يسجل التاريخ لصالح باي صفحات مليئة بالمآثر والأعمال العظيمة وخاصة الأعمال الحربية التي أهلته لأن يصبح أحد القادة العسكريين الجزائريين في العهد المتميزين بشجاعتهم وبطولاتهم، فهو الذي تصدى للحملة الأسبانية التي تعرضت لها الجزائر في جويليه من عام 1775م.
ولقد ولد صالح باي بمدينة إزمير غرب الأناضول سنة 1137هـ/ 1725م من أب يدعى مصطفى ينتمي إلى أسرة متوسطة الحال.
وعندما ناهز السادسة عشرة اضطرته الظروف أن يهجر موطنه الأول ويلتحق بأوجاق الجزائر لينجو بنفسه من الإنتقام الذي كان يتهدده إثر تسببه في قتل أحد أترابه دون تعمد.
لقد عمل في أول عهده بالجزائر في مقهى الأوجاق حيث كان يساعد صاحب هذا المقهى، ولعله اضطر إلى هذا العمل لصغر سنه وعدم خبرته بالحياة ولجهله بأوضاع البلاد.
وعلى كل فإن هذا العمل رغم تواضعه سمح لصالح باي بأن يتعرف على واقع الجزائر، ويطلع على طبيعة الحكم وأسلوب الإدارة القائمة بالجزائر آنذاك، فضلاً عن أنه وفر له الفرصة للتعارف مع بعض رجالات الأوجاق الذين لم يبخلوا بمساندته فيما بعد للحصول على إذن من مجلس الديوان بالإنخراط في فرقة الأوجاق والإلتحاق بعد ذلك بحملة الشرق السنوية المتوجهة إلى قسنطينة لتعزيز الحامية التركية بها والمشاركة في جمع الضرائب في الأرياف، وهي الحملة التي يرجح أن يكون قد قادها الباي أزرق العيون.
وفي مدينة قسنطينة، بدأ صالح بأي مرحلة جديدة وخطيرة من حياته، برزت خلالها مهارته الحربية وكفاءته التنظيمية ومقدرته الإدارية، مما جعل أحد قواد جيش البايلك وهو أحمد القلى يشيد به ويقدر فيه تلك الخصال العسكرية التي شهد له بها الجميع أثناء الحملة التي شنها الباي أزرق العيون على تونس 1169هـ. وعند تولي أحمد القلى منصب الباي بقسنطينة 1170هـ/ 1756م بادر بتعزيز أواصر الصداقة مع صالح باي، حتى أنه زوجه بإبنته وولاه قيادة الحراكتة وهي القيادة التي لا تسند عادة إلا إلى أهم شخصية بالبايلك بعد الباي، وذلك لشدة شكيمة هذه القبيلة ولوفرة المداخيل التي كانت توفرها خزينة الدولة.
وقد بقي صالح باي على رأس قيادة الحراكتة ثلاث سنوات اكتسب أثناءها في تسيير الأمور الإدارية ومعالجة المهام العسكرية. وبعدها تولى مهام خليفة الباي بقسنطينة. وظل يشغل هذا المنصب ست سنوات 1765 – 1771م كان فيها نعم السند لصهره الباي أحمد القلى. وقد ناب عنه في تقديم العوائد الفصلية "الدنوش الصغرى" للداي محمد عثمان باشا الملقب بالمجاهد (1179 – 1205هـ/ 1761 – 1791). وقد كسب صالح باي ثقة الباي محمد عثمان باشا، مما ساعده على الإرتقاء إلى منصب الباي إثر موت صهره أحمد القلى في صيف سنة 1771م.
وهنا بدأت صفحة جديدة من حياة صالح باي مليئة بالمآثر والأعمال الحربية التي أهلته لأن يصبح أحد القادة العسكريين الجزائريين المتميزين بشجاعتهم وبطولاتهم.
إن الأعمال الحربية التي اشتهر بها صالح باي مع تعددها وتنوع أغراضها تتمثل في الحملات الفصلية لاستخلاص الضرائب ومعاقبة العصاة ووضع حد للفوضى، وفي الهجمات العسكرية التي استهدفت الأقاليم البعيدة عن قسنينة وضد توسيع نفوذ البايلك ومدَ سلطة الدولة على المناطق النائية مثل المناطق الصحراوية والأقاليم الجبلية. وهناك كذلك أعمال حربية لردَ هجوم خارجي أو لتأمين حدود محددة.
