في ذكرى 50 عامًا.. أسباب النكسة من مذكرات رئيس الأركان الفريق اول محمد فوزي
رغم أنَّ الكثيرين كتبوا عن أسباب نكسة يونيو 1967، التي تحلّ ذكراها الخمسون هذه الأيام، إلا أنَّ مذكرات الفريق أول محمد فوزي، رئيس أركان القوات المسلحة خلال حرب يونيو، تُعَدُّ الأكثر عمقًا وصراحة، فضلاً عن كونها الأكثر مصداقية واطلاعًا، بحكم أن صاحبها كان الرجل الثاني في هرم العسكرية المصرية، حينئذ.
وتتَّسم مذكرات فوزي بعِدَّة صفات تجعلها "وثيقة مهمة"، فالرجل كان رئيسًا لأركان الجيش المصري، وهي وظيفة تتيح لصاحبها الاطلاع ليس فقط على مجريات الحرب العسكرية، وإنما أيضًا معرفة ما يدور في دهاليز السياسة والحكم، أي معرفة الحرب من وجهيها؛ السياسي والعسكري.
كما أنَّ الفريق فوزي شارك في جميع الحروب المصرية منذ عام 1948، وشغل لفترة منصب "كبير المعلمين" بالكلية الحربية، ثم تولى عبء إعادة بناء الجيش عقب النكسة، بعد تعيينه قائدًا عامًّا للقوات المسلحة يوم 11 يونيو 1967، وهو ما يجعله يجمع ما بين العمل النظري والتطبيق العملي؛ حيث كان على اطلاع كامل بأبعاد النكسة وملابساتها، كما امتلك القدرة على تحليل ذلك، بشكل محترفٍ.
واعتمد فوزي في كتابة مذكراته على «مفكرة يومية» كان يسجل فيها الأحداث بتفاصيلها، وهو ما أعطى كتابه نكهةً مميزةً، فهو أبعد ما يكون عن السَّرْد الإنشائي، مقتربًا من الكتب العسكرية الفنية؛ حيث جمع ما بين الرؤية والتحليل والنقد، فضلاً عن توافر الأرقام والمعلومات الدقيقة، بحكم المناصب الرفيعة التي شغلها المؤلف.
وفي بداية سَرْده لأسباب النكسة، يلفت الفريق فوزي إلى أنه "لم يدوّن أو ينشر منذ عام 1948 حتى عام 1967 أية حقائق أو دراسات ولم يجرِ أي تحليل عسكري عن المعارك التي حدثت خلال تلك الفترة؛ لأسباب سياسية ومعنوية، الأمر الذي أوقع ضررًا كبيرًا بالأجيال اللاحقة والناشئة من القادة، فوقعوا بدون مبرر في الأخطاء العسكرية نفسها في المعارك التي قادوها بعد ذلك؛ إذ إن العلم والمعرفة والخبرة المكتسبة من المعارك لا يصحّ أن يحجبها أي عائق، حتى لو كانت حقائقها وظروفها سيئة".
فقر العلم العسكري النظري، من خلال الافتقاد لدروس وعبر الحروب السابقة، صاحبه فقر أكثر وطأة على صعيد الواقع العملي؛ حيث يشير الفريق فوزي إلى أنَّ "توجيه القوات المسلحة مجهودها الرئيسي إلى عملية الوحدة مع سوريا ثم حرب اليمن كان له تأثيره السلبي، في عدم الاهتمام بالتدريب وإعداد القوات".
ويوضِّح كيف انزلق الجيش المصري في "مستنقع اليمن"، ففي البداية اقتصر الأمر على إرسال كتائب صاعقة وسرب طائرات معاونة واستطلاع جوي، بما لا يزيد عن ألف جندي لمدة تستغرق 3 أشهر على الأكثر، ثم تطور الوضع، حيث تمَّ إرسال قوات بَرّية كبيرة وصلت إلى 13 لواءً، إضافة إلى معظم كتائب الصاعقة (7 كتائب) ولواء دبابات و10 كتائب مدفعية، بحيث وصل عدد القوات إلى 70 ألف مقاتل في عام 1964.
