس مباشرة، وفي المساء تقام الجلسات في الخارج على الدكات الطينيّة الممتدة على هيئة مستطيل بعد أن تُفرش بالبسط والمدات، وتدار القهوة على الضيوف، ويجري تبادل الأحاديث التي لا تخرج عن نطاق حوادث ما مروا به في نهارهم وعن الزرع والسقي ومواشيهم وأبقارهم، وأدهشتني بساطة هؤلاء الناس وقلة حاجاتهم وبساطتها. كنا ننام على الدكات خارج المضيف، ونستيقظ مع شروق الشمس على صوت الخراف، وزوجة العمّ سَبِـعْ وبناته يحلبنها، ويُعَد فطورنا من خبز الشعير الحار المغموس بالحليب والدهن، بعدها نركب الخيول مع أحد أولاده، ونذهب لنسقيها في ساقية القرية، ونذهب إلى «المحلة» خارج القرية حيث تتكوّم أكداس محاصيل الحنطة والشعير التي يذروها ويُنقّيها أهالي القرية ومزارعوها.
وفي السنة التي تلت ذهبنا إلى ابن عمّ آخر لوالدي في قرية زاغنية التي تقع على نهر خريسان، وهي قرية كبيرة فيها مقهى وحيد ومذياع يعمل على بطاريّة قديمة للعجلات، محاطة بالبساتين الغنيّة بالبرتقال والرمان والعنب والإجاص. وكنا نذهب إلى بساتين العمّ ونحن نمتطي الحمير التي تسير بتؤدة وثقة على طريق البساتين الترابية الضيقة، وتتوقف طوعًا عند باب بستانهم. وكانت أثمار الأشجار تتدلّى بمنظر يخلب الألباب من دون أن نحاول قطفها، وصدق المثل الذي يقول: «عندما تمتلئ العين تمتلئ المعدة». أثّرت فيَّ حياة القرية وأحببتها لبساطتها وطيبة أهلها وقناعتهم وكرمهم وصدقهم.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1952 حدثت اضرابات وتظاهرات عارمة في بغداد وبقية مدن العراق في ما دُعي «وثبة تشرين»، حيث أضرب عمال الموانئ في مدينة البصرة مطالبين بحقوقهم، ولجأت الحكومة إلى وقف الإضراب بالقوة، وسقط عدد من الجرحى والقتلى في صفوف المضربين، الأمر الذي حدا الأحزاب الوطنية إلى تقديم المذكرات إلى الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله، وأوردت فيها شرحًا وافيًا لمدى التدهور الحاصل في أوضاع البلد، لكن الوصي تجاهل تلك المطالب، وتطاول على الفريق طه الهاشميّ
(((الفريق طه الهاشميّ، عسكري وسياسي عراقي ولد في عام 1888 وتخرّج في المدرسة العسكرية في اسطنبول عام 1906، ثم تخرّج في كلية الأركان برتبة رئيس في عام 1909. شارك في حرب البلقان عام 1912، والتحق بـ «جمعية العهد» السريّة برئاسة عزيز المصري في عام 1913، وبالجيش العثماني باليمن في فترة 1914 - 1918، أسره الإنكليز في عام 1919. عيّنه الملك فيصل مديرًا للأمن العام في دمشق. عاد إلى العراق، فعيّنه الملك فيصل آمرًا لحامية الموصل ثم رئيسًا لأركان الجيش في عام 1923، قبل أن يصبح وزيرًا للدفاع في عام 1938. وفي شباط/فبراير 1941 أصبح رئيسًا للوزراء لمدة شهرين، وشارك في تأسيس الجبهة الشعبية في عام 1951 قبل أن يرئسها. تولّى في عام 1953 منصب نائب رئيس مجلس الإعمار حتى عام 1958. توفي في أحد مستشفيات لندن في عام 1961 ))) في مؤتمر حضره قادة الأحزاب في البلاط الملكي، فأصابت الجماهير حالة من الغليان أنذرت بانفجار عنيف، وجاء قرار عمادة كلية الصيدلة القاضي باعتبار الطالب المعيد لدرس ما معيدًا للدروس كافة ليثير غضب الطلاب الذين سارعوا إلى إعلان الإضراب في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1952، فعجّلت وزارة الصحة في إلغاء قرار عمادة كلية الصيدلة إلّا أن مجهولين اعتدوا في اليوم التالي داخل الحرم الجامعي على ناشطين من الطلاب، الأمر الذي أدّى إلى قيام تظاهرات طالبية، وإعلان طلاب الكليات كافة الإضراب، ثم تبعتهم المدارس الثانوية والمتوسطة في 22/11/1952.
