دكتور محيي الدين عميمور
طُوِي الملف العسكري، وكان الاتحاد السوفيتي يريد أن يكون له نصيب من عقود تعميرٍ كان تمويلها العربيّ جاهزا، وكانذلك “النصيب” مستحبا بل ومطلوبا لأسباب مرتبطة باحتياج موسكو لاستيراد قمح من كندا، وأحس عرفات بالقلق السوفيتي وتشاور فيه مع قادة آخرين، كان من بينهم العقيد القذافي، الذي وافق على تعويض موسكو بشراء صفقة سلاح كبيرة من موسكو يُدفع ثمنها نقدا، وهو ما حدث.
وعرف السادات ذلك فقال، بجحوده المألوف (هيكل ص 313) متشفيا في السوفييت، الذين حارب بسلاحهم وكان طياروهم يتولون حماية العمق المصري من الضربات الإسرائيلية خلال حرب الاستنزاف: “أولاد الـ؟؟؟؟، ليسوا عاجزين فقط ولكن مفلسين”
ووصل الرئيس كارتر إلى اليقين، وهو ما أعلنه في 16 مارس، بأن تحقيق تسوية شاملة يجب أن يكون هدف كل الأطراف، وبأن إسرائيل يمكن أن تحقق أمنها داخل حدود ما قبل يونيو 1967، وأن مصر لا تستطيع أن تمضي وحدها في سلام منفرد إلا إذا بدت شواهدُ بأن عملية السلام ممكنة، وبأن من حق الفلسطينيين أن يكون لهم دور في عملية السلام، وأن يكون لهم وطن قومي (Homeland) وهو التعبير الذي استعمله “بالفور” في رسالته الشهيرة المؤرخة 2 نوفمبر 1917، ولكن الوطن القومي كان آنذاك لليهود، الذين تمكنوا من قلب المعادلة لصالحهم لأنهم آمنوا بمطلبهم وجعلوه دينا جديدا، ولم يكن لديهم من ينتحل لقب بطل الحرب على حساب الأبطال الحقيقيين، وهم عشرات الآلاف ممن اجتازوا واحدا من أعظم الموانع المائية في العالموعبروا خط دفاعي رملي بالغ الصعوبة لم يعرف التاريخ له مثيلا، وذلك بقيادة نخبة من خيرة الضباط في العالم كله.
وأكد الرئيس كارتر أفكاره للرئيس السادات الذي زاره في الرابع من أبريل، مؤكدا أنه لا يجد سبيلا للنقاش سوى إطار مؤتمر جنيف، لكنه صُدم فيما بعد من نجاح حزب الليكود في مايو 1977، وقيل له أن “مناحم بيغين” قد يكون هو “شارل دوغول” المرحلة (وهي مقولات تشاوشيسكو) ولكن الرئيس الأمريكي سيتراجع عن كل وعوده لأن أصحاب الحق تهاونوا في حمايته والذود عنه.
أما الرئيس السادات فلم يكن مقتنعا بمؤتمر جنيف، وكانت أوهامُ نتائجَ إيجابيةٍ عن اللقاءات السرية مع إسرائيل عبر المغرب ورومانيا تمْسِك بكل مشاعره، بقدر ما كانت آثار انتفاضة يناير في الشارع المصري تؤرقه، وكان الخروج يومها من استراحة الرئيس في أسوان نحو المطار “مهينا، وظلت ذكرياته طويلا محفورة بمرارة في ذاكرة الرئيس″ (هيكل – خريف الغضب ص 222)
وكان هم السادات الأول بالتالي حلّ المشكلة المصرية الاقتصادية التي تهدد بتكرار ما حدث في بداية عام 1977.
وفجأة تسرب إلى فكره اقتراح كان الوفد الإسرائيلي قد همس به إلى الوفد المصري في لقاء جنيف أواخر 1973، وكان محوره أن على مصر ألا تنظر “شرقا”، حيث المشاكل كثيرة والمردود محدود، لكن عليها أن تنظر “غربا” لأن الفائدة هناك مضمونة والمخاطر محدودة.
ويقول هيكل (عواصف الحرب والسلام) بأن “السادات توصل إلى حلّ بالغ الغرابة فقد خطر له أن يغزو ليبيا، وفي ذهنه أن يحتل الجانب الشرقي من ولاية برقة حيث معظم منابع البترول الليبي (ص 328) وكانت الذريعة صفقة السلاح التي كانت ليبيا قد عقدتها مع الاتحاد السوفيتي بوساطة حافظ الأسد وياسر عرفات”.