ويلفت الفريق فوزي إلى أنَّ تأثير حرب اليمن لم يقتصر على إنهاك القوات، وإبعادها عن مسرح العمليات الأساسي في سيناء، بل إنَّ التأثير القاتل تمثّل في "المبالغة في انتصارات الوحدات المصرية، وروايات البطولات الفردية والترقيات الاستثنائية والنياشين والأوسمة، وجاءت على عكس المقصود منها، فإذا كانت القيادة تريد رفع معنويات الجنود، فإن ردّ فعل هذه المبالغة كان الغرور القاتل والثقة الفارغة بالنفس والتقليل من شأن العدو الحقيقي، وتصديق ما يظهر في عناوين الصحف والإذاعات من مَجْدٍ زائف وكفاءة قتالية مظهرية".
وتسرد المذكرات واقعة بالغة الدلالة لمدى التسيُّب الذي حدث داخل القوات المسلحة بسبب حرب اليمن؛ إذ "وصل الأمر إلى حد اقتراح الضباط المصريين في اليمن عقد امتحانات الثانوية لأبنائهم وأقاربهم هناك. وانتقل جميع الدارسين مرتين وثلاثًا إلى اليمن وأدوا الامتحان ليعودوا جميعًا إلى أرض الوطن ناجحين وبتفوق. وترتب على ذلك كثرة الهمس حول المهمة القومية في اليمن، وتمّت إحالة بعض الضباط الصغار (المتورطين في تلك الواقعة) إلى المعاش".
وفي الإجمالي، يرى الفريق فوزي أنَّ حرب اليمن أدَّت إلى دخول القوات معركة 67 وهي غير مُعَدّة على الإطلاق للحرب الحديثة، وناقصة التدريب، منخفضة المستوى، وكفاءتها القتالية ضعيفة جدًّا، وفاقدة للانضباط العسكري.
وفيما افتقد الجيش المصري للتدريب والإعداد، كان الوضع على مستوى القيادة العسكرية والسياسية لا يقل سوءًا، فـ"الصراع الخفي بين الرئيس عبد الناصر والمشير عامر، جعل الموقف الداخلي غير طبيعي؛ حيث انفرد المشير بالسلطة الفعلية على القوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني، كما بسط نفوذه على بعض أجهزة الدولة وخاصة أجهزة الأمن وتمكن في الوقت نفسه من إخراج القوات المسلحة من وضعها الطبيعي في الهيكل التنظيمي للدولة".
وفي ظلّ هذه الأجواء، يشير الفريق فوزي إلى هيمنة "دعاوى أمن القائد والقوات المسلحة والثورة، ما جرّ القوات المسلحة الى طريق أبعد ما يكون عن الالتزام الأصلي بالاستعداد للمعركة"، كما أنّ التركيز على عنصر الأمن أدّى إلى "سيادة ممارسات تتسم باستعراض القوة واستغلال النفوذ والخلط بين السلطات والتمادي في الاستهتار وعدم الانضباط والتعالي والمخادعة الإعلامية.. كل هذا أدَّى إلى انعزال القوات المسلحة عن الشعب الذي التفّ حولها وأيدها عام 1952 ففقدت القوات المسلحة أكبر سند لها، وهو الشعب".
ويوضح الفريق فوزي أنَّ "سيطرة مفهوم الأمن على القوات المسلحة، بدأ بأمن القوات المسلحة واشتق منها أمن الثورة ثم أمن الدولة ثم أمن القائد، وهكذا دخل موضوع الأمن ليطغى على كل شيء إنتاجي أو فكري أو إعداد وتدريب في القوات المسلحة".
ويضيف: "منذ عام 1965 بدأ الرئيس يوكل إلى المشير والقوات المسلحة مهمات حساسة مثل القضاء على الإقطاع وتطبيق تحديد الملكية والقضاء على الرأسمالية المستغلة، حيث رأس المشير لجنة تصفية الإقطاع بنفسه، إضافة إلى مهام مثل إصلاح مرفق النقل العام والسيطرة على الجمارك، بحجة إصلاحها، والتحقيق في قضايا الإخوان".
وفيما أثّر ذلك التدخل الكبير للقوات المسلحة في الشئون الداخلية، وما صاحبه من إجراءات عنيفة، على علاقة الجيش بالشعب، فإنَّ القوات المسلحة نفسها، كما يشير الفريق فوزي، لم تنجُ من أسلوب القسر والإجراءات العنيفة فكان الطرد والمحاكمات السرية والإحالة على المعاش، عن غير الطريق التأديبي، وهي إحدى السلطات التي أضيفت للمشير عامر، من نصيب عدد كبير من الضباط".
ويلفت الفريق فوزي إلى أنه فيما "خرجت القوات عن مهمتها الأساسية وهي الإعداد للقتال، وركزت على زيادة السيطرة والنفوذ.. كانت التقارير والبيانات الخاطئة التي ترفع إلى القيادة العسكرية والسياسية، تشيد بقدرة القوات وكفاءتها، الأمر الذي سبّب خطأ في التقديرات التي بُنِي عليها قرار الحرب".
