لن يعتمد الجيش الاميركي على القوة الجوية في الحرب المقبلة. لكنه دون ذلك الغطاء، لن يتأمن اسقاط الامدادات والمؤن، طائرات دون طيار للاستطلاع او طوافات اخلاء طبي تنقل الاصابات، وستسقط بالطبع اصابات.
قال الجنرال Mark Milley رئيس الاركان في الجيش الاميركي انه يتوجب على القوى البرية ان تدخل المناطق المحرمة لتسهيل عمليات القوات الجوية والبحرية.
يعود الجنرال Milley الى اسلوب حرب اميركي وحديث ظهر في العام ١٩٤٤ مع عمليات الانزال في النورماندي في فرنسا وتينيان من المحيط الهادئ حيث عمد الاميركيون بادئ ذي بدء الى تأمين السيطرة على البحر والجو، وبعدها قاموا بقصف القوى البحرية المعادية ثم انزلوا القوى البرية، التي تبعتها موجات الدعم والتموين
لكن الآن تتعرض كل خطوة من هذه العملية للتهديد جراء تكاثر اعداد الصواريخ الدقيقة البعيدة المدى، الى جانب المجسات لاستهدافها والشبكات لقيادتها. ويشكل ذلك كله مبدأ تحريم المنطقة ومنع الوصول (Anti-Access Area Denial). وعلى قدر ما كانت حربا العراق وافغانستان سيئتين، فان حربا ضد عدو جيد التسليح مثل روسيا والصين قد تكون اسوأ لانها تقلب الافتراض الذي ساد طويلا حول كيفية قتال الولايات المتحدة. وفوق هذا كله فان استهداف صواريخ بعيدة المدى طائرات اميركية، حاملات طائرات، وقواعد جوية قد يضرب ويشل الدعم الجوي الذي اعتمدت عليه القوات البرية الاميركية منذ الحرب العالمية الثانية. كما تقطع القرصنة والتشويش الاتصالات ويعمي المستشعرات . اما الصواريخ المضادة للدروع، القذائف الصاروخية التي تطلقها المدفعية بالاضافة الى القنابل المزروعة على جوانب الطرقات تقطع طريق ارتال التموين وتدمر القواعد الثابتة بشكل هائل.
ويلفت الجنرال Milley الى انه في ارض المعركة المستقبلية، ان بقيت في مكان واحد لاكثر من ساعتين او ثلاث ستموت او تصبح خاضعا للتطويق كمعيار.
تعد هذه الصورة السوداوية القاتمة نقطة البداية لمفهوم المعركة المتطورة والمعروف بالمعركة المتعددة الميادين (Multi-Domain Battle)، فعوضا عن الاعتداد بجوانب السيطرة الاميركية المعهودة، الدعم الجوي عينه، اعادة التموين المنتظمة، الاتصالات الدائمة والمستمرة مع الرعائل العليا، سيأخذ الجنود المبادرة للاستفادة من الاوقات السريعة من السيطرة المؤقتة، كما سيكون عليهم تعلم العمل في وحدات صغيرة مع دعم خفيف الى حده الاقصى ولفتح نوافذ يطالبون منها الفرص بما تيسر لهم من اعتدة. قد تتضمن اعتدة تلك الوحدات آليات مدرعة جديدة، صواريخ بعيدة المدى اعتدة حرب الكترونية وسيبرانية، مما يسمح للوحدات البرية باستلام المهمات التي هي من صلاحية سلاح الجو والبحرية بالفعل، ان الفكرة الكامنة وراء تعبير الميدان المتعدد هي ان قوات الجيش لن تكون مكتفية ذاتيا فحسب، انما ستكون ايضا قادرة على توسيع مدى بلوغها لما هو ابعد من الارض لدعم العمليات في البحر والجو.
لم يكن ذلك من الدور المسنود للقوى البرية في المحاولات الاولى لمواجهة تحريم المنطقة ومنع الوصول (Anti Access/Area Denial) وهو مفهوم مسمى المعركة البحرية والجوية (Air - Sea Battle). لقد كان الحل الاولي تقنية التراجع، والتراجع كناية عن التمركز على بعد آمن على المدى الآمن الابعد، حيث لن تطالكم اكثرية اسلحة العدو. وعندها تعملون تدريجيا على ضرب الحامية بصواريخكم البعيدة المدى. تدمرون نظامهم بعيد المدى تتقدمون الى مسافة اقرب قليلا وتدمرون نظامهم الثاني الابعد المدى، وتعيدون هذه العمليات. تكمن المشكلة في ان هذا الاقتراب عن بعد هو شاق بسبب بطئه. اما بالنسبة للحلفاء المحاصرين داخل منطقة A2/AD المعادية منطقة A2/AD الروسية تغطي دول البلطيق واغلبية بولونيا، فيعني ذلك ان المدرعات الاميركية لن تحضر ابدا في غضون وقت قريب. وفي ما يخص الاعداء المتمتعين بما يكفي من الذكاء ليسيطروا على ما يشاؤون في هجومهم الاول، كما فعلت روسيا في القرم، يمكنك ربما الاحتماء وانتظار خروج الاميركيين. لذا، ينمو شعور في مختلف الاسلحة الاميركية انه عليها الضغط بشكل اكبر واسرع.
