كيف كان العالم اليوم لو لم تَغزُ الولايات المتحدة الاميركية العراق. وكيف كانت الخيارات الاستراتيجية الاميركية الآن؟ كلها تساؤلات يحاول هذا البحث الاجابة عليها.
ان مطلق لاعب في لعبة الفيديو الشعبية يعلم تماما ان عليه ان يكون في موضع الامان قبل التورط الخطير والغبي في غزو بلد آخر. وقد بدا ذلك واضحا في الاشهر القليلة الاولى من غزو العراق العام ٢٠٠٣ اذ ان الحرب لم تأتِ وفقا لما خطط لها اصحابها. فالاخفاق في ايجاد اسلحة الدمار الشامل كان بداية الكارثة تلاه فشل المصالحة عند المعالجة، وانهيار الدولة وعدم كفاءة المنفذين.
ماذا لو كنا استبعدنا الحرب ولم نغزُ العراق؟ وكيف كانت لتبدو خيارات اميركا الاستراتيجية الآن وفي الشرق الاوسط؟
عام ٢٠٠٣، كانت سياسة الاحتواء المزدوج مشكلة تتطلب حلا.
كيف كانت الولايات المتحدة تستطيع ادارة دولتين عدائيتين متقاربتين في حدودهما؟ اليوم يؤكد العقلاء من الخبراء انه في الاحتواء المزدوج يكمن الحل لهذه المشكلة. ان العداء المزمن بين نظام الملك صدام حسين والجمهورية الاسلامية في ايران يعني ان ايا من الدولتين لا تستطيع بسط نفوذها على الخليج.
في حرب العراق، اصبح مفهوم الاحتواء المزدوج في سلة مهملات القضايا الادارية، مما يعني ان العراق لم يعد له اي دور استراتيجي وبالتالي انتشر النفوذ الايراني في كل من العراق وسوريا ولبنان. في حين ان الولايات المتحدة لم تعد قلقة على مصير صدام حسين، فقد كرست اهتمامها العسكري والسياسي ليس فقط لابقاء حكومة بغداد، وانما ايضا لمقاومة النفوذ الايراني في المنطقة.
من الصعب تصنيف وقع الحرب العراقية على الربيع العربي. لذلك اعتقد صانعو الحرب ان تأسيس نظام ديمقراطي في العراق سيؤدي لردود فعل ضد الانظمة الاستبدادية في المنطقة، وينجو من ذلك اصدقاء اميركا كمصر والسعودية ودول الخليج. كان ذلك ليحدث العام ٢٠١١، لكن لاحقا اكثرية دول المنطقة خلصت الى القول ان غزو العراق فشل فشلا ذريعا. في الحقيقة، ان ثمار الربيع العربي جاءت محدودة في احسن الاحوال. فتونس كانت افضل مثال لنجاحه، بينما وقعت ليبيا في فوضى دموية، اما في مصر فاستلمت القوى النظامية الحكم، وسوريا تعيش الآن صراعا عنيفا ووحشيا لا نهاية له. ان نتيجة غزو العراق عام ٢٠٠٣ اظهرت عدم قدرة الولايات المتحدة على التهرب من الالتزامات تجاه حكومة العراق، وما زال سلاح الجو الاميركي يشكل الغطاء الجوي في اجواء العراق وتحاول اميركا جاهدة تدريب قوات الجيش العراقية. هنا يتبادر السؤال: هل كان الاحتواء المزدوج محكما للمدى الطويل؟
يذكر ان الولايات المتحدة، قد هدرت دما ومالا منذ عام ٢٠٠٣، اكثر بكثير مما خسرته بين عام ١٩٩١ و٢٠٠٣، لذلك فالجواب هو نعم من وجهة نظر عسكرية ومادية بينما الاحتوء المزدوج قد ابقى نظام صدام حسين المروع في السلطة: الا انه كان من الممكن تجنب الاعظم في سنوات الحرب الاهلية التي عاشها العراق الاثنتي عشر سنة الماضية.