وتطوّرت التظاهرات إلى مطالب سياسية تطالب بتحقيق مطالب الأحزاب التي قدمتها للوصي على عرش العراق. وكان انطلاق التظاهرات الشعبية من محلة الفضل في جانب الرصافة في بغداد حيث تصدت لهم الشرطة، ووقعت معارك سقط في إثرها قتيل وجرح 14 متظاهرًا فيما أُصيب 38 شرطيًّا. وفي عقب تدهور الوضع سارع مصطفى العمري
((( ولد مصطفى محمود العمري في مدينة الموصل عام 1894 في أسرة كبيرة عُرفت بالأدب والعلم واليسر، وهي الأسرة العمرية. أكمل الدراسة الأولية في بلدته ثم دخل مدرسة الحقوق ببغداد، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى قطع دراسته، فالتحق ضابطًا احتياطيًّا في الجيش العثماني، لكنه وقع أسيرًا في يد القوات البريطانية في جبهة الغراف. وبعد انتهاء الحرب أطلق سراحه وعاد إلى وطنه، فنال شهادة الحقوق وفي الوقت نفسه دخل الوظيفة الحكومية، ثم تولّى مناصب إدارية مختلفة، وتدرج في السلك الوظيفي حتى وصل إلى درجة المتصرف، وتولّى متصرفية عدد من الألوية العراقية. في عام 1936 تولّى منصب مدير المحاسبات العامة قبل أن يتوجّه إلى وزارة الداخلية ثم العدلية في السنة التالية، وانتخب نائبًا وعيّن في دورات متتالية حتى أسندت إليه رئاسة الوزراء في 12 تموز/يوليو 1952، وشهدت وزارته قيام الثورة، وسقوط النظام الملكي في مصر، الأمر الذي أثر كثيرًا في دفع الحركة الوطنية العراقية، وقيام انتفاضة تشرين الثاني/نوفمبر 1952 وسقوط وزارته، وتشكيل حكومة طوارئ برئاسة الفريق نور الدين محمود. عُرف العمري إداريًا كفيًّا وحازمًا، غير أن عمله السياسي كان عملًا تقليديًا، وهناك من وجّه إليه تهمًا شتى. توفي في عام 1960 ))) ، رئيس الوزراء، إلى تقديم استقالته إلى الوصي. وفي يوم 23 ازدادت التظاهرات وهاجم المتظاهرون مراكز الشرطة، واستولوا على أسلحتهم وحرقوا مركز الاستعلامات الأميركي، فقتل 12 متظاهرًا. وفي المساء أُنزلت الشرطة السيارة واصطدمت بالمتظاهرين فقتل 23 متظاهرًا، و4 من رجال الشرطة. قبِلَ الوصي استقالة مصطفى العمري، وكلّف الفريق نور الدين محمود
((( نور الدين محمود، ولد في مدينة الموصل وهو من أصول كردية. درس في الإعدادية العسكرية في بغداد وتخرج برتبة نائب ضابط. ترقى في الحرب العالمية الأولى إلى رتبة ملازم ثانٍ، وشارك في المعارك حول بغداد، ثم انسحب مع فرقته بعد سقوطها في يد الإنكليز. أسره الإنكليز في معركة هيت ثم التحق بالجيش العراقي في عام 1921. دخل كلية الأركان الأولى في عام 1929، وحلّ الأول بين رفاقه، وشارك في حرب فلسطين، وتولّى رئاسة أركان الجيش ثم رئاسة الوزراء بعد «وثبة تشرين» 1952 حتى عام 1953. توفي في بغداد عام 1981 ))) ، رئيس أركان الجيش، بتشكيل الوزارة، وانتشر الجيش في شوارع بغداد وبقية المدن، وسارعت حكومة نور الدين محمود إلى إعلان الأحكام العرفية، وتشكيل المحاكم العرفية. وأعلنت حلَّ الأحزاب ووقْفَ معظم الصحف، وقام الجيش بالتصدي للتظاهرات، فقُتل 8 متظاهرين وجُرح 84، فأصدر أمرًا بمنع التجول من الساعة السادسة مساء حتى السادسة صباحًا.
وفي الليلة نفسها قام باعتقال أكثر من 3000 مواطن من بينهم 220 من الوزراء السابقين والنواب والصحافيين ورؤساء الأحزاب وشخصيات سياسية معروفة. وحكمت المحاكم العرفية على اثنين بالإعدام وعلى 958 بالسجن لمدد مختلفة. وأصدرت الحكومة عددًا من المراسيم لتخفيض الرسوم المفروضة على المواد الغذائية وعلى البضائع المستوردة، والمرسوم رقم 6 بتعديل قانون الانتخاب وجعله على مرحلة واحدة، أي ليكون انتخابًا مباشرًا .
حدثت تظاهرات مشابهة في مدينة بعقوبة، فخرجتُ بها مع عددٍ كبيرٍ من الطلبة والمواطنين. وكان هتافنا الرئيس «ماذا تريدون؟ خبزًا لا رصاصًا». واتّجهت التظاهرة إلى مديرية شرطة بعقوبة، وشاهدت رجال الشرطة ورشاشاتهم من نوع «برن» يقفون في أعلى بناية المديرية، ونحن نهتف ونشير نحوهم بقبضاتنا مهدّدين. فجأة انطلقت نيران الرشاشات (كان الرمي إلى أعلى، ولم تصوّب النيران إلى أي من المتظاهرين)، وأذكر أن أحد الأئمة بجلبابه وطربوشه الأبيض والأحمر صرخ بنا «امتدّوا»، وتمدد هو على حافة الشارع حيث تجري المياه الوسخة السوداء، وتلوّث جلبابه وطربوشه، حيث دفن رأسه ليحتمي بين الشارع والرصيف. ولمحتُ على جانب الشارع دكانًا مفتوحًا فقفزت إليه لأحتمي، وبالكاد وجدت مكانًا إذ سبقني إليه العشرات من المتظاهرين.
