مرت دول الخليج في تعاملها مع الغاز والنفط الصخريين في الولايات المتحدة بأربع مراحل: مرحلة عدم المبالاة به، ومرحلة الإنكار لوجوده، ومرحلة الإدراك والتعايش معه، وأخيرا مرحلة الصحوة والعداء له. ولكل فترة خصائصها وأدلتها.
ثورة النفط الأميركية
المرحلة الأخيرة بدأت في عام 2014، مع أنه كان المفروض أن تحدث قبل ذلك بسنوات، وقبل أن "تقع الفأس بالرأس".
فقد غيرت ثورة النفط الأميركية معالم السوق العالمية للنفط، ولعقود قادمة من الزمن. هذه الثورة جاء بها القطاع الخاص، فلم تنتج عن أي سياسة حكومية أميركية في قطاع النفط الأميركي الذي يتسم بدرجة عالية من المرونة.
كذلك، لا يمكن إنكار دور النفط الأميركي في منع ارتفاع الأسعار فوق مئتي دولار للبرميل، عندما خسر العالم أغلب نفط دول الربيع العربي.
المرحلة الأخيرة -وهي مرحلة الصحوة والعداء- تميزت بزيادة المعروض من النفط بسبب عودة إنتاج النفط من مناطق توقف إنتاجها أثناء الربيع العربي، في وقت استمر فيه إنتاج أميركا الشمالية بالزيادة بكميات كبيرة. عندها قررت السعودية ودول الخليج محاربة النفط الصخري.
وتم في نهاية 2014 رفض تخفيض الإنتاج، ثم بدأت السعودية ودول الخليج الأخرى زيادة الإنتاج في عام 2015 حتى زاد المعروض بحوالي مليوني برميل يوميا في بعض الأحيان.
مع هذه الزيادة انخفضت أسعار النفط انخفاضا كبيرا. وكانت الأرضية في ذلك الوقت بحدود 39 دولارا للبرميل. وكلما اقتربت الأسعار من هذا السعر ارتفعت مرة أخرى.
كانت هناك قناعة في السوق أن الأسعار لن تنخفض عن هذه الأرضية. هذه الأرضية دعمتها حقيقة اقتصادية وهي أنه في سوق حرة لن تنخفض الأسعار عن متوسط التكاليف المتغيرة التي قدرت بحدود 39 دولارا للبرميل. إن أي انخفاض دون هذا المستوى يعني إفلاسا حتميا لعدد من الشركات.
لكن هناك حقيقة اقتصادية تجاهلها المحللون والخبراء، وهي أن أسواق النفط لا تخضع لنظام السوق التنافسي بسبب قدرة بعض كبار المنتجين على التحكم بالكمية، وبالتالي السعر.
فإذا أراد كبار المنتجين تحطيم أرضية الأسعار المحكومة بالتكاليف المتغيرة للشركات المنافسة، فإن باستطاعتهم ذلك، وهذا ما حصل.
إلا أن اختراق هذه الأرضية يعني أنه ليس هناك أي أرضية تحتها، وبالتالي فإن انهيار الأسعار بعدها أمر حتمي، ولا يمكن التنبؤ بمستوى الأسعار بعدها.
انخفاض طبيعي
والواقع أن انخفاض الأسعار بدأ بشكل طبيعي في النصف الثاني من 2014 كنتيجة لزيادة المعروض، إلا أن زيادة دول الخليج إنتاجها فيما بعد -والتي كانت لها أهداف طويلة المدى- أدت إلى انخفاض الأسعار، ثم إلى انهيارها.
وسبب ذلك أن الحرب بين النفط السعودي والنفط الصخري تحولت إلى تنافس بين دول أوبك، حيث بدأت كل دولة ترفع الإنتاج وتبيع بأي سعر. وعندما بلغ الإنتاج أقصاه في هذا الجو المشحون، تحول الأمر من منافسة في الكميات إلى منافسة في الأسعار، وهذا هو سبب الكارثة في أسواق النفط الآن.
إنها كارثة لأنه عندما كان التنافس في الكميات، كانت هناك كميات تباع، وبالتالي فإن هناك زيادة في كميات الطلب على النفط. أما في حالة المنافسة في الأسعار، فإنه ليس هناك زيادة في الكمية المباعة، وبالتالي فإن الكمية المشتراة ثابتة مع استمرار الأسعار بالانخفاض. وهذا يعني أن السوق لن تتوازن سريعا لأن الكمية المطلوبة لن تزيد مع انخفاض الأسعار. إذن السبب الرئيس وراء الوضع الحالي هو تحول المنافسة بين النفط السعودي والأميركي إلى منافسة كميّة بين دول أوبك، ثم منافسة سعريّة بينهم.
