دكتور محيي الدين عميمور
أرسل الرئيس كارتر وزيره للخارجية سايروس فانس في أغسطس 1977 إلى منطقة الشرق الأوسط ليناشد كل الأطراف تقديم اقتراحات سلامٍ مكتوبة، وبدا السادات، كما يقول إسماعيل فهمي، سعيدا بهذا التحرك، لكن استقبال الرئيس لفانس كشف خلفيات الزعيم المصري ومعالم شخصيته، فعندما قال الوزير بأن القرار 242 في رأيهم لا يفرض الانسحاب الإسرائيلي من “كلّ” الأراضي التي احتلت في 1967 (وكنت أشرت إلى صياغة اللورد كارادون للقرار والذي يقول بغموض مقصود Fromterritoriesoccupied…. وليسFrom « ALL »territoriesoccupied.. أو From « THE »occupiedterritories)
وبمنطق فانس فإن مفهوم القرار يقتضي ليس فحسب إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل وإنما أيضا التطبيع الكامل للعلاقات.
ويردّ السادات أنه على اتفاق كامل مع هذا التفسير.
ويقول فهمي تعليقا على ذلك أنه إما أن الرئيس لم يستمع بعناية لما قاله فانس (بالإنغليزية طبعا) أو أنه لم يفهم المعنى المقصود، (وهذه أسوأ من تلك) لكن المهم أن السادات بدا وكأنه غير معنيّ بتطورات القضية، وبدا أن ذهنه مشغول بقضايا أخرى.
ويقول هيكل أن فانس حمل إلى السادات خطابا من كارتر (..) الذي اقترح إنشاء مجموعة عمل يرأسها فانس نفسه، وتضم وزراء خارجية مصر وسوريا والأردن وإسرائيل، وتتولى وضع جدول أعمال لمؤتمر جنيف، لكن الاقتراح سقط لأن سوريا عارضته على الفور.
وكانت خلفية السادات، كما تصورها الوزير الأمريكي، أنه “لا يريد أن تكون التسوية القادمة من خلال مؤتمر عام تحضره كل الأطراف بوفود منفصلة، أو حتى بوفد واحد كما اقترح عليه فانس″، فقد فوجئ بالسادات يقول له : إذا جلسنا في وفد واحد فسوف ننفجر من الداخل، لأن كلا منا سيكون له فيتو على الآخر، وكان الحل الأفضل الذي عبر عنه هو أن تتولى الولايات المتحدة دور الشريك الكامل في الاتصالات مع إسرائيل.
وتصدم واشنطون باعتراض بيغين على العودة إلى جنيف وعلى “الوفد العربي المُوحّد”، وتصدرُ، مع الاتحاد السوفيتي، في أكتوبر 1977 بلاغا مشتركا عرضت فيه شروط إحلال السلام في الشرق الأوسط،وكان محوره تأكيد الاعتقاد بأن الطريق الوحيد والفعال هو التفاوض داخل مؤتمر جنيف للسلام، وكان واضحا أن الأمور كانت تتحرك في الاتجاه الصحيح (فهمي – ص 282) لكن ما كان يحدث في الكواليس كان أمر مختلفا، ولعله هو الذي كان يشتت فكر السادات.
والذي حدث في صيف 1977 أن”ناحوم غولدمان” رئيس المجلس اليهودي العالمي أحس بأن هناك أفكارا جديدة من الاعتدال تهب على المنطقة، وتصور إمكانية حدوث معجزة في العلاقات العربية الإسرائيلية، فأخذ ينْشطُ مُركزا على كلّ من “الرباط” و”بوخارست”، حيث كان يعرف أن لرومانيا خيوطا من الصلات والاتصالات، وكان رأيه أن بيغين قد يستطيع أن يلعب دور شارل دوغول في الجزائر، وقد يُثبت التاريخ بأنه الرجل القوي الذي يستطيع تقديم “تنازلات” لا يجسر أحدٌ على اتهامه بالضعف عند تقديمها (هيكل – حديث المبادرة – ص 38)
ويلاحظ هنا أن غولدمان اعترف بأن الجنرال قدم تنازلات لثورة الجزائر، وهو ما لا يعترف به قوم يدّعون بأن استقلالنا كان منحة من دوغول، ويقول بعض سفهاؤهم أحيانا أنه كان أساسا بفضل دعمهم .