عدت إلى البيت، وقد اختفى صوتي من الهتافات، ولمّا جاء والدي قال: «اتصل بي مدير شرطة البلدة وأخبرني بأنك كنت في التظاهرة ومن الهتافين فيها»، وسألني: «هل أنت شيوعي؟». فقلت: «لا». قال: «لماذا خرجت في تظاهرة يقودها هؤلاء؟». فوعدته ألّا أُكرّرها في المستقبل.
بعد تجارب غير مشجعة في التظاهر انتهت إحداها بليلة رعب مع صراخ الجرحى والمصابين وأنينهم في فندق متواضع في جانب الكرخ من بغداد، كما ذكرتُ، (وثبة كانون 1948)، وأخرى خُتمت بفقدان صوتي وتأنيب عنيف من والدي وسؤاله إن كنتُ شيوعيًا (وثبة تشرين 1952) اتجهت إلى القراءة بكل جوارحي، وكنت أمضي معظم أوقاتي بعد انتهاء الدوام في مدرستي في قراءة الروايات والقصص التي كنت أضعها وسط الكتب المدرسية التي أتظاهر بقراءتها. ولمّا اكتشفت أختي ذلك توسلتُ إليها بحفظ السر وعدم إخبار الوالد.
وفي تلك السن المبكرة كنت أدخر معظم مصروفي اليومي لشراء الطبعات الشعبية من الكتب التي كانت تزخر بها المكتبات في العهد الملكي، فقرأت لطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وجرجي زيدان وآخرين من الكتاب العرب، ودوستويفسكي وتشارلز ديكنز وسارتر وكافكا الذي أصبتُ بكآبة بعد قراءة روايته الصرصار، ولم تسلم كتب المغامرات والقصص البوليسية من نهمي إلى القراءة، إضافة إلى الكتب العسكرية وكتب الحروب من مكتبة الوالد.
لم تكن لي اهتمامات سياسية عدا شغفي بكل ما هو عربي، وكنت أميل إلى حركة القوميين السوريين وزعيمهم أنطون سعادة لدعوتهم إلى توحيد سوريا الكبرى، ولنزعتهم إلى الانضباط والتنظيم، ولم أكن قد اطلعت على فكرهم أو فلسفتهم، بل أن دعوتهم إلى التوحيد هي ما جذبني. وفي عام 1953 كتب خليل العاني، أستاذ التاريخ في ثانوية ديالى للبنين، على لوح الصف الأسود بخط كبير (حزب البعث العربي)، وشرح ماهية الحزب وفكره ودعوته إلى الوحدة العربية والتحرّر والعدالة الاجتماعية. وذكر أن قادة الحزب قاتلوا اليهود في فلسطين متطوِّعين في عام 1948، وذكر اسمي ميشيل عفلق وصلاح البيطار مؤسِّسي الحزب. وكانت تلك أول مرة أسمع بها باسم الحزب، فوجدت أنه أشمل وأوسع مما كان القوميون السوريون يدعون إليه، ومع ذلك لم أعر الأمر كثيرًا من الاهتمام، وانصرفت إلى هوايتي المحببة القراءة، وإلى الآفاق التي تفتحها أمامي لمختلف نواحي الحياة، فعدا هواية ركوب الخيل التي كنت أُمارسها في العطلة الصيفية عند أعمامي في قرية «كصيبة»، وكنت أمارس رياضة الجري للمسافات القصيرة والطفر الطويل (الوثب العالي)، وكانت نتائجي طيبة في السباقات المدرسية على الرغم من أنني لم أحصل على المرتبة الأولى، وبقيت غالبًا ضمن المراكز الثلاثة المتقدّمة، وكان لي إسوة بطل العراق والدول العربية في الطفر الطويل، والطفرة الثلاثية جارنا عبد الستار عبد الرزاق العزاوي الذي كان يشجعنا على ذلك.
كان والدي يعاني عدم ترقيته إلى رتبة عقيد، وكانت جداول الترقية تصدر مرتين في السنة في 6 كانون الثاني/يناير الذي هو يوم الجيش، وفي 12 أيلول/سبتمبر كما أتذكر كانت جداول ترقية الضباط تذاع من إذاعة بغداد، وفي كل مرة لا يرد اسم والدي فيها على الرغم من توافر كل الشروط فيه. واستمرّ ذلك أربع سنين متوالية (ثمانية جداول) حتى عيِّن عمي الذي كان برتبة رائد ركن في إحدى دوائر رئاسة أركان الجيش، فوقعت بين يديه الإضبارة الخاصّة بالوالد فتصفحها، ووجد تقريرًا من اللواء مصطفى راغب قائده السابق عندما كان آمرًا لفوج في حامية الموصل يوصي بعدم ترقيته، فانتزع عمّي التقرير ومزقه وترقى والدي إلى رتبة عقيد في الجدول الذي تلا هذه الحادثة. وعندها أخبرنا عمي بما حدث، وقال: «مزّقتها لأني أعرف مقدرته، وكفاءته، وليس لأنه أخي».