صمود النفط الأميركي
في ظل هذا الوضع، يبقى السؤال، رغم الكارثة، ورغم الصعوبات المالية الضخمة في دول أوبك، ورغم الانخفاض الكبير في الإنفاق الاستثماري على عمليات التنقيب والإنتاج: ما سرّ عدم انخفاض إنتاج النفط الأميركي بشكل ملحوظ، مع أنه كان الهدف الأصلي لحرب الأسعار هذه؟
الحقيقة أنه ليس هناك سر. لكن يبدو الأمر لكثير من الناس في عالمنا العربي على أنه كذلك.
وقبل الإجابة، لا بد من ذكر حقيقتين هامتين، وهما: أن إنتاج النفط الأميركي في نهاية عام 2015 كان مماثلا تقريبا لإنتاج النفط في نهاية 2014. هذا يعني أن كل النمو الذي شهدته الولايات المتحدة في إنتاج النفط في عام 2015 قد تلاشى. أما الحقيقة الأخرى، فهي أن إنتاج النفط الأميركي انخفض بأكثر من مليون برميل يوميا بنهاية 2015 إذا ما قارنّا بين ما كان متوقعا والإنتاج الفعلي.
الإنتاج الأميركي
فقد زاد إنتاج الولايات المتحدة في خليج المكسيك في الشهور الأخيرة بحوالي 175 ألف برميل يوميا، الأمر الذي عوض عن الانخفاض في إنتاج النفط الصخري. هذه الزيادة جاءت من حقول جديدة تم تطويرها في فترات أسعار النفط العالية، والتي لن تتوقف مهما انخفض سعر النفط لأن تكلفة التشغيل مقارنة بالتكاليف الثابتة قليلة. والمهم في الأمر أن معدلات النضوب في هذه الآبار البحرية أقل بكثير من معدلات النضوب في النفط الصخري، الأمر الذي يعني أنها ستضخ النفط لعقود من الزمن.
** بيع الإنتاج المستقبلي مسبقا
والآن نعود للبداية، السبب الرئيس لعدم تأثر النفط الصخري في عام 2015 بانخفاض أسعار النفط، هو عمليات البيع بالآجل حسب الأسعار المستقبلية يوم توقيع العقد، وهي عمليات شبيهة ببيع السَلَم عند المسلمين. وهو أمر شائع عند الشركات المتوسطة والصغيرة لأهداف عدة، أهمها الحماية من انخفاض الأسعار وضمان سيولة مستمرة تسهم في تحقيق الخطط التنموية للشركة.
هذا يعني أنه حتى عندما انخفضت أسعار النفط إلى أقل من ثلاثين دولارا للبرميل، كانت هناك شركات تبيع جزءا من نفطها بأكثر من ثمانين دولارا للبرميل. لهذا لم تتأثر الشركات كثيرا، لكنها خففت استثماراتها لأن إنتاج هذه الاستثمارات سيكون في السنوات المقبلة.
** تشغيل الآبار المغلقة سابقا
لأسباب عدة، كان هناك آلاف الآبار التي حفرت وتم إغلاقها. من هذه الأسباب عدم وجود أنابيب لنقل النفط، أو انتظار شركات الخدمات النفطية كي ترسل فريقا لإكمال التكسير الهيدروليكي، أو عدم وجود أنابيب غاز لنقل الغاز المصاحب في الولايات التي تمنع حرق الغاز المصاحب. ولعل جزءا كبيرا من الآبار تم إغلاقه بسبب تكنولوجيا جديدة نسبيا، وهي تمكّن من حفر عدة آبار من منصة واحدة. فإذا كان هناك منصة مهمتها حفر خمسة آبار متتالية، وتم حفر أربعة آبار في نهاية 2014، فإن كل هذه الآبار الأربعة تبقى مغلقة حتى يتم الانتهاء من البئر الخامسة. نهاية الأمر أنه في عام 2015 تم فتح هذه الآبار، إما لوصول أنابيب إليها أو الانتهاء من حفر عدة آبار من منصة واحدة.
** المناطق الغنية بالنفط
انخفض عدد الحفارات المخصصة للنفط بأكثر من 1100 حفارة منذ سبتمبر/أيلول 2014، وبقي هناك حوالي 470 حفارة تعمل يوميا في الولايات المتحدة.
كان جزء كبير من الحفارات يحفر آبارا تنتج كميات قليلة من النفط، ولكنها مجزية للشركات. بينما كان هناك عدد قليل نسبيا يحفر في المناطق الغنية بالنفط.