فمن حملاته الفصلية تذكر حملته على قبيلة الزمول جنوب قسنطينة وتتبعه لعشيرة السقينة. كما نذكر محاولاته لمهاجمة أولاد عاشور بفرجيوه (1776 – 1781) حتى يحد من تطلعات شيخهم محمد الشلهوم.
ومن الهجومات العسكرية البعيدة المدى، نذكر حملة صالح باي على أولاد عمور الذين أعلنوا العصيان وجاهروا بالعداء ضد سلطة الدايات بالجزائر منذ 1785. وقد انتهى صالح باي في حملته هذه إلى زنينة وآفلو وتاجموت والأغواط التي تعرضت للهجوم، وكذا دشرة النميلة التي أنزل بها عقاباً شديداً حيث قتل بها مائة رجل منها. وبعث برؤوسهم لتعلق بقسنطينة لتكون عبرة لمن تسول له نفسه العصيان.
وتدخل ضمن هذه الهجمات غارته على أولاد نائل التي حصل خلالها على مغانم كثيرة بعد انتصاره على جموع المتمردين في معركة أومسيف وقبل أن يعود صالح باي من هذه الغارة إلى قسنطينة ويدخلها دخول المنتصرين في أكتوبر 1773، بعث إلى الجزائر بكثير من الغنائم وكذا بستين رأساً وأربعمائة زوج من آذان العصاة الذين قضى عليهم وذلك ليظهر للداي مدى انتصاره على القبائل المتمردة بنواحي الجلفة وبوسعادة التابعة لبايلك التيطري.
ونذكر من بين هجماته كذلك حملته على مناطق الزيبان ومحاولته استدراج شيخ الدوادة محمد الرياح إلى أن يدخل تحت طاعته رغم تخوف هذا الشيخ من بطش صالح بأي وشروطه الثقيلة. وقد توج صالح بأي نشاطه بنواحي الزيبان بمهاجمة توغرت وإخضاع أمرائها من بني جلاب وذلك في سنة 1778.
ويروى عن حملة صالح باي على توغرت بأن من الأسباب التي يعود إليها تحريض الشيخ أحمد الناقم على أبن عمه الشيخ عمر حاكم توغرت، وكذا عدم رضى صالح باي بمقدار الغرامة المترتبة على الشيخ فرحات الذي خلف أباه في حكم منطقة وادي ريغ.
وقد دفع كل ذلك صالح باي إلى الإستعداد للحملة والتقدم إلى منطقة الزيبان حيث كان خليفته بلشانة يسهر على جمع ضرائب طولقة وبوش قرون والزعاطشة وبعض الواحات. وعندما بلغت الحملة وادي جوى تولى صالح باي بنفسه قيادتها. ورغم رداءة الأحوال الجوية والعواصف الثلجية تمكن صالح باي بعد ثمانية عشر يوماً من الوصول إلى نواحي سيدي خالد، ونصب خيامه قرب توغرت.
وأمام تعنت صاحب المدينة، فرض صالح باي حصاراً مشدداً عليها استمر عدة أسابيع قاصفاً خلالها بإستمرار أسوار المدينة وتحصيناتها بالمدافع التي اصطحبها معه لهذا الغرض. وقد شدد الخناق على المدينة بأن أمر جنوده بقطع النخيل المحيط بها. ولم يجد حاكم المدينة بد من أن يطلب الصلح ويقبل بشروط صالح باي الثقيلة خاصة بعد أن أحدثت المدافع ثغرات في أسوار المدينة وألحقت أضراراً بأبراجها. وقد تكفل الشيخ عمر بن جلاب بتسديد نفقات الحملة وتقديم غرامة تقدرة بثلاثمائة ألف ريال تضاف إليها مجموعة من الخيل والعبيد وذلك مقابل الحصول على عهد الأمان ورسم التولية على إقليم واد ريغ.
أما أعمال صالح باي في إحباط الهجوم البحري الأسباني الذي قاده الكونت أوريي والذي تعرضت له الجزائر في عهد الداي عثمان باشا خلال الفترة الممتدة من 30 يونيو إلى 16 يوليو من سنة 1775م. لقد تحقق صالح باي من قدوم الحملة الأسبانية عندما كان يتأهب للعودة إلى قسنطينة بعد تأدية "الدنوش" السنوية لداي الجزائر. وقد اتخذ مواقعه بسرعة بالنواحي الشرقية للجزائر العاصمة في بين وادي الحميز ووادي الحراش، وبادر بالهجوم على طلائع الحملة الأسبانية.