في السنة الدراسية 1954/1955 أنهيت دراستي الثانوية، وتقدمت إلى كلية القوة الجوية والكلية العسكرية، ولمّا سمعت والدتي بتقدمي إلى الكلية الجوية أصرّت على سحب أوراقي على الرغم من أني اجتزت الفحوص الطبيّة كافة، وأجريت المقابلة مع لجنة القبول للكلية العسكرية في إحدى غرف الطبقة الأولى من وزارة الدفاع. وكانت اللجنة من ثلاثة ضباط، الأقدم منهم برتبة عميد. عندما دخلت كانت إضبارتي على المنضدة، فسألني أقدمهم لماذا أريد دخول الكلية العسكرية، وهل لي أقارب في الجيش؟ فذكرت اسم والدي وعمي ورتبهم ومواقعهم، فاكتفوا بذلك وانصرفت.
بعد أيام عدة، وجدت اسمي في القائمة المعلّقة في دائرة الإدارة، وفيها موعد التحاقنا بالكلية العسكرية في الرستميّة بمعسكر الرشيد. التحقت ونُسبت إلى الفصيل 14 (آمره الرئيس أحمد علي عثمان) من السريّة الثالثة (آمرها المقدّم بدر الدين علي)، وكان عريف الفصيل التلميذ كنعان توفيق (من الدورة المتقدّمة أي السنة النهائية في الكلية) من بلدة بعقوبة، ووالده العقيد توفيق مع والدي في معسكر سعد ببعقوبة وصديقه. ولم يشفع لي ذلك كله فأخذني مسرعًا إلى أبو جريان، أشهر حلاقي الكلية وأقدمهم فأجلسني هذا على مقعد الحلاقة، والدخان يتطاير من السيكارة المعلقة بين شفتيه، ولف خرقة بيضاء حول رقبتي، وببضع حركات فحسب حلق شعر رأسي «نمرة صفر»، وربّت أبو جريان على كتفي، ونظرت في المرآة فشاهدت شخصًا كدتُ ألّا أعرفه، والعريف كنعان ينظر إلي وابتسامة واسعة تملأ وجهه.
النظام والانضباط والطاعة هي الشعارات التي تعمل الكلية بكوادرها ومدربيها لتحيل الفتية التي دخلوها إلى رجال يتحملون مسؤولية الدفاع عن الوطن وسلامته، وذلك ما كنت أحلم به وأتمناه، لكن ليس كل ما يطلب المرء يدركه، إذ كنتُ مخالفًا بشكل ما من دون قصد أو تعمّد. ومعظم مخالفاتي كانت إما لارتدائي الملابس المدنية في عطل نهاية الأسبوع، أو حصيلة التفتيش الأسبوعي الذي يسبق ذهابنا إلى الأهل يوم الخميس.
كان بيت عمّي في نهاية الأربعينيات في محلة رأس الحواش في الأعظمية لا يبعد كثيرًا عن دار فاروق صبري، الطالب في الكلية العسكرية آنذاك، وغالبًا ما كنت أراه في ملابسه الكاكي الجميلة التي كان طلبة الكلية العسكرية يرتدونها يومها وأحلم بارتدائها يومًا ما، وهي تختلف عن بدلاتنا الزرقاء وبناطيلها ذات الخطوط الحمراء التي تختلف تمامًا عن الصورة التي كنت أحملها لفاروق صبري وبدلته، فكرهت ارتداءها، وغالبًا ما كان طلبة الصفوف المتقدّمة «يقنصونني» مرتديًا الملابس المدنية في عطل نهاية الأسبوع وأعاقَب عليها.
كان سريري في قاعة منامتنا في الكلية يقع بين سرير الطالب أكرم الجراح (كنا نطلق عليه اسم أكرم الجبليّ، وهو تركماني من كركوك) عن يميني، ورياض أحمد الأعظمي (وكنا نطلق عليه اسم رياض الأحمر نسبة إلى لون شعره) عن يساري، وكان هذان الطالبان متميِّزين في ترتيب خزانتيهما وفراشهما، وصبغ أحذيتهما في التفتيش الأسبوعي. ومهما كنت أحاول بقيت خزانتي وفراشي وأحذيتي نشازًا بينهما، وكانت النتيجة دائمًا عقوبة الحرمان من إذن الخروج، وساعتيْ تدريب إضافي.
وهداني الله إلى حل ساعدني نسبيًّا، بالالتجاء إلى صديقي عبد الرزاق محمود في السرير المقابل لي، الذي لم يكن أقل تميزًا من جاريّ رياض وأكرم، فكنت أقوم في الليلة التي تسبق التفتيش الأسبوعي بنثر محتويات خزانتي على الفراش متظاهرًا بمحاولة ترتيبها، ثم أتركها وعلامات الخيبة على وجهي، وعبد الرزاق محمود يرمقني بين فينة وأخرى ثم يأتي ويسألني عن المشكلة، فأشير إلى كومة الملابس، وأذكّره بأنني للأسبوع الثالث لم أذهب إلى أهلي، فتدب النخوة لدى صديقي العزيز، ويقوم بترتيبها قطعة بعد أخرى وهو يدمدم، ويقول إن هذه آخر مرة يساعدني فيها، فأنهض وأقبّله شاكرًا، وفي الأسبوع الذي يليه يُكرّر المشهد عينه.