وتناسىالسادات أن من أكبر أخطاء أدولف هتلر، الساعي إلى الحصول على مزيد من النفط، هجومه على الاتحاد السوفيتي في 1941، متناسيا أن ثلوج موسكو أنهت أسطورة نابليون من قبله.
وهكذا أصبحت ليبيا هدفا للنظام المصري، وكانت قوته الرئيسية ترسانة الإعلام الهائلة التي ورثت من مرحلة “أحمد سعيد” أسوأ ما فيها، ولم تأخذ عنها إيجابية رئيسية واحدة.
وكانت بداية التحرك الساداتي التضخيمَ الإعلامي لصفقة الأسلحة التي اشترتها ليبيا من موسكو إرضاء لها على استهانة السادات بها، وهكذا ضخم الإعلام، أو من زوّدوه بالمعلومات، حجم الصفقة، وقيل أن من بين بنودها قوة مدرعة تصل إلى ألفي دبابة (..) وإقامة قواعد عسكرية برية وبحرية وجوية في ليبيا (..)
واستشهد الإعلام المصري بالمجلة الأمريكية المتخصصة في شؤون الطيران الحربي (Aviationweek) ليقولبأن الطائرات التي تملكها ليبيا “لن تجد طيارين ليبيين لقيادتها” (..) وكان الاستنتاج الآليّ أن من سيقودونها هم السوفييت (..) وكان هذا، كما أكدت أبواق الإعلام المصرية، يُمثل خطرا شديدا على الأمن المصري، المؤكد أنه كان أكثر خطرا، إذا صحّ وجوده، من خطر حماس في العشرية الثانية من الألفية الأولى على الأمن القومي المصري، التي سترسل الدبابات الفلسطينية عبر أنفاق رفح !!!وستستعملمطار غزة لضرب مصربطائرات الفانتوم والميراج الفلسطينية والشبح، وسترسل رجالها لفتح السجون المصرية لإخراج من سيقلبون نظام الحكم….وسنجد أناس طيبون يصدقون كل هذا.
وهكذا يُنشر يوم 19 يوليو في القاهرة أن قواتٍ ليبيةًأغارت على مواقع مصرية في منطقة السلوم، على الحدود مع ليبيا، ثم يُعلَن أن قوات مصرية ردّت على”العدوان”،ودخلت إلى المواقع التي انطلقت منها العمليات ضد المواقع المصرية، وقامت بتدميرها وعادت إلى قواعدها بعد تنفيذ مهامها ضد القوات الليبية المعتدية!!(..و) “عاد النظام الليبي،واستأنف قصف مواقعنا الأمامية بنيران المدفعية (..) وقامت قواتنا بالردّ عليها بالنيران حتى أسكتتها، وفي صباح 22 يوليو قامت الطائرات الحربية الليبية بثلاث غارات جوية (..) ولما كان النظام الليبي مستمرا في اعتداءاته بطريقة تهدد أمن قواتنا وأراضينا (..) قامت قواتنا الجوية بمهاجمة قاعدة “العضم” الجوية (ولم يقل البلاغ المصري أنها أصبحت منذ قيام الثورة الليبية تسمّى قاعدة جمال عبد الناصر، ولم يتذكر أحدٌ أن الهجوم تم خلال أيام الاحتفالات بثورة يوليو) وأسفر هجومنا عن تدمير شديد للقاعدة ومنشآتها وبعض الطائرات فيها”
وكان الهجوم المصري تقليدا هزيلا وتافها للهجوم الإسرائيلي صباح 5 يونيو 1967 على القواعد الجوية المصرية، تماما كما كانت عملية “لارناكا” في قبرص فيما بعد تقليدا سخيفا ومأساويا لعملية “عنتيبي” الإسرائيلية، ولكن ما حدث قدمه الإعلام المصري كانتصارات “ساداتية”قامت بها القوات المصرية.
ويقول السفير الأمريكي في القاهرة “هرمان آيلتس″ بأنه : “أطلع على صور استكشافٍ قامت به الأقمار الصناعية فوق منطقة العمليات، واتضح منها أن ناقلات الجنود المصرية إلى الحدود الليبية تعطلت على الطرقات، وبأن عدم نجاح العملية العسكرية قد يؤدي إلى فقدان الجيش المصري ثقته بنفسه (..) والنقطة المركزية هنا هي أن أرض العمليات واسعة جدا، والسيطرة عليها شاقة، خصوصا إذا لجأت ليبيا إلى المقاومة على طريقة حرب العصابات”.