وقد أبدى في المعارك شجاعة نادرة وباسلة قل نظيرها. وقد تطرق نقيب الإشراف إلى هذه الملحمة بالعبارات التالية:
"جاء صالح باي قسنطينة من ناحية الوادي وقدم أمام الاسبانيول "كذا" الألوف من الإبل. فلما قربت من المتاريس ابتدأ القتال. حمل صالح باي بقومه وعسكره على المتاريس ثم التحق به الناس من كل النواحي فحملوا حملة رجل واحد وأعلنوا كلمة التوحيد... فوجدوا أغلب النصارى ملقين على الأرض بدون رؤوس.. ولحقوا الهاربين منهم إلى البحر، فقتلوا من لحقوه".
وهناك تساؤل يثار حول عدد الجنود الذين عسكر بهم صالح باي بالقرب من وادي الحراش، وإن كانت بعض المصادر تقدره بحوالي 30 ألف جندي من مجموع 100 جندي شاركوا في ردَ الهجوم الأسباني أما عن أعماله لتأمين حدود البايلك فنذكر. موقفه الحازم من باي تونس حمودة باشا في سنتي 1783و 1787م. ويتلخص هذا الموقف الذي وقفه صالح باي من باي تونس والذي يمثل خير شاهد على حنكته السياسية وحسن تصرفه في مثل هذه القضايا، في أن صالح باي أصر على أن تقدم به تعويضات ملائمة عن الخسائر التي كان قد أحداثها حسن الكبير قائد علي باي تونس عندما لاحق قبائل تونسية استقرت بجنوب تبسه هرباً من تعسف على باي تونس.
وتحت تهديد صالح باي باستعمال القوة اضطر حمودة باشا الذي خلف أباه علي باي في حكم تونس (2 مايو 1782) إلى الرضوخ لمطالب صالح باي وتقديم التعويضات الملائمة بعد أن رأى أن لا جدوى من الاستعداد للحرب والتصدي لصالح باي بالحدود التونسية خاصة وأن وضع تونس آنذاك كان حرجاً لتورطها في خلاف حاد مع البنادقة. وبذلك حصل صالح باي في سنة 1784م على تعويضات قدرت بخمسة وعشرين ألف سكة لفائدة القبيلة التونسية المقيمة داخل حدود البايلك.
غير أن هذا النزاع ما لبث أن تجدد بين صالح باي وحمودة باشا إثر ملاحقة صالح باي لبعض العشائر الجزائرية الخاضعة لحكمه والتي لجأت بدورها إلى الأراضي التونسية هروباً من المطالب المالية التي فرضها عليها عمال صالح باي، وعندها تهيأ صالح باي لمهاجمة تونس على رأس جيش قدر بحوالي ستة آلاف محارب. ورغم استعداد حمودة باشا لصدَ هذا الهجوم بقوة قدرعددها بألفي تركي وثلاثة آلاف من الكراغالة وعدد كبير من الفرسان العرب، فإنه ركن إلى مهادنة صالح باي ودفع ما توجب عليه من التعويضات.
وقد وصف أحد المؤرخين القسنطينيين هذه الأحداث بقوله: "ولما انتهى إلى باي تونس بأن صالح باي نزل حيدرة يريد استرجاع من فر من وطنه إلى تونس، عظم الأمر وخشي على نفسهز فوجَه إليه كاتبه بعد عبد العزيز في حملة من الجوانب.... ثم بعد ذلك اجتمع صالح باي وتحدث معه ووعده بمال جزيل وأمره صالح باي بأن يبلغ مكتوبه إلى باي تونس بأن يكون معيناً لمن يرسله ليرجع الفارين وطنهم فانعم له بذلك. ثم أن صالح باي بعد إنفصال عبدالعزيز من عنده، وجه قريبه محمد خوجه العجمي لاسترجاع الفارين من بلد تونس، وتوجه هو وكافة من كبراء الفرسان إلى بلد تونس... فمكث هناك أياماً واستحضر من أراد استرجاعه".
وهكذا وبهذه الأعمال استطاع صالح باي أن يمد نفوذ الدولة الجزائرية على كامل الجهات الشرقية وأن يؤمن حدود البايلك، وأن يحد من طموحات حمودة باشا وأن يضع حداً لتحرشاته المتكررة.
وقد دام حكم صالح باي لبيلك الشرق حوالي عشرين سنة كانت حافلة بالبطولات الحربية. غير أن هذا العهد انتهى نهاية مأساوية بتنحية صالح باي وعزله من طرف الداي بابا حسان، وتنفيذ حكم الإعدام فيه خنقاً بحصن القصبة لليلة أول سبتمبر 1792 بعد أن تورط في محاولة عصيان انتهت بقتل الباي ابراهيم الذي خلفه.