ودور المغرب يذكر بنظرية “تزاوج العبقريات”، التي كان العاهل المغربي الراحل قد نادى بها، وتتحدث عن خلق تكامل بين المال العربي والعبقرية الإسرائيلية، وهو ما فسّره كثيرون بأنها محاولة لضمان ولاء اليهود ذوي الأصل المغربي في إسرائيل، ومنهم كثيرون هاجروا إليها بدون أن يقطعوا صلتهم نهائيا بالمغرب، الذي كان استقبل أجدادهم المطرودين من الأندلس وأحسن رعايتهم.
وقد كان ذلك، للأمانة، عملا ذكيا ضمن به الملك الحسن وجود “لوبي مغربي” له تأثيره داخل الكيان العبري، ولعلها كانت محاولة للتلويح لليهود بإمكانية تشجيع الاستثمار المالي العربي في مشاريع يهودية، وهناك من يدعي أن الملك الحسن استفاد من ذلك اللوبي بضغوطه على فرنسا لإرجاع الملك محمد الخامس إلى عرشه في منتصف الخمسينيات.
وأستطرد لحظات لأقول بأن الحديث عن العبقرية اليهودية بشكل مُطلق هو أسطورة خادعة، لأن ما يُسمّى بعبقرية يهودية هو نتاج للمجتمع الذي يعيش فيه اليهود، فقد برز الطبيب اليهودي العظيم موسى بن ميمون (1135-1204)في عز الحضارة العربية الإسلامية، وفي العصر الحديث برز أينشتاين لأنه نشأ في ألمانيا وعاش في أمريكا، وشارلي شابلن ولد في بريطانيا وتألق في أمريكا، ومصر عرفت يهودا متميزين في العهد الملكي كان من بينهم الفنانة الرائعة ليلى مراد والماليّ يوسف قطاوي باشا، الذي أسس بنك مصر مع طلعت حرب باشا،ولكن ليس هناك عبقري أو مجرد متعلم بارز من يهود اليمن أو من فلاشا إثيوبيا.
والمهم هنا أن غولدمان نجح في ترتيب اجتماعات بين مسؤولين في المغرب ووزراء لبيغين (ص 39) وأرسل السادات في سبتمبر من نفس العام مساعده “حسن التهامي” إلى الرباط ليلتقى”موشيه دايان”، استكمالا للرسالة التي كان قد حملها له الكولونيل الدليمي.
وكان التهامي، وهو واحد ممن ارتبطوا بثورة يوليو، يحمل لعبد الناصر كرها كبيرا، تماما ككل من يهمشهم نظام ما في مكان ما لسبب ما، وكان يتردّد أنه مختل العقل، حيث كان يفاجأ الجالسين معه عندما يلتفت منتفضا وقائلا بصوت مرتفع: “وعليكم السلام ورحمة الله”، وعندما يُسأل عن السبب يقول إن “سيدنا الخضر عليه السلام كان مارّاً وأقرأه السلام، فردّ عليه تحيته”.
ويقول هيكل أن اختيار التهامي سوف يظل إلى زمان طويل موضعا للدهشة (عواصف….-ص 344 ) خصوصا بعد أن تكشفت حقائق كثيرة (..) ومن بينها أن مدير المخابرات العامة اللواء “كمال حسن علي” كُلّف بالانضمام إليه في الرباط، لكنه، بأمر من الرئيس، لم يحضر الاجتماع مع دايان، ولم يعرف حتى اسم المسؤول الإسرائيلي الذي قابله التهامي.
وكان المهم في الاتصالات إصرار إسرائيل على ألا تعرف بها واشنطون، وبالطبع فقد كان السادات قد أمر بها من وراء ظهر حلفائه العرب، ربما لأنه كان يدرك أنهم سيقفون ضد أي تسوية منفردة، ولأنهم، في معظمهم، كانوا يتابعون بقلق كبير تنازلاته المتواصلة عن مصادر قوته، ويؤسفهم اضطرارهم لمعرفة التطورات عبر تسريبات من هنا وهناك.
ويبدو أن الجانب الإسرائيلي، الذي كان يهدف إلى تحقيق اللقاء المباشر مع الرئيس المصري، كان يرى أن اللقاء وسيلة لتخريب مؤتمر جنيف، حيث كان رئيس الوزراء مناحم بيغين، الإرهابي القديم المعروف، يعارض مفهوم تسوية شاملة يتم التوصل إليها مع اشتراك كافة الدول العربية والقوتين الأعظم.
