تشهد كلٌّ من مصر وإسرائيل منذ عام 2012 تعاوناً عسكرياً لم يسبق له مثيل بينهما جرّاء التمرد المستمر الذي يقوده تنظيم «الدولة الإسلامية» في شبه جزيرة سيناء، بحيث أصبحت هذه الظاهرة سبباً رئيسياً دفع كبار المسؤولين من كلا البلدين إلى الإقرار بصورة عامة تقريباً بأن العلاقات الثنائية بينهما تشهد أفضل حالاتها منذ توقيع معاهدة السلام في عام 1979. ويأتي هذا التقارب الأمني في الوقت المناسب، لا سيما وأن المكاسب العسكرية التي حققها تنظيم «الدولة الإسلامية» في سيناء قد حفزت الولايات المتحدة وشركاءها على إعادة نشر «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» («القوة») بعيداً عن الحدود من باب التدابير الاحتياطية المتخذة لحماية القوات [من الأعمال العدوانية]. وفي حين سيستمر تمركز بعض جنود «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» في مناطق معينة، ستعتمد قوات حفظ السلام اعتماداً أكبر على الوسائل التقنية لمراقبة الأوضاع عن بُعد، علماً بأن تداعيات هذا الأمر على العلاقات الإسرائيلية-المصرية على المدى البعيد لا تزال مجهولة.
الخلفية
تعمل «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبون» على مراقبة الالتزام بالأحكام الأمنية الواردة في اتفاقية كامب ديفيد منذ عام 1982، مع التركيز على «المنطقة "ج"» التي تعادل تقريباً ربع مساحة سيناء وتمتد على طول الحدود مع إسرائيل. وحالياً، تتألف هذه القوة من نحو 1700 عسكري وبضع عشرات من المسؤولين المدنيين المبعوثين من 12 دولة، منهم 707 أفراد من الجيش الأمريكي بما فيه "كتيبة المشاة" المحاربة ووحدة الدعم اللوجستي المسؤولة عن تنفيذ العمليات الجوية. وتقدم واشنطن أيضاً ما يقرب من ثلث الميزانية السنوية لهذه «القوة» والتي تبلغ 86 مليون دولار وتؤمّن تمويلاً إضافياً لتدابير الحماية الاحتياطية و"مركبات مقاومة للألغام ومحمية من الكمائن" .
والجدير ذكره أن تشكيل العسكريين إلى «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» كان مرغوباً في السابق، فقد اقتصرت هذه المهمة على أعمال المراقبة الآمنة والرحلات المتكررة إلى شواطئ سيناء النظيفة. ويقيناً، ليست هناك مهمة تخلو من المخاطر - ففي عام 1985 توفي 248 جندياً أمريكياً من "الفرقة المجوقلة 101" في حادث تحطم الطائرة التي كانت عائدة بهم إلى بلادهم من سيناء، وفي عام 2007 تحطمت طائرة أخرى أودت بحياة تسعة عناصر من قوات حفظ السلام الفرنسية والكندية. غير أن «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» لم تواجه أي تهديدات خطيرة على الأرض قبل العقد الماضي.
تدهور الوضع الامني
ظهرت أولى بوادر تغيّر الوضع الأمني في سيناء في الفترة 2005 و2006، حين بدأ مقاتلون من البدو بتنفيذ هجمات على آليات وعناصر «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» بالعبوات المفخخة المزروعة على جوانب الطرق وبالعمليات الانتحارية. ثم تزايدت هذه الهجمات وغيرها منذ الإطاحة بالرئيس حسني مبارك عام 2011 واندلاع التمرد بالكامل في شبه الجزيرة وانضمام الإسلاميين المتطرفين إلى المعركة. وفي عام 2012، تسلل البدو إلى "المعسكر الشمالي" لـ «القوة» وتسببوا بجرح أربعة من عناصر قوات حفظ السلام. وبعد ذلك بعام، تعرّض جندي أمريكي لإطلاق النار بالقرب من مدخل المعسكر. وفي حزيران/يونيو 2015، تعرّض مطار «القوة» في الجورة للقصف المدفعي، ثم بعد شهرين أصيب ستة من جنود «القوة»، من بينهم أربعة أمريكيين، جرّاء عبوة ناسفة زرعتها عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية»
وقد استدعى هذا الهجوم الأخير إلى قيام واشنطن بإعادة النظر في سياستها. فعلى الرغم من القوة العسكرية المصرية الساحقة التي تم حشدها لمواجهة أقل من ألفي متمرد إسلامي وفقاً لبعض التقارير، لم تحرز مصر أي تقدم في دحر هؤلاء بعد خمس سنوات من المعارك. وبدلاً من ذلك، منيت القوات المصرية بانتكاسات شديدة وتسببت بوقوع أضرار جانبية هائلة وفقدت ما يزيد عن ألف شرطي وجندي في سيناء. واليوم يواصل المتمردون هجماتهم على المواقع الثابتة للجيش والشرطة كل أسبوع تقريباً.