يقول الاميرال John Richardson وهو مدير العمليات البحرية انه بالنسبة للبعض، فان A2/AD هي كلمة رمز، توحي منطقة ابقاء في الخارج غير قابلة للدخول والتي يمكن للقوى ان تدخلها وهي تخاطر بذلك بشكل كبير. اما تعبير تحريم (Denial) كما هو واقع في تحريم المنطقة ومنع الوصول (Anti Access Area Denial) يأخذ دائما كأمر واقع، اما في الواقع فهو يعني بشكل ادق الطموح. وعليه، عوضا من معالجة ال A2/AD كمنطقة قتل يتم التعامل معها عن بعد، تعاملها المقاربة المتطورة كنظام معقد مع نقاط ضعف لا مفر منها تدخله القوات الاميركية. يمكن تشبيه الوضع بالمياه التي تسيل من سد اصابه التلف، وبالتالي، تدخل العناصر المهاجمة الاولى عبر التصدعات التي احدثتها الضربات البعيدة المدى، اغارات العمليات الخاصة، الهجمات السيبرانية، وتجبرها على التوسع اكثر بقليل الامر الذي يتيح لقوى اكبر للدخول وتوسيع الفتحات اكثر الى ان تنهار البيئة من الداخل.
بعد ذلك تطبيقا لفكرة قديمة، اذ انه برز بين المنظر العسكري B.H. Liddell Hart ليسمي تلك الفكرة بالسيل الموسع (expanding torrent).
ابتكرت المفهوم قوات العاصفة (Stormtroopers) الالمانية وهي قوات النخبة في الحرب العالمية الاولى: فعوضا من التقدم الى الامام على مرمى نيران الرشاشات في خطوط قتال تقليدية وسهلة الاستهداف، شكلت تلك القوات فرقا صغيرة تقدمت بشكل مستقل، متخذة دريئات حيثما امكن، وخرقت النقاط الضعيفة والتفتت على النقاط القوية، ولو ان ذلك عنى ترك قوى معادية بين قوى النخبة تلك وبقية الجيش الالماني وهي بالتالي تكتيكات التسلل
اما العمليات الخاطفة الألمانية في الحرب العالمية الثانية فقد اعتمدت تكتيكات قوات العاصفة المؤللة المجهزة بالدبابات، الشاحنات والطائرات الا ان كل هذه الأعتدة سمحت لها بالعمل بشكل اسرع على نطاق أوسع بكثير وربطت كلها بعضها بالبعض الآخر بواسطة الأجهزة اللاسلكية.
توسع المعركة المتعددة الميادين Multi-Domain Battle ومفهوم العمل الخاص بمشاة البحرية (Marine Corps Operating Concept) المرتبط، الحرب الخاطفة، مع وحدات منتشرة وموزعة على مناطق أوسع حتى. وبما ان الاسلحة تصبح ابعد مدى واكثر تدميرا وأدق، يتوجب اذا على القوات البرية التقدم لتصبح قريبة جدا من العدو وتتوزع بشكل أوسع لكي لا تتحول الى اهداف سهلة.
يقول الجنرال Milley مع تواجد المجسات في أي مكان فإن احتمال ان يكشف الجنود عالي جدا، وكالعادة عندما تكشف تضرب وستضرب سريعا بذخائر ذكية او غير ذكية وفي كل الحالات ستموت. مما يعني بالتالي ان يبقى عناصر تشكيلاتنا احياء، مهما اقتضى الأمر، فعلى التشكيلات ان تكون صغيرة، وان تتحرك باستمرار وسيتوجب عليها ان تتجمع وتتفرق بسرعة، كما وعليها ان تستخدم كل التقنيات المعروفة للإختباء والتدرؤ.
تنطوي هذه المشكلة على المجازفة، فعوضا عن ابقاء القوى مع بعضها البعض في خط قتال تدعم فيه بعضها بعضا، تعطى القوة للقادة الشباب الاندفاع عند رؤيتهم فرصة قابلة للاستثمار. ان تصرفوا خطأ او عندما تنقلب الحظوظ بشكل سريع، فقد ينتهي الأمر بالنسبة للوحدات بالعزل والتوقف عن العمل. وفي ما يختص بالمعركة المتعددة الميادين خصوصا، وهي عقيدة بنيت على استثمار الفرص السريعة، فمن الممكن جدا لضربة جوية، سد ناري، هجوم سيبراني ام التشويش من قبل الاميركيين ان يجمدوا العدو لفترة كافية من الزمن لتتقدم القوى البرية ومما يسمح للعدو باستعادة قواه، وهذا ما عناه الجنرال Milley عندما قال سيصبح التطويق كمعيار.