في نهاية السنة الأولى انتقلت الكلية لفترة التدريب الإجمالي لطلبة الدورتين المستجدة والمتوسطة (طلبة الدورة المتقدّمة كانوا قد تخرجوا ضباطًا) إلى معسكر سكرين قرب مصيف سرسنك في المناطق الجبلية من محافظة الموصل. وكان للملك فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الإله قصر صغير في سرسنك يمضيان فيه بعض أشهر الصيف بعيدًا عن حر بغداد. كانا يزوران معسكرنا التدريبي في سيارة حمراء صغيرة مكشوفة، ويتابعان تدريب الطلبة من بعيد.
وفي يوم الجمعة الأولى لوصولنا إلى المعسكر أقاما دعوة غداء لضباط الكلية وطلبتها، وقدّم الطلبة عرضًا للقفز في الماء في حوض سباحة القصر، ووزع الملك والأمير بعد انتهائه ساعات وأقلام حبر بين من شاركوا.
بعد الغداء تناولنا الشاي في قاعة القصر، وكانت صورة مجسمة من الزجاج الملون المزدوج للمرحومة الملكة عالية والدة الملك موضوعة على منضدة في أحد أركانها، ومن دون تعمد تعثّر أحد الطلبة بالمنضدة فوقعت وانكسرت قطعًا صغيرة، وجاء الأمير عبد الإله، ونظر بحزن إلى قطع الزجاج لصورة أخته فجمعها وغادر القاعة من دون أن يقول شيئًا أو يعلّق على ما حدث.
كانت خيام معسكرنا منصوبة في منطقة مستوية يسار الطريق الرئيسة المؤدية إلى أربيل، ومحاطة بسلاسل جبلية كنا نتسلّقها وآمرو فصائلنا كل صباح قبل بدء التدريب، وإلى يمين الطريق مقهى صيفي صغير يديره أحد الأكراد مبني من عرائش وفروع الأشجار، ويطل على الوادي السحيق في الجانب الآخر من الطريق. كان مديرو الكلية قد منعوا الطلبة من عبور الشارع أو الجلوس في المقهى، وعصر أحد الأيام قمنا (مجموعة من طلبة دورتنا) بعبور الشارع لشرب الشاي في المقهى، فلمحنا عريف خفر الكلية وكان من طلبة الدورة المتوسطة، فأتى مسرعًا لـيكبسنا في المقهى. ولما شاهدناه جرينا إلى الجبال المحيطة بالمعسكر وهو يجري خلفنا، وبعد دورة جري طويلة عدنا إلى المعسكر، وهنا سمعنا بوق تنزيل العلم في المعسكر عند غروب الشمس فتوقفنا عن الجري، ووقفنا بالاستعداد من دون حراك، لكن عريف الخفر المعروف بمقته طلبة دورتنا لم يقف بل لحق بنا وسجل أسماءنا، وقدمنا مذنبين لآمر سريّتنا المقدّم بدر الدين علي الذي أمر بحلاقة رؤوسنا بالموسى، وحكمنا بأربع ساعات تعليم إضافي كل يوم حتى نهاية فترة التدريب الإجمالي (ساعة بعد نهاية التدريب الصباحي، وأخرى بعد الغداء مباشرة، وثالثة بعد العشاء، والأخيرة في منتصف الليل)، وكلّف أحد ضباط الصف، وكان معروفًا بقسوته، بإنفاذ العقوبة يوميًا، فكان هذا يتعمد تنفيذ ساعتي التعليم الإضافي بعد التدريب الصباحي، وبعد الغداء في مواجهة خيمة آمر السريّة الذي تكرم بالعفو عنا بعد ثلاثة أيام وبعد التماسات عديدة من آمري فصائلنا.
في السنة الثانية سجلني أحد أصدقائي من الطلبة الرسامين في مرسم الكلية، ووجدتها مناسبة للتخلص من فترة الرياضة المسائية، وكنت أستغلّها للذهاب إلى بيت عمّي الذي كان يسكن في إحدى دور كلية الأركان حيث كان يُدرِّس، وكان يفصل الدار عن كليتنا سياج من شجيرات الياس والكالبتوس. عصر أحد الأيام كنت مضطجعًا في قيلولة ما بعد الظهر في ديوان بيت العمّ فشعرت بضربة سكين حاد يُغرس في صدري فصرخت، وسمعتني زوجة عمّي فركضت نحوي، وقالت: «خير ماذا حدث؟». فأخبرتها فقالت محاولة تهدئتي: «احمد الله أنه كان حلمًا»، وبعد أقل من ربع ساعة جاء أصدقاء ابن عمّي من الصبيان يتراكضون، وقالوا إن إياد ابن عمّي (10 سنوات) غرق في نهر ديالى المحاذي للكلية عندما كانوا يسبحون، فخرجنا راكضين إلى النهر ولم نعثر له على أثر. واستدعى عمّي فريقًا من الغواصين، بقي يبحث عنه طوال يومين من الغوص في مياه ديالى العكرة فلم يعثر عليه، وفي اليوم الثالث طافت جثته في مكان غير بعيد من المكان الذي غرق فيه، وحتى الآن أعلم أني لم أكن نائمًا عندما شعرت بضربة السكين تلك، وأنها قد تكون قد حدثت لحظة غرق ابن عمّي!