وفيما بعد قرأنا في الألفية الجديدة سطورا لإعلاميين مصريين تطالب مصر باسترجاع “أمجاد” السادات الذي “أدّب” المتطاولين على كرامة أرض الكنانة، وكان ذلك تغطية على هزيمة كروية عادية في ملعب المريخ بالسودان، وترددت نفس الأقاويل بعد ذلك عندما عرفت أخبار سد النهضة في إثيوبيا، ولدرجة أن هناك من طالب بحل عسكري أسوة بما قام به بطل الحرب والسلام، على أعمدة الصحف طبعا.
لكن الهجوم المفاجئ على القاعدة الليبية أحدث خسائر كبيرة، ومن المُحزن أن الجرحى نقلوا إلى مستشفى طبرق، الذي كان يضم مجموعة من الأطباء المصريين العاملين في إطار القوات الليبية، كان تصرفهم رائعا ونبيلا، ليس فقط من الناحية المهنية بل من الناحية الوطنية، ويقول هيكل(ص 331) أن: “الصورة كانت مأساوية لدرجة أن الجراح المصري الدكتور مصطفي الشربيني بعث ببرقية إلى الرئيس السادات يقول له فيها أنه كان يُجري العمليات للجرحى من الضباط والجنود الليبيين وهو لا يكاد يرى مواقع جراحهم، لأن الدموع كانت تملأ عينيه”.
وكان الهجوم المصري صدمة هائلة للرئيس هواري بو مدين، فتوجه فورا، على رأس وفد محدود، إلى طرابلس ثم إلى الإسكندرية ، حيث كان السادات يقضي أيام الصيف في أحد القصور الملكية، قد يكون قصر المنتزه ( على ما أتذكر) وتوجه الرئيس إثر وصوله لمقابلة السادات مرفوقا بوزير الخارجية عبد العزيز بو تفليقة، بالإضافة إلى مولود حمروش مدير التشريفات الرئاسية، وقيل لنا آنذاك أن الجانب المصري أصرّ على ضغط العدد، وهكذا بقينا في الفندق، ورحنا، عبد الملك كركب مدير الأمن الرئاسي وأنا، نضرب أخماسا في أسداس في مقر إقامتنا، وعرفنا فيما بعد أن اللقاء بين الرئيسين كان بالغ التوتر، وهو ما أكده هيكل (ص 333) وراح السادات يُعدد مبرراته قائلا بأن : “القذافي كان يتحرك بمخطط مرسوم له من موسكو، وهو يقوم ضده بحملة كراهية ويُعبّئ الشعب الليبي ضده للتغطية على مشاكل ليبيا الداخلية، وهكذا افتعل مشكلة مع مصر ولم يكن أمام السادات إلا الرد عليها، خصوصا عندما بدأ القذافي يستعمل وسائل الحرب “البكتيريولوجية” ضد القوات المصرية ( !!!) وقام بتسميم عدد من الآبار التي تعتمد عليها القوات المصرية للحصول على ماء الشرب”.
وراح السادات يُردد أمام بومدين : سيبوني أأدّبه.
وفوجئت الولايات المتحدة الأمريكية بالتصعيد الخطير الذي حدث، وبينما كان السادات يتصور بأنها لا تمانع في عمل يقوم به لتأديب الزعيم الليبي، لم يكن في واشنطون من هو مستعد لفكرة استيلاء مصر على حقول النفط الليبية، ولعل آخر ما كان يتصوره السادات هو أن يتلقى طلبا حازما منها بإيقاف عملياته العسكرية.
ودام اجتماع بو مدين مع السادات حوالي ست ساعات، ثم عدنا إلى طرابلس بعد أن بدأت إجراءات وقف إطلاق النار، بينما تقاطر قادة كثيرون على مصر لركوب قاطرة التهدئة التي قادتها الجزائر ودعمتها واشنطن، كلّ لهدف مختلف بالطبع، وكان من بين الزائرين الرئيس “أياديما” رئيس التوغو، ورئيس منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك، الذي اصطحب معه “آدم كوجو” الأمين العام للمنظمة.