هل استفادت روسيا او الصين من غزو الولايات المتحدة للعراق؟ للاجابة على هذا السؤال لا بد من طرح السؤال التالي: هل كان موقف روسيا او الصين ليتغيّر لو لم تتورط اميركا في مستنقع العراق؟ الجواب حتما ليس كثيرا. اشارت الحملة العراقية اهتمام الولايات المتحدة التي استخدمت فيها جميع امكانياتها ولكن تدخل الجيش الاميركي في مواجهة مع روسيا او الصين من اجل العراق كان احتمالا ضعيفا جدا في جميع الحالات. فالنزاع الوحيد الذي كان من الممكن ان تلعب فيه الولايات المتحدة دور هو حرب جنوب اوسيتيا Ossetia العام ٢٠٠٨. حيث اقتصر دعم ادارة الرئيس بوش آنذاك على البلاغات الاعلامية بالرغم من دعوة جورجيا المستميتة للولايات المتحدة للتدخل العسكري.
ان بروز الصين كقوة اسيوية اساسية وعداء روسيا القوي يقومان على العوامل الجيوسياسية Geopolitical وليس على ما يترافق مع الحرب العراقية. في افضل الحالات يمكن ايجاد بعض الترابط او التأثير بين ارتفاع اسعار النفط عند بدء غزو العراق ونمو القوة الاقتصادية لروسيا بينما نرى ان الصين لم تستفد من ارتفاع اسعار النفط. بمعنى آخر كان لارتفاع اسعار النفط العام ٢٠٠٣ التأثير نفسه على النموّ الاقتصادي للصين والهند تماماً كقرار الإحتلال.
ان غزو الولايات المتحدة للعراق افاد بشكل مباشر روسيا والصين. لذلك كانت موسكو تستند الى الغزو هذا العام ٢٠٠٣ لمواجهة الانتقادات الاميركية للحرب مع اوكرانيا وتذكر دائما حرب كوسوفو العام ١٩٩٩ والتدخّل في ليبيا العام ٢٠١١. كذلك الصين كانت تسأل اميركا حول طموحاتها البحرية جنوب بحر الصين منتقدة تدخلها في العراق.
افغانستان
كان لغزو العراق تأثير مباشر على افغانستان، اولا وبسبب ذلك، قامت الحكومة الاميركية بتحويل مواردها عن افغانستان في وقت كان تنظيم طالبان يتعرض لهزيمة نكراء. ثانيا، فقد قوّض الغزو شرعية الحرب الافغانية عبر اظهارها كواحدة من غزوات عدة لدول اسلامية بدلا من ان تكون حاجة ضرورية لتدمير نظام مروّع وارهابي. من المبالغ بالتأكيد القول انه لو تمّ الاهتمام اكثر بالحرب في افغانستان في منتصف العقد المنصرم، لقاد الامر الى تدمير شامل لطالبان وبالتالي لوضعت الحرب أوزارها. لذلك فان جذور البقاء لطالبان معقّدة وصعبة الانتشال. الامر الذي يتطلّب اكثر من عملية تحويل للموارد. في الوقت نفسه من الصعب ان نجزم ان اهتماماً اضافياً لافغانستان كان لينجز الأمن والاستقرار في هذا البلد.
الداخل الاميركي
ان النتائج الكبرى للحرب العراقية، وقيودها الدائمة، انعكست مباشرة على الجيش الاميركي، مّما دفع الاميركيين الى تغيير مواقفهم بالنسبة لاستعمال القوة. وادى ذلك الى تأخير الدراسات والبحوث المتعلّقة بنظم الاسلحة المتقدمة داخل وزارة الدفاع الاميركية. فلولا غزو العراق، لكانت الولايات المتحدة قد عمدت الى تطوير اسطولها الجويّ من طائرات "F-22" على سبيل المثال. ولكانت البحرية الاميركية قد زُوّدَت بمدمّرات اضافية من نوع "Zumwalt"، وحتى أنظمة القتال المستقبلية للجيش الاميركي لاقت تراجعاً مُخزياً، لكن بالاضافة الى مناهج محدّدة، فقد عمدت وزارة الدفاع الاميركية الى تطوير بعض التكنولوجيات المُدمّرة والتي وضعت اميركا في المرتبة الاولى بعيداً عن روسيا والصين. فوزير الدفاع الاميركي RUMSFELD قد اعطى الافضلية الاولى لانجاز هذه التكنولوجيات قبل ان يغيّر مسار مخططاته في حرب العراق. لكنّ القرارات الاستراتيجية نادراً ما تستند الى التكنولوجيا المتوفّرة. لذلك فان تعزيز الاسطول الجويّ بمقاتلات "Raptors" والاسطول البحري بمدمّرات "Zumwalt" يعطي الولايات المتحدة حريّة اكبر للمناورة، لكنه لن يفيد كثيراً في مجريات الامور في شرق آسيا، وكذلك ما كانت انظمة القتال المستقبلية لاميركا تعطيها خيارات سياسية لمقاومة الزحف الروسي في اوكرانيا. ومن الخطأ الاعتقاد ان المال والاهتمام المخصّصان للعراق كانا قد تحوّلا الى التطور والإنماء لو ان الادارة الاميركية في عهد بوش قرّرت عدم التدخّل.