كان لحوادث مصر في عام 1956 تأثير كبير في نفس ومشاعر الشعب العراقي قاطبة، وشبابه بشكلٍ خاصٍّ، فتأميم الرئيس عبد الناصر قناة السويس، والاعتداء الثلاثي على جيش شعب مصر الشقيقة، والمقاومة البطولية لشعب بور سعيد لقوات العدوان الثلاثي، وخطب عبد الناصر، وبرامج أحمد سعيد من إذاعة «صوت العرب» من القاهرة، كلها عوامل عملت على إعادة تأجيج المشاعر القومية في شعبنا بعد محاولات السلطة إخمادها طوال السنين التي أعقبت حربنا ضد الإنكليز في أيار/مايو 1941. وكان معظم طلبتنا في الكلية العسكرية يعبّرون علانية أو سرًا عن إسنادهم مصر عبد الناصر، ولم يخفوا مرارتهم من مواقف السلطة، والحكومة العراقية التي لم تكن بمستوى حوادث مصر المصيرية في تاريخ الأمة والمنطقة.
كان صبحي محمد الداود أحد طلاب دورتي وفصيلي، وهو من مدينة الموصل ومن أصدقائي المقرّبين، يتميز من الآخرين بهدوئه وثقافته وسعة اطلاعه. عرفتُ أنه كان بعثيًا بعد الحوداث التي مرت بها مصر، وفي المناقشات التي كانت تجري في أثنائها وبعد انتهائها، فأخبرته أني سمعت بالبعث وبشعاراته عن وحدة الأمة والعدالة الاجتماعية من بضع سنين من أحد مدرسينا، ولم أجد حينها دافعًا إلى معرفة المزيد عنه، فبدأ الرجل يعرض بعضًا من أفكار الحزب ومواقفه السياسية وتطابقها مع ما يدعو إليه الرئيس عبد الناصر في صراعه مع القوى الإمبريالية ومن أجل تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية لشعب مصر والأمة العربية. ولم أتسرع في اتّخاذ موقفي، حيث كنت أريد التحقق من هذا قبل قراري الذي سيكون نهائيًّا في قضية انتمائي إلى حزب أو حركة.
وفي عام 1957 كنت قريبًا جدًا من أفكار صديقي صبحي محمد الداود فسألته: «هل أستطيع الانتماء إلى الحزب؟». قال: «نعم بالتأكيد، وإنني لم أُفاتحك بالانتماء بعد كل تلك الأيام التي تكلمنا فيها عن الحزب ومواقفه وأفكاره، على الرغم من الصداقة والثقة اللتين تربطاننا لأنني أردتُ أن تذكرها أنت عندما تكون مقتنعًا وجاهزًا».
في الأسبوع الذي تلا هذا الحديث جلب لي كتاب في سبيل البعث لميشيل عفلق، وأكد ضرورة السريّة في قراءته، وإعادته إليه بعد الانتهاء منه، ثم أخبرني بأنني كنت صديقًا والآن أصبحت مؤيدًا في الحزب. وبعدها فهمت منه أنني كي أصبح نصيرًا وعضوًا في الحزب يجب أن أمضي وقتًا ليس قليلًا في التثقيف والنضال. وأخبرني بأن هناك طلبة آخرين من المنتمين، فصارحته بالقول: «أُفضل أن يكون اتصالي بك فأنت صديقي ومحل ثقتي».