ولم يُعرف دورٌ للجامعة العربية أو للمؤتمر الإسلامي آنذاك، كما حدث في الكثير من المشاكل التي لم يتحرك فيها “المهماز″، وترددت حول موقفهما النكتة التي تشير إلى تصرف القوات الملكية العراقية خلال حرب فلسطين في 1948، عندما رفضت التحرك للدفاع عن اللد والرملة، والذي لخصته كلمتا : “ماكو أوامر”.
وهكذا فشلت حمْلة السادات على ليبيا، وأضيفت إلى الضربات الموجعة التي تلقاها الرئيس المصري في النصف الأول من العام، بدءا بانتفاضة يناير الشعبية، ثم في مايو نجاح كتلة “الليكود”، بزعامة مناحم بيغين، وسقوط حزب العمل الذي كان يظنه متفهما لمطالبه.
ويقول الدكتور عاصم الدسوقي بأنه : عندما تولى السادات السلطة أراد أن يبرر كل توجهاته المستقبلية، فأتى بعدد من الذين اختلفوامع عبد الناصر، ومن بينهم الفريق أحمد إسماعيل، الذي عزله عبدالناصر نتيجة أخطاء في حربيونيو 1967، وكذلك أنيس منصور الذي فُصل من رئاسة تحرير مجلة “الجيل الجديد” (..) وكذلك أثرياء الأسر التي أضيرت من الإصلاح الزراعي(..) وهؤلاء أسندت إليهم مهمة مهاجمة عبد الناصر(..) وقد نجحالسادات في استقطاب كل من كان له تحفظ على الرئيس الراحل وكل من أضير من قراراتالثورة وسياساتها بدرجة أو أخرى (..)
وسيكون من الضربات الموجعة التي تلقاها النظام في نفس ذلك العام قيام مجموعة الهجرة والتكفير في نفس الشهر باختطاف الشيخ “محمد حسين الذهبي” وإعدامه، وكان الذهبي وزيرا للأوقاف في حكومة ممدوح سالم وتصدى للفساد في وزارته، ويقال أن ذلك ألب عليه شخصيات نافذة ومستفيدة من أموال الأوقاف، فنُحّي عن منصبه وعُيّن مكانه الشيخ محمد الشعراوي، الذي نسبت له مقولة عن السادات تقول بأنه : “لا يُسأل عمّا يفعل”، وهو الذي صرح للتلفزة المصرية، وسمعت ذلك بنفسي، بأنه عندما عرف بهزيمة مصر في حرب 1967، صلّى ركعتين شكرا لله، “فلو انتصرنا لنسِب النصر للشيوعيين”، ونسي الشيخ قوله تعالى” ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا”، وكان ذلك تعبيرا عنكرهه الشديد لعبد الناصر، الذي ساهمت في تغذيته أموال النفط، وهو ما لم ينجح مسلسل “إمام الدعاة” في التستر عليه، ولم يسأله “طارق منيب” يومها عن رأيه في السدّ العالي، الذي يعود للسوفييت فضل كبير في بنائه، وعمّا إذا كان لا بد من هدمه لأنه إنجاز ملحد، ولا عن السبب في أنه لم يفتح فمه بكلمة عندما كالنت الطائرات الشيوعية تحمي العمق المصري.
وفي مرحلة تالية سيبدأ التركيز على العرب في الهجوم.
وكان مشروع معهد “بروكينز″ الشهير للأبحاث في واشنطن الذي اعتمده جيمي كارتر يعتمد على أربع نقاط محددة.
* – انسحاب إسرائيل من “مُعظم” الأراضي التي استولت عليها عام 1967، ويتم الاتفاق على الحدود الجديدة الآمنة بالتفاوض بين الأطراف.
* – إقامة علاقات طبيعية تماما بين إسرائيل وجيرانها العرب
* – أن يكون للفلسطينيين وطن(وليس دولة) في مكان من فلسطين يتفق عليه بين إسرائيل والمتفاوضين العرب معها (وليست هناك كلمة واحدة عن الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين)
* – أن يؤجّل موضوع القدس برمته إلى مرحلة لاحقة.
ويجتمع كارتر باللجنة الدائمة لمجلس الأمن القومي قبل نهاية يوليو لتقييم وضعية الرئيس المصري، ويقول وزير الخارجية الجديد “سايروس فانس″ بأن السادات قويّ في العموميات ولكنه ضعيف عندما يصل الأمر إلى مستوى تنفيذها، بينما يقول “زينوبرجينسكي” أن مشكلة السادات هي عجزه عن التفرقة بين الحقيقة والخيال (Facts and fiction).
http://www.raialyoum.com/?p=337245