لقد استنتجت إدارة الرئيس أوباما على ما يبدو أن القاهرة تفتقر إلى الإرادة اللازمة لإخلاء سيناء من المتمردين وفرض سيطرتها على أراضيها. والأسوأ من ذلك هو أن واشنطن لا تثق بقدرة الجيش المصري على اتخاذ الخطوات الضرورية لحماية «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» كإزالة الألغام عن الطرقات الممتدة من "المعسكر الشمالي"، حتى لو طُلب منها ذلك. والمثال على ذلك هو أن «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» أعلنت في أيلول/سبتمبر الماضي أنها أخرجت عناصر لها من موقع يقع على مسافة خمسة كيلومترات فقط من المعسكر "بسبب العجز عن إعادة تموين الموقع ومواصلة تنفيذ المهام من ذلك الموقع بصورة آمنة". وكما أخبر رتيب (ضابط صف) أمريكي مؤخراً لمراسل، «كان "المعسكر الشمالي" شبيهاً جداً بأفغانستان... فقد كان بالإمكان سماع الدويّ خارج السياج الشائك. وكانت القذائف والرصاصات الطائشة تنهال عشوائياً وكانت صفارات الإنذار تدوّي بضع مرات في الأسبوع. لقد كان الوضع خطراً».
وفي أيلول/سبتمبر، قامت الإدارة الأمريكية بإرسال خمسة وسبعين جندياً إضافياً لدعم التدابير الاحتياطية المتخذة لحماية القوات [من الأعمال العدوانية]. وحيث أيقنت «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبون» عدم كفاية هذا العدد، ما لبثت أن قلّصت عمليات المراقبة وبدأت بدعم الجنود في "المعسكر الجنوبي" في شرم الشيخ. وفي الشهر الماضي، أعلنت واشنطن أنها ستعيد تنظيم تلك «القوة».
إعادة تفعيل «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبون»
مع أن تفاصيل إعادة الهيكلة لم تكشَف بعد، إلا أن معالمها التي أخذت بالظهور تشير إلى التركيز الشديد على حماية «القوة». فقد يتم نقل "مقر قائد «القوة»" وغالبية الجنود إلى "المعسكر الجنوبي"، ربما باستثناء فرقة صغيرة ستُترك هناك للحفاظ على بعض الممتلكات في "المعسكر الشمالي". ووفقا لـ «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين»، يتّسع حالياً "المعسكر الجنوبي" لقوة بحجم كتيبة تقريباً (حوالي 800 جندي)، لذلك قد يكون من الضروري توسيعه. كما أن المراقبين المتواجدين في جزيرتَي «تيران» و «صنافير» في البحر الأحمر - واللتين تخلّت مصر عنهما مؤخراً للمملكة العربية السعودية - قد يبقون في مواقعهم لأن المواقع العسكرية الأمامية محاطة بأميالٍ من المياه وتعتبر آمنة، ولكن في الوقت نفسه يكاد يكون من المؤكد أنه سيتم تقليص حجم «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبون» ككل.
والواقع أن الاعتماد المتزايد على أنظمة الرصد الآلية و/أو المشغّلة عن بُعد هو ما سيتيح تقليص حجم هذه القوة. وقد تشمل هذه الأنظمة كاميرات الفيديو المثبّتة على الأرض، والأجهزة اللاسلكية لتحديد الاتجاه، والكاميرات المثبتة على المناطيد، والصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية التجارية والحكومية، والصور الجوية الملتقطة عبر طائرة "يو-2" المتمركزة في قبرص والتي تتولى مهمة مراقبة سيناء منذ عام 1973. وقد تستوجب الأنظمة الأرضية من العناصر إجراء أعمال صيانة روتينية وقد تدعو الحاجة بشكل دوري إلى تكليف بعض الجنود بمراقبة حركة الجنود المصريين في المواقع التي لا تصلح فيها أنظمة الرصد غير الفاعلة. ولكنّ استبدال مراقبي «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» بالأساليب التقنية سيتيح بالإجمال إجراء تخفيضات كبيرة في عدد الجنود.