وفي 14 شباط/فبراير 1958 أُعلن الاتحاد الهاشميّ بين مملكة العراق والمملكة الأردنية الهاشمية استباقًا لإعلان الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية التي كانت المباحثات لتحقيقها قد وصلت إلى مراحلها النهائية، وأُعلنت في 22 شباط/فبراير 1958، واشترط فيها الرئيس عبد الناصر حل الأحزاب السياسية كافة فوافق حزب البعث في سورية على حلّ نفسه في سبيل تحقيقها. وأُعلن الرئيس عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة التي كان إعلانها عيدًا قوميًا للشعب العربي في كل مكان، أما الاتحاد الهاشميّ بين العراق والأردن فكان اتحادًا غير اندماجي، واحتفظ كل منهما بشخصيته الدولية المستقلة ونظام حكمه. ونُصِّب ملك العراق رئيسًا له وملك الأردن نائبًا لرئيس الاتحاد، أما مقرّ الحكومة فتقرر أن يكون دوريًّا بين بغداد وعمّان، يُبدَّل كل ستة أشهر، ووافق مجلسا الأعيان والنواب العراقيان عليه في 17 شباط/فبراير 1958، وأُلّفت حكومة الاتحاد وأصبح نوري السعيد رئيسًا لها، ونظر شعبنا إلى هذه الخطوة مشككًا في جديتها، واعتبرها عملًا استباقيًّا للوحدة الحقيقية لشعبي سورية العروبة ومصر عبد الناصر
(((الاتحاد العربي (الهاشميّ) (17 شباط/فبراير- 14تموز/يوليو 1958) صيغة كونفدرالية توصل إليها كلٌّ من العراق والأردن للوقوف بوجه الدعاية الناصرية بعد أن أفلحت كلٌّ من مصر وسورية في إعلان الجمهورية العربية المتحدة يوم 1 شباط/فبراير 1958. ويبدو أن القصد من الاتحاد كان الدفاع عن البلدين في وجه الحركة القومية العربية المتصاعدة، وهو جهد أجهضته حركة الضباط الأحرار في 14 تموز/يوليو 1958 حيث لقي رئيس الاتحاد /ملك العراق مصرعه مع رئيس وزرائه العراقي نوري السعيد، ونائب رئيس الوزراء إبراهيم هاشم وهو أردنيّ. لم يُغيِّر انتقال رئاسة الاتحاد العربي، نظريًا على الأقل، إلى ملك الأردن الحسين بن طلال، في واقع الأمر شيئًا، إذ انتهى هذا الاتحاد بانسحاب أحد طرفيه (العراق) منه. للتفاصيل انظر كتاب مؤيد الونداوي، الاتحاد العربي في الوثائق البريطانية: المجموعة الوثائقية البريطانية الرسمية الكاملة للاتحاد العربي الهاشمي بين العراق والأردن لعام 1958، تقديم سيّار الجميل (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013) )))
تخرجت دورتنا في الكلية العسكرية في 30 حزيران/يونيو 1958، ورعى حفلة التخرج الملك فيصل الثاني ملك العراق. أُلحقت بالصنف المدرع، ومُنحنا إجازة لمدة أسبوعين على أن نلتحق بمدرسة الدروع في معسكر أبو غريب الواقع في ضواحي بغداد الغربية يوم 14 تموز/يوليو 1958.
صبيحة يوم الاثنين 14 تموز/يوليو نهضت مبكرًا في دارنا في مدينة بعقوبة وفتحت المذياع، فكان يذيع الأناشيد الحماسية ومنها نشيد «الله أكبر»، ثم أعقبها إذاعة بيان قيام القوات المسلحة الوطنية بالثورة على النظام الملكي، وإعلان جمهورية شعبية عُهدت رئاستها بصورة موقتة إلى مجلس سيادة يتمتع بسلطات رئيس الجمهورية ريثما يتم استفتاء الشعب لانتخاب الرئيس. وكان البيان بتوقيع العقيد الركن عبد السلام محمد عارف
((( ولد عبد السلام محمد عارف في 21 أيار/مايو 1920 في بغداد من عائلة تنحدر أصولها من قبيلة جميلة العربية الساكنة قرب مدينة الفلوجة، وكان خاله الشيخ ضاري أحد قادة ثورة العشرين ضد القوات البريطانية. التحق بالكلية العسكرية وتخرج فيها عام 1941 برتبة ملازم ثانٍ. شارك في حركة مايس ضد القوات البريطانية واشترك في حرب 1948 في فلسطين، وفي عام 1951 أُرسل إلى دورة تدريبية مع الجيش البريطاني في دسلدورف في ألمانيا الغربية، وبقي فيها ضابط ارتباط للضباط العراقيين الملتحقين بهذه الدورة لغاية عام 1956. عاد بعدها آمرًا لفوج في اللواء العشرين في معسكر جلولاء قرب خانقين، وانضمّ إلى تنظيم الضباط الأحرار في عام 1957 بترشيح من أخيه عبد الرحمن الذي سبقه في الانتماء إلى هذا التنظيم، وكان عضوًا في هيئته العليا، فطلب إدخال صديقه الزعيم عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر فوافق التنظيم بعد تردد. وأصبح الزعيم قاسم قائدًا للتنظيم بحكم قِدمه العسكري فيما كان عبد السلام محمد عارف المنفذ الرئيس لثورة تموز/يوليو 1958، وتقلد بعدها منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة، ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، ولميوله القومية اختلف مع قاسم ذي الميول اليسارية فجُرّد من مناصبه، وأُبعد سفيرًا إلى ألمانيا الغربية، ولما عاد اتُهم بمحاولة اغتيال الزعيم، وحُكم عليه بالإعدام ثم استبدل بالسجن المؤبد ثم الإقامة الإجبارية، وفي ثورة 8 شباط/فبراير 1963 اختاره البعثيون رئيسًا للجمهورية في إثر انقلاب 1963 على حكم قاسم، لكنه ما لبث أن انقلب عليهم وتفرّد بالحكم، وقُتل في حادثة سقوط السمتيّة [طائرة الهليكوبتر] التي كان يستقلها في زيارة تفقدية للمحافظات الجنوبية مساء 13 نيسان/أبريل 1966 ))) عن القائد العام للقوات المسلحة الوطنية. وفي البيانات اللاحقة أُعلن أن الزعيم عبد الكريم قاسم