مع انخفاض أسعار النفط تم وقف عدد كبير من الحفارات في مناطق المحيط ذات الإنتاج المتدني، بينما حُوّل الجزء الآخر إلى المركز الذي يتميز بإنتاج مرتفع. وفي الوقت نفسه، تم تطوير التكنولوجيا وتخفيض التكاليف لدرجة أن بئرا واحدة من منطقة المركز تنتج حوالي عشرة أضعاف إنتاج بئر من منطقة المحيط. هذا يعني أن تحويل عشر حفارات من المحيط إلى منطقة المركز يحل محل تسعين حفارة في منطقة المحيط. هذا الأمر يوضح سبب عدم انخفاض الإنتاج بشكل ملحوظ مع انخفاض عدد الحفارات بشكل كبير.
** تكاليف مضللة
التكاليف العالية لإنتاج النفط الصخري التي تكلم عنها المحللون والكتّاب هي متوسط لكل الولايات المتحدة. وهذا المتوسط مضلل، لأنه مكّن المحللين والكتاب من إخفاء حقيقة التكاليف المنخفضة في بعض الحقول والتي قدرت بـ22 دولارا للبرميل، بينما كانت مرتفعة في حقول أخرى وقد تصل إلى 85 دولارا للبرميل.
هذا يعني أن هناك صخرا نفطيا في الولايات المتحدة ينتج نفطا تكلفته أقل من تكلفة إنتاج النفط في بعض دول أوبك.
وحتى عندما كان يتكلم البعض عن خمسين دولارا للبرميل، فإنها عادة تذكر في تقارير البنوك على أنها التكاليف التي يتحقق عندها عائد على رأس المال بـ10% أو 15%.
** التكلفة متغيرة
في حال انخفاض الأسعار، فإن متوسط التكاليف المذكور سابقا لا أهمية لها. المهم هي التكاليف المتغيرة أو المبالغ المطلوبة لتسيير أمور الشركة على المدى القصير، مثل أجور العمال والموظفين وفواتير الماء والكهرباء وإيجار المكتب. هذه التكاليف أقل من أسعار النفط الحالية، ويمكن تقليصها مع استمرار أسعار النفط بالانخفاض.
** التمويل الرخيص
ساعد التمويل الرخيص الشركات على التوسع من جهة، كما ساعدها على التأقلم مع أسعار النفط المنخفضة.
ولم يشكل الأمر أي ضغوط على البنوك حتى الآن، ربما بسبب قدرة هذه الشركات على التأقلم السريع مع الأسعار المنخفضة حيث خفضت استثماراتها بشكل كبير، وخفضت تكاليفها، بما فيها تكاليف عمليات الحفر والإنتاج والتكاليف الإدارية وتكاليف شركات المحاسبة القانونية التي تراجع التقارير الربعية لهذه الشركات.
وقد يكون السبب الأكبر هو أن القيمة الحقيقية لأصول أكثر الشركات أكبر من قيمتها الدفترية، وسترتفع أكثر إذا ارتفعت أسعار النفط والغاز.
رغم كل ذلك، فإن إنتاج النفط الأميركي سيستمر بالانخفاض، رغم توقع زيادة إنتاج ألاسكا وخليج المكسيك في الشهور القادمة.
هذا الانخفاض سيكون بطيئا ثم يتسارع، الأمر الذي سيساعد بعض دول أوبك على استرجاع جزء من سوقها الذي خسرته في الولايات المتحدة.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن إفلاس شركات النفط الأميركية بسبب انخفاض الأسعار لا يعني وقف إنتاجها إطلاقا.
فقانون الإفلاس يقضي بحماية الشركة من الدائنين، ولا يعني بالضرورة وقفها عن العمل.
وكثير من الشركات تعلن إفلاسها، ثم تعيد الهيكلة وتعود مرة أخرى كشركة عادية كما حصل مع شركة جنرال موتورز، على سبيل المثال.
وغالبا ما تقوم الشركات المفلسة ببيع أصولها لشركات أخرى، وبهذا لا يتوقف الإنتاج إطلاقا. ويجدر الذكر هنا أن بعض شركات القار في ألبرتا الكندية ستستمر بالإنتاج حتى لو كانت تكاليفها المتغيرة أعلى من أسعار النفط لأن تكاليف إغلاق هذه المشاريع وإعادة فتحها مكلفة جدا.
خلاصة
خلاصة القول أن هناك عدة أسباب أسهمت في منع الإنتاج الأميركي من الانخفاض، خاصة في النصف الأول من عام 2015. ولعل السبب الرئيس لعدم الانخفاض الكبير في الشهور الأخيرة هو إنتاج الحقول الجديدة في خليج المكسيك.
وعلى الرغم من أن الإنتاج الأميركي من النفط سيستمر بالانخفاض، فإن أي إفلاس للشركات لا يعني وقفها عن الإنتاج.
أخيرا، هل تعلم أنه لم تفلس أي شركة نفطية حتى الآن؟ فكل الشركات التي أفلست كانت في قطاع الغاز والخدمات والقطاعات الوسطى بين الإنتاج والتوزيع.