التداعيات
في حين أن التكاليف المترتبة على الولايات المتحدة من «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» قد تنخفض بعض الشيء، يبقى شركاء واشنطن في السلام مرتاحين للوجود الأمريكي الكبير في سيناء ومن المحتمل أن يعارضوا أي عملية انسحاب واسعة النطاق حتى مع التحسن المستمر الذي تشهده العلاقات الأمنية بين مصر وإسرائيل. إن الدرس المستفاد من الثورة المصرية هو أن الوضع في القاهرة قد يتغير بسرعة - ففي عام 2012، على سبيل المثال، قامت حكومة الرئيس محمد مرسي الموالية لـ «الإخوان المسلمين» بنشر كتيبة دبابات في سيناء دون الحصول على موافقة واضحة مسبقة من إسرائيل. وعلى الرغم من أن إسرائيل وافقت لاحقاً على مثل هذا الانتشار وبدأت تعمل عن كثب مع القاهرة منذ الإطاحة بمرسي، فهي لا تزال تسعى على الأرجح إلى تجنب أي تخفيض جذري في القوات الأمريكية.
خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد في 12 نيسان/أبريل، أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تونر مراراً وتكراراً إلى أن العملية المزمعة لإعادة هيكلة «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» "لا تشكل استجابة إلى... التهديد الذي يشكله تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على الأرض". إلا أن طبيعة هذه المبادرة التي اتخذتها الإدارة الأمريكية وتوقيتها يشيران بوضوح إلى العكس من ذلك. فالجيش المصري لا يقوم لا باحتواء ذلك التنظيم الإرهابي ولا بدحره؛ ففي آذار/مارس سقط ثلاثة عشر جندياً مصرياً في هجوم واحد قام به التنظيم، ولقي ثلاثة ضباط مصرعهم بعد شهر من وقوع هذه الحادثة. أضف إلى ذلك أن المتمردين يحاولون غرس جذور لهم غرب قناة السويس - إذ أفادت بعض التقارير في الأسبوع الماضي أن مقاتلي «الدولة الإسلامية» قتلوا ثمانية من رجال الشرطة في إحدى ضواحي القاهرة.
ونظراً إلى التطورات الحاصلة في شمال سيناء والتقنيات الجديدة المتاحة، أصبحت إعادة هيكلة «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» منطقية. بيد، بينما يكون جنوب سيناء أكثر أماناً من الشمال، إلا أن التهديدات ما زالت قائمة هناك أيضاً - فمنذ سبعة أشهر فقط، أسقط تنظيم «الدولة الإسلامية» طائرة ركاب روسية قادمة من مطار شرم الشيخ، مما أسفر عن مقتل 224 شخصاً. ونظراً إلى أهمية المنطقة كوجهة سياحية، من المرجح أن تولي القاهرة الأولوية لأمن الجنوب (شرم الشيخ على وجه الخصوص) للمساعدة على إنقاذ هذا القطاع الاقتصادي الهام والمحتضر.
ومع ذلك، سيبقى المصريون بحاجة إلى توجيه خارجي. من هنا، يتعيّن على واشنطن أن تضغط على القاهرة بشكل أكبر لقبول التدريب الأمريكي وتغيير وجهة تموينها بما يتيح اتباع منهجية حديثة لمكافحة التمرد في سيناء، وذلك من أجل المساهمة في الحفاظ على الهدوء في الجنوب وإعادة إرساء الأمن في الشمال. فإذا لم تعكس مصر مسار التمرد، قد تقتضي العملية المقبلة لإعادة نشر «القوة المتعددة الجنسيات والمراقبين» إخراجها بالكامل من شبه جزيرة سيناء.
------------------
الكاتب : ديفيد شينكر هو زميل "أوفزين" ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.