((( ولد عبد الكريم بن جاسم (قاسم) بن بكر بن عثمان في محلة المهدية في بغداد في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1914، وفي السادسة من عمره انتقل مع والده إلى الصويرة حيث دخل المدرسة الابتدائية. عاد مع والده إلى بغداد في عام 1926، وتخرّج في مدرسة الرصافة الابتدائية عام 1927، ثم في الثانوية المركزية في بغداد عام 1931، وعمل معلمًا في مدرسة ابتدائية في قضاء الشامية في محافظة الديوانية جنوب العراق، قبل أن يلتحق بالكلية العسكرية عام 1932، ويتخرج عام 1934. عُيّن في الكلية العسكرية آمرًا لفصيل في الدورة 17 عام 1938، وكان من طلابها عبد السلام عارف ورفعت الحاج سري وأحمد حسن البكر، وفي 24/1/1940 دخل كلية الأركان وتخرّج في 11/12/1941. سافر إلى إنكلترا لمعالجة الشق في شفته العليا عام 1947، وشارك في حرب فلسطين عام 1948، وكان آمر فوج في منطقة كفر قاسم، وأبلى فيها بلاء حسنًا. سافر في عام 1950 إلى إنكلترا للاشتراك بدورة التعبئة للضباط الأقدمين، وفي عام 1956 عُيّن بمنصب آمر اللواء التاسع عشر في معسكر المنصورية في محافظة ديالى، وانضم إلى تنظيم الضباط الأحرار بتوصية من صديقه العقيد الركن عبد السلام عارف، وأصبح زعيم التنظيم لقدمه العسكري. اتفق مع صديقه عبد السلام عارف على القيام بالثورة من دون إعلام التنظيم، وانفردا بها بعد نجاحها، ثم دبّ الخلاف مع عبد السلام فأراد إبعاده إلى ألمانيا، ثم حكم عليه بالإعدام بحجة محاولة اغتيال الزعيم، وانفرد بعدها بالحكم، وأطلق عليه أنصاره الشيوعيون لقب الزعيم الأوحد، تعرض بعد إعدام رفاقه من قادة الضباط الأحرار لمحاولة اغتيال من جانب البعثيين، ومن ضمنهم صدام حسين، وأُعدم بعد قيام ثورة 8 شباط/فبراير 1963 ))) هو زعيم الثورة والقائد العام، وأن العائلة الملكية قد قُتلت. في اليوم الثاني أُعلن مقتل نوري السعيد
((( هو نوري بن سعيد بن صالح ابن الملا طه، ولد في بغداد عام 1888 من عائلة من الطبقة المتوسطة حيث كان والده يعمل مدققًا (مميزًا) في إحدى الدوائر في العهد العثماني. درس وتعلم في المدارس العسكرية في بغداد، وتخرّج في المدرسة الحربية (العسكرية) في اسطنبول عام 1906 ودخل مدرسة الأركان في عام 1911. شارك في حربيّ البلقان والقرم، وتبنّى الفكر القومي العربي وشارك في الجمعيات السرية التي كانت تدعو إلى استقلال العراق والعرب عن الدولة العثمانية، لذا شارك في الثورة العربية على العثمانيين بقيادة الشريف حسين، واختارته الحكومة البريطانية لعضوية المجلس التأسيسي للعراق في عام 1920، وكتبت المس بيل «السكرتيرة الشرقية» لبريطانيا في العراق بعد أول لقاء معه: «إننا نقف، وجهًا لوجه أمام قوة جبارة، ومرنة في آن واحد، ويجب علينا نحن البريطانيين إما أن نعمل معها يدًا بيد وإما أن نشتبك معها في صراع عنيف يصعب إحراز النصر فيه». نوري باشا السعيد هو رجل العراق القوي في العهد الملكي، ورجل السياسة الداهية، تولى رئاسة الوزارة 14 مرة بين عامي 1930 و1958، وكان له الدور الرئيس في تشكيل جامعة الدول العربية في عام 1947، وفي دخول العراق حلف بغداد في عام 1954، وفي إنشاء الاتحاد الهاشميّ في عام 1958. وُصِف بأنه رجل الغرب في العالم العربي. هرب من العراق مرتين، الأولى بعد انقلاب بكر صدقي في عام 1936، وفي ثورة أيار/مايو (مايس) 1941. قتل في 15 تموز/يوليو 1958 بعد قيام الثورة، حيث هرب ثم أطلق على نفسه الرصاص بعد انكشاف تنكره ومحاصرته من جانب بعض الجماهير والعسكريين. مات نوري السعيد ولم يترك لأهله مالًا أو ميراثًا ))) رجل العراق القوي ورئيس حكومة الاتحاد الهاشميّ.
كان الوالد قد عُيِّن آمرًا لثكنة وزارة الدفاع، وكان يذهب كل يوم صباحًا من بعقوبة إلى دائرته في وزارة الدفاع ويعود إليها بعد انتهاء الدوام، فارتدينا ملابسنا العسكرية على عجل، وغادرنا إلى بغداد في عجلته العسكرية. وفي المسير إلى بغداد كانت الطريق مزدحمة بأرتال اللواء التاسع عشر الذي يقوده الزعيم عبد الكريم قاسم