مّما لا شك فيه، ان متطلبات الحرب في العراق ادت والنزاع القائم في افغانستان الى تطوّر تكنولوجي ملحوظ. فالحرب العراقية ألقت الضوء على مشاكل اساسية يمكن ان يواجهها الجيش وبنوع خاص القوات الجويّة في حربها في المستقبل، مّما ادى الى ابتكارات تكنولوجية وعقائدية يمكن ان تعتمدها الولايات المتحدة في قدراتها القتالية.
اما التغيير الكبير فجاء من قبل الشعب الاميركي ونظرته الى الحرب. بعد خمسة عشر سنة على انتهاء الحرب الباردة، أصبح الرأي العام الاميركي اكثر تقبّلاً للتدخل العسكري مما كان عليه بعد حرب فييتنام. لكن الحرب العراقية غيّرت ذلك بشكل جذري، حتى ان بعض المرشحين للرئاسة الأولى في اميركا يدعون الى تدخل محدود ضد الدولة الاسلامية ISIS.
في العام ٢٠٠٨ ربح الرئيس الاميركي اوباما الانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي بسبب معارضته للحرب العراقية العام ٢٠٠٣، ومهما كان الموقف من ممارسة الحرب باستعمال طائرة دون طيار (Drone). فان ادارة الرئيس اوباما كانت واضحة وتقضي باعتماد سياسة تدخل محدود بعكس اسلافه من الرؤساء. وكانت هذه السياسة تتوافق مع الرأي العام الاميركي حول استعمال القوة.
هل تم تصنيف هذا التحفظ لاستعمال القوة من الخيارات الاستراتيجية الاميركية؟ لقد ساعدت اميركا كلاً من فرنسا والمملكة المتحدة وقوات المعارضة الليبية لاسقاط نظام القذافي العام ٢٠١١، بصرف النظر عن اي تردد لاستعمال القوة. ومازالت الولايات المتحدة تنفذ ضرباتها العسكرية ضد القاعدة باستخدام طائرات دون طيار والوحدات الخاصة "drone-and-special-forces"، في الشرق الأوسط. لكن التحفظ باستخدام القوة لعب دوراً مهماً في ادارة الرئيس اوباما بالنسبة للصراع في سوريا والذي تفاقم في الاربع سنوات الاخيرة مع تدخل اميركي محدود.
لدى القوى العظمى امتياز بارتكاب الاخطاء المكلفة. ففي حرب فيتنام وعلى الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدتها الولايات المتحدة بالارواح او بالعتاد، فهي لم تستطع تغيير مسار الحرب الباردة، اذ انهار الاتحاد السوفياتي اقتصادياً واجتماعياً تحت وطأة هذه الاخطاء. خلال العصر الامبراطوري ارتكبت بريطانيا وفرنسا وروسيا اخطاء استراتيجية رهيبة، ظهرت كأنها كارثة آنذاك، لكن وقعها كان ضعيفاً على الساحة الاستراتيجية.
بلغت خسائر غزو العراق آلاف القتلى من الاميركيين، ومئات الآلاف من العراقيين. فالنواقص التكنولوجية تزول تدريجياً بزوال الحرب مع مرّ الزمن، فالحرب التي قادتها الولايات المتحدة لم تضعف من امكانيتها التكنولوجية انما أخّرت تطويرها. من المحتمل ان يحصل التغيير الكبير ليؤكد على تحفظ الرأي العام الاميركي على التدخل العسكري في الخارج، وهذا التحفظ تضاءل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكنه اصبح عاملاً اساسياً في سياسة اميركا الخارجية، واذا كان هذا التحفظ قد حدّ من مرونة اميركا الاستراتيجية لارتكابها اخطاء مأسوية مروّعة، فان حرب العراق قد تعطي بعض العِبر الجيدة.