يقول الجنرال David Perkins قائد التدريب والعقيدة وهو من الف مفهوم المعركة المتعددة الميادين. وهذا الامر من الاشياء الكبيرة التي ننظر اليها، ويمضي قائلا: من الممكن جدا ان يكون مستوى عال جدا من توزيع القوى ومنها من سيتمتع بسيطرة نسبية عندما تفتح نافذة في السيطرة على ميدان معين، قبل ان تقفل والآن ما يمكنكم فعله؟.
ويتابع الجنرال Perkins لقد اصبحت الحماية والقوة على البقاء من الأهمية بمكان. فكيف تؤمنون حماية وحدة معزولة دون حشد قوات صديقة على مقربة لدعمها؟ كيف تبقون على قوة معزولة مدعومة وممونة، عندما تمر خطوط التموين عبر منطقة حرام.
يشرح الجنرال Perkins: تأخذون مفهوم المناورة الذي يوزع القوى على مناطق واسعة. الان سآخذ مفهوما للدعم لم أنشأ عليه، وهو ان يقفز رقيب اول في آليته ويرجع الى الوارء ويؤمن مقطورة من الاغذية ويوزعها على الجميع.
لقد كانت اللوجستيات السخية نقطة قوة للقوات الاميركية منذ الحرب العالمية الثانية، لكن التجارب في العراق وافغانستان اظهرت كم تكون رهيبة قيادة شاحنات التموين في ارض لا تسيطر عليها بشكل كامل. يتطلع الجيش بجدية الى آليات تموين قابلة للاستهلاك، وهي شاحنات ذاتية القيادة وطائرات دون طيار للنقل نوع K-MAX لتخفيض عدد الجنود المعرضين للخطر في المواكب.
كما ينظر الجيش الأميركي الى تخفيض كمية المؤن التي قد تطلبها وحدات الخطوط الأمامية، من خلال مدهم بقطع غيار كمبيوترية التصميم ميدانيا، وتجهيزهم بآليات قتال اقتصادية من حيث استهلاك الوقود. سيكون اجلاء الاصابات الى الخطوط الخلفية على القدر نفسه من الصعوبة في دفع القوى الى الأمام، وبالتالي ستحتاج وحدات الخطوط الأمامية عناية طبية اكثر في مواقعها.
يتابع الجنرال Perkins: في الوقت الذي تستطيع ايجاد وسائل جديدة لإرسال المؤن الى المناطق الخطرة، سيكون علينا تخفيض طلبات الدعم لأنه من المحتمل جدا ان تعمل القوى في مكان ما لفترات طويلة من الزمن وليس لدينا خطوط مواصلات دائمة.
ويلفت الجنرال Perkins الى ان تخفيض الطلب على المؤن يعني قبل أي شيء آخر تخفيض استهلاك الوقود. يتطلب ذلك الحد من الوزن، مما يعني أسلحة اصغر، ذخيرة اقل وخصوصا تدريعا أقل. قد تكون دبابات M1 Abrams الآليات الأفضل حماية في العالم، لكنها تحتاج الى ٣ غالون من الوقود للميل الواحد، وتوجب على وحدة واحدة التوقف عن العمل وسط بغداد في العام ٢٠٠٣ لحين وصول الصهاريج وترافق ذلك مع اصابات كبيرة.
يتطلع الجيش باهتمام بالغ الى اجهزة تشويش إلكترونية خفيفة الوزن لتحييد الاسلحة عن اهدافها وصواريخ مصغرة لتدميرها. استخدم الروس والاسرائيليون نظم الحماية النشطة (Active Protection Systems) بفعالية كبيرة، لكنهم ركبوها على أعلى التدريع في الدبابات الثقيلة ولم يستبدلوها.
وينهي الجنرال Perkins كلامه مشيرا الى أنه مهما تكن المقاربة التي تعتمدونها فالمجازفة تطل برأسها. تواجه القوات الخفيفة خطر كونها ضعيفة مستضرب بشكل مؤذ، والقوى الثقيلة تواجه من جهتها خطر النفاذ من الوقود. لذا تحتاج الى تكتيكات ذكية وتكنولوجيا ذكية للحد من الخطر، لكن القوى لن تستطيع ابعاده، الحرب المقبلة بين الدول والقوى العظمى ستكون مدمرة للغاية وهذا ما لم يختبره قط جيشنا منذ الحرب العالمية الثانية على الاقل.