وكان نتيجة ذلك أنَّ "انغمست البيروقراطية العسكرية في الخداع الإعلامي بقصد السيطرة على الشعب، فكانت الاستعراضات العسكرية في ذكرى 23 يوليو تضخم قدرات القوات المسلحة وتظهرها على أنها معجزة من ناحية العدد والتسليح بينما كان التدريب على القتال مظهريًّا كما أنَّ القوات المسلحة حتى النكسة لم تمارس عمليًا أسلوب وإدارة العمليات المشتركة وكان يدرس نظريًّا فقط في الكليات".
وبالنسبة لمشروعات التصنيع العسكري الذي حَظِيت بدعاية إعلامية واسعة في الستينيات، فيوضح الفريق فوزي أنَّ تلك المشروعات كانت ضمن خطة الدولة، وخصصت لها ميزانية ضخمة؛ حيث برزت فكرة تصنيع صواريخ بعيدة المدى سُمِّيت بالقاهِر والظافِر والرائِد، كما تمَّ البدء في تصنيع محرك الطائرة المقاتلة بالاشتراك مع الهند، لكن ورغم الدعاية الإعلامية إلا أنَّ هذه المشروعات فشلت فشلاً ذريعًا وخسرت الدولة خسائر مادية كبيرة بسبب عدم دراسة المشروعات اقتصاديًّا وضرورة عرضها على مجالس متخصصة.
وفي الوقت الذي كان المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، يهيمن تمامًا على الجيش، فإنَّه كان يفتقد التأهيل العسكري، حيث ارتبط صعوده لقمة الهرم العسكري بدوره في ثورة يوليو وليس لتاريخه العسكري.
ويحلّل الفريق فوزي النتائج التي ترتيب على هذا الخلل، موضحًا أنَّ المشير عامر "لم يتمسك بهدف معين وغير الخطط أربع مرات، مع ما ترتب على ذلك من تحركات كثيرة أنهكت فكر القادة في الميدان وأنهكت القوات والمعدات، ففاجأها العدو قبل أن تستكمل استعدادها في أوضاعها المتغيرة، ثم كان أمر الانسحاب الغريب في أدائه وفي توقيته، وكانت الهزيمة التي فقدت فيها القوات المسلحة أغلب أسلحتها ومعداتها".
ووفقًا لرئيس أركان الجيش في حرب 67، فإنَّه لم تظهر أي استراتيجية عسكرية محددة لمصر إلا في عام 64، عندما كلفت القيادة العام، قيادة المنطقة العسكرية الشرقية بوضع الخطة "قاهر" الدفاعية، لكن لم يتبع ذلك استكمال أو تخطيط إعداد الدولة أو الشعب أو مسرح العمليات للمعركة، خاصة في الاتجاه الاستراتيجي الرئيسي، وهو سيناء، ولم يتمّ سوى إعداد وتجهيز النقاط الدفاعي الأول وتجهيز 4 كباري فقط و4 مطارات.
ولم يقتصر الأمر على نفس التدريب والعتاد، بل إن نمط الترقية والصعود داخل القوات المسلحة لم يسمح بوصول الضباط الأكفأ إلى مناصب القيادة؛ حيث يلفت الفريق فوزي في مذكراته إلى أنَّ "أهل الثقة وصلوا إلى رتب القيادة للتشكيلات الميدانية إلى أن تم الحشد الحقيقي في سيناء وأصبحت البلاد على شفا حرب، في هذه اللحظة اضطر المشير عامر إلى تغييرهم وعين بدلاً منهم ضباطًا آخرين لهم دراية أفضل بالقتال، لكن جاء ذلك متأخرًا حيث صدر قرار التغيير في الأسبوع الأخير من مايو وتم تنفيذه في 5/6 يوم بدء القتال.
أما عن تركيبة الجنود أنفسهم، فيوضح الفريق فوزي أن "الغلبة بين ضباط الصف والجنود كانت للأميين، فيما بلغت نسبة الحاصلين على الإعدادية: 9% من أفراد الجيش، 18% من القوات البحرية و21% من القوات الجوية والدفاع الجوي، بينما لم يكن بين صفوف القوات المحاربة جنود جامعيون، بسبب تخوف القيادة العليا من دخول الجامعيين لأسباب تخص أمن القوات المسلحة".