ويروي التهامي عن لقائه بدايان فيقول إنه : “بادرني بالسلام مادّا يده للمصافحة، فلم أصافحه (..) وقلت له إنني لم أكن أتوقع في حياتي أن أقابلك إلا في ميدان المعركة”!!! (ولم يُعرف للرجل إنجاز عسكري متميز) ثم يواصل روايته قائلا أن دايان سأله وهو مندهش: “لماذا أوقفتم الحرب في اليوم الرابع وكنا على استعداد لكي نستسلم لكم مقابل أن تبقونا أحياء” (ولم يَرِدْ تأكيد لما نسب لأعور إسرائيل في أي وثيقة اطلعت عليها،وأتذكر الآن حكاية سيدنا الخضر)
أما دايان فيقول عن لقائه مع التهامي (ص8/346) أن : “مُحاوِره لم يكن يعرف الكثير من الحقائق (..) وبشكل ما فقد أحسست أن إلحاحهُ على السرية يعكس أزمة كبرياء لديه، لا يعرف كيف يُعبّر عنها ولا كيف يُداريها (..) فقد ركز بصره عليّ وسألني: قل لي بصراحة، “ألم يكن جمال عبد الناصر متآمرا معكم سنة 1967 ؟” (..) “إنه رجل مجنون وسأكتب عنه كتابا”.
ويقول دايان عن الملك الحسن:”(..) على مائدة العشاء (..) أبدى الملك تقديرا للسادات على حساب سلفه جمال عبد الناصر، الذي قال إنه لم يكن رجلا صادقا، وقد خدع أصدقاءه وأعداءه على السواء، ولكن السادات رجل مختلف” (وواضح هنا أن العاهل المغربي لم ينس تضامن عبد الناصر المُطلق مع الجزائر في أكتوبر 1963)
وعرض الرئيس المصري على مكتبه السياسي نتائج لقاء التهامي، فقال إنه أبلغه بأن “إسرائيل مستعدة للانسحاب من الأراضي المصرية بدون تأخير، ومستعدة بعد ذلك للتفاوض حول كل شيء، وأنهم يقبلون الانسحاب من بقية الأرض المحتلة على أساس تعديلات طفيفة”،ويعلق السادات قائلا : “أنا الآن واثق من النجاح، وأتذكر ما قاله لي كيسنجر من أن القضية هي نفسية قبل كل شيء”.
ولقد اطلعتُ أنا على رواية كل من التهامي ودايان كاملة عن لقائهما في المغرب، ولم أجد حرفا واحدا مما قاله الرئيس المصري لمكتبه السياسي، والسؤال المطروح: من كذبَ على من؟
وهكذا سار السادات في لعبة بيغين لمجرد أن كراهيته للعرب أصبحت، ولعلها كانت، متجذرة في نفسه، حيث لم ينسَ أنهم عرفوه وجودا باهتا بجانب عبد الناصر، وكان رأيهم فيه أنه إمّعة لا موقف له ولا رأي إلا ما يراه “المعلّم”،وعُرف بتعبيره الشهير “تمام يا ريس″، وقيل أنه كان مُعقدا مما تسرب بأنه كان يتلقى راتبا ماليا من بعض الدول الخليجية، وبالتالي فإنه كان يتصرف وكأنه يُعدّ لتصفية الحساب مع العرب ككُلّ، والانفراد بالشعب المصري بفضل قواعد الشوفينية وأسوار البارانويا التي يرتفع بناؤها يوما بعد يوم وراء أسوار الإعلام.
والثابت أنه، وقبل الاتصال المصري الإسرائيلي المباشر، لم يكن الموقف في الشرق الأوسط قد وصل إلى حالة جمود ميئوس منها، وإنما كان يتحرك نحو سلام شامل لم تكن إسرائيل يوما من أنصاره، لأن السلام يُفسد مخططاتها التوسعية، وكل ذلك يسقط كل المبررات التي قدمها السادات لينطلق في مبادرات منفردة.
ويتساءل إسماعيل فهمي في مذكراته : إذا كان كل شيء يسير في الاتجاه الصحيح لعقد مؤتمر جنيف للسلام في نهاية 1977 فلماذا اختار السادات خطوة من جانب واحد ستؤدي تلقائيا إلى وضع نهاية لكل الجهود الجماعية، وإحباط كل الآمال في أن يُعقد مؤتمر السلام ؟
هل كان السادات يتواطأ مع إسرائيل لمنع إنجاح المفاوضات الجماعية؟ (..)
ولماذا يُخفي السادات عن كارتر، بطلب من بيغين، الاتصالات المباشرة التي كانت تجري بين مصر وإسرائيل (..) أم أنهما كان يخشيان أنه سيعترض (..) خوفا من تخريب الجهود الأمريكية الداعية للسلام (..) والسادات كان يعلم بلا شك، أو يتوقع، أن أشقاءه العرب سيرفضون قراره الذي اتخذه من جانب واحد. (ص 293)
ويِؤكد وزير خارجية مصر الأسبق أن الرئيس كارتر وإدارته كانا ملتزمين التزاما كاملا بعقد مؤتمر جنيف بهدف التوصل إلى تسوية شاملة، وأن ورقة عملٍ تتضمن النقاط الإجرائية قد تمت صياغتها، ولم تكن الإدارة الأمريكية تخشى أي عرقلة من الجانب السوفيتي، كما أنها كانت حريصة للغاية على تفادي أي تطورات جديدة من شأنها زيادة صعوبة الموقف، ومن الخطأ الزعم بأن موسكو كانت تتصرف على نحو مُخالف.
هنا نلاحظ أن “بطل الحرب”المزعوم سيضيّع الفرصة الحقيقية ليكون بطلا حقيقيا للسلام، بإضاعة إمكانية الوصول إلى إحلال سلام عادل وكريم، وهي فرصة مؤتمر جنيف، وسيضع نفسه تماما بين براثن إرهابي “الإرغون زفاي لئومي” السابق، ليحصل على شبح سلام زائف، سيكون من بعض نتائجه تدمير التضامن العربي والتخريب الكامل للمجتمع المصري.
ويزعم كثيرون، ممن يعرفون طبيعة السادات، أنه فعل ذلك عندما أحس بأنه سيكون في جنيف “مجرد واحد” من مجموعة قيادات دولية، من بينها كارتر وبريجنيف وربما قيادات أوربية أخرى لها وزنها، وقد يأتي الصينيون للمشاركة في العرس الكبير، وهكذا سيكون “مجرد واحد” من الحضور، ولن يكون أبرزهم بأي حال من الأحوال.
ولن أدخل في تفاصيل التصرف الذي أصاب العلاقات العربية بشرخ لن يلتئم أبدا، وهي الزيارة التي قام بها الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة، فالتفاصيل معروفة في معظمها، لكنني سأتوقف، باختصار، عند معطيات يفرضها السياق.
وابدأ باستعراض الدول التي زارها السادات قبل أن يتخذ قراره، وكانت رومانيا يوم 30 أكتوبر، وكنت أشرتُ لموقف تشاوشيسكو، الذي أراد، كما يقول فهمي، أن يكون همزة وصل بين مصر وإسرائيل، متأثرا برأي غولدمان عن دوغول.
ثم جاءت إيران بعدها، وكان لشاه إيران رأيه بأن مصر ليست عربية، وأنها، مثل إيران، مجرد جارٍٍ للعرب، وكان يردد بأن الصراع العربي الإسرائيلي كلّف مصر فوق ما تطيق.
لكن كانت هناك الرياض، حيث يقال أن الملك خالد لم يسمع من الرئيس المصري شيئا عن نواياه، مع ملاحظة أنهكان يترك مقاليد الحكم بين يدي ولي العهد الأمير فهد.
ويقوم الرئيس السادات في 26 أكتوبر، واستعدادا لزيارة إسرائيل، بتعيين د. بطرس بطرس غالي كاتبا للدولة (وليس وزيرا) للشؤون الخارجية.
ويعلق إسماعيل فهمي في مذكراته على بعض ما رواه السادات في كتابه عن فكرة زيارته لإسرائيل، مُفندا ما قاله الرئيس في محاولة لتغليف مبادرته بهالة من الغموض، فيروي ما قاله السادات من”أن فكرة الزيارة جاءته وهو يطير فوق تركيا ويعبر الجبال إلى إيران وأراد إحداث موجات صدمة (Shockwaves)، ثم يقول بأن السادات سأله: أريد أن أعرف رأيك في رحلة خاصة إلى القدس، وإلقاء خطبة في الكنيست ؟ فأجابه : هل عندك أي معلومات لا أعرفها تبرر هذه الرحلة ؟ وأمام نفي الرئيس واصل فهمي قائلا: أنت تلعب بكل أوراقك في القدس بدون أن تجني شيئا، كما أنك ستفقد مساندة البلدان العربية (..) وستجبر على التنازلات (..) عليك ألا (..) تعطيهم فرصة لعزل مصر عن العالم العربي (ص 310) وإذا ما حدث هذا فإن إسرائيل لا شك ستملي عليك شروطها”.
ويقول فهمي أنه عندما أبلغ مدير مكتبه، أسامة الباز، بحواره مع الرئيس : “انفجر أسامة قائلا : هذا جنون، هذا الرجل غير متزن، لا بد من منعه حتى ولو استعملنا القوة”.
http://www.raialyoum.com/?p=339137(ملاحظة: المقال يحوي اخطاء ميكانيكية (كلمات مدموجة) و تم تصحيحها)