تعتبر معركة جنين الأولى والتي جرت بين الثاني والرابع من حزيران عام 1948 في قطاع مدينة جنين الفلسطينية وعمقها القروي من أكثر المعارك تأثيراً على مجريات الحرب في النصف الثاني من عام 1948. فلهذه المعركة الكثير من المدلولات التكتيكية والاستراتيجية والعديد من الانعكاسات القريبة والطويلة المدى على سير المعارك وعلى معنويات الشعب الفلسطيني وصموده في هذا القطاع المهم من جبهات القتال.
منذ البداية، ظهر واضحاً للعيان أن قوات الجيوش العربية التي جاءت إلى فلسطين في الخامس عشر من أيار 1948 ورابطت في أجزاء مختلفة منها كانت تتمركز وتشترك في القتال، بشكل فعلي، فقط في المناطق المخصصة للدولة العربية حسب قرار التقسيم. هذا في حين لم تلتزم القوات اليهودية بذلك،حيث لم تكتف باحتلال المناطق المخصصة للدولة اليهودية بل هاجمت مناطق مخصصة للدولة العربية وقامت باحتلالها حتى قبل مغادرة القوات البريطانية فلسطين في الخامس عشر من أيار 1948.
بعد ان أكملت القوات اليهودية احتلال قرى المزار ونوريس وزرعين وتهجير أهلها في الثلاثين والحادي والثلاثين من ايار 1948، بدأت هذه القوات تقصف مدينة جنين بمدافع الهاون وبعض الطلعات الجوية وقد تركزت معظم الهجمات على محيط منطقة القلعة ( نقطة البولسي التي كانت في الماضي جزءاً من حزام القلاع الذي أقامه الضابط البريطاني تشارلز تيجارت أثناء ثورة 1936 -1939 ) والتي كانت مقراً للقوات المدافعة عن المدينة.
كان هذا القصف يهدف، كما يبدو، لتحقيق جملة من الأهداف العسكرية والاستراتيجية بعيدة المدى. فمن الناحية العسكرية كانت هذه الهجمات تهدف لاحتلال مدينة جنين والوصول إلى مفرقي قباطية ودير شرف الاستراتيجيين بحيث يكون من شأن القوات الواصلة إلى هناك عزل القوات العراقية المتمركزة في المثلث ومفاجأتها من الخلف بشكل يضطرها للانسحاب أو التسليم وهو أمر يعزز إلى حد كبير الوضع العسكري للقوات الإسرائيلية في االمواقع التي كانت قد احتلتها في قضائي حيفا وبيسان.
أما على الصعيد الاستراتيجي فقد كان هذا القصف يهدف لترويع السكان المدنيين وتعجيل تهجيرهم كما حصل في القرى والمدن العربية التي كانت قد احتلت وهجر سكانها قبل ذلك. هذا مع العلم أن نسبة عالية من اللاجئين القادمين من قطاعات حيفا وبيسان، كانت قد وجدت لها ملجأ في مدينة جنين ومحيطها، إذ أن تهجير سكان المدينة ومحيطها أنفسهم كان من الممكن ان يبعد اللاجئين مسافة أكبر عن قراهم ويزعزع لديهم المعنويات والإصرار على العودة.
كما وثمة هدف آخر سعت القيادة الإسرائيلية لتحقيقه وهو محاولة منع هجوم عراقي محتمل نحو العفولة ومرج ابن عامر يكون من شأنه عزل القوات اليهودية المتواجدة في منطقة بيسان وطبريا.
في البداية نزح سكان زرعين والمزار ونورس وصندلة ومقيبلة والجلمة وزبوبة إلى جنين وبرقين وميثلون وقرى أخرى، ولكن مع اجتياح القوات الاسرائيلية مدينة جنين في الثاني من حزيران 1948 نزح اللاجئون وسكان مدينة جنين وقرية برقين أنفسهم نحو قرى جنوب القضاء وقرى شمالي قضاء نابلس.
بلغ عدد القوات اليهودية المهاجمة قرابة 4000 مقاتل انتظموا في أربع فرق، ثلاث منها (الفرق 21 و 22 للواء كرملي والفرقة 13 للواء جولاني) قامت بالهجوم بشكل فعلي، أما الرابعة فقد انحصر نشاطها في أعمال التمويه والامداد. أما القوات العربية المدافعة فقد تكونت من: 250 جندياً عراقياً ينتمون إلى سريتين الأولى سرية مشاة بقيادة نوح عبد الله الحلبي وسرية مدرعات بقيادة الضابط محسن الأعظمي.
وقد كانت هذه القوات مسلحة ببضعة مدافع هاون وسبع مدرعات وخمس رشاشات من طراز فيكرز. إلى جانب القوة العراقية كان هناك فصيل فلسطيني يتكون من خمسين مقاتلاً من قرى شرقي قضاء جنين يقوده الشهيد داود الحوراني وفصيل فلسطيني آخر يقوده فوزي فياض جرار من صانور وقد كان يتبع جيش الجهاد المقدس هذا إضافة لفصيل من المتطوعين الفلسطينيين والأردنيين كان يقودهم الضابط عبد الرحمن الصحن (وقد كانوا مرابطين قبل ذلك في قرى شمالي قضاء جنين كزرعين والمزار ونوريس) وبعض رجال البوليس الفلسطيني برئاسة الملازم نايف صالح البرغوش. وقد كان كل المتطوعين ورجال البوليس مسلحين سلاحاً خفيفاً لم يتعد البنادق الشخصية وبعض صناديق الذخيرة للبنادق الخفيفة. اما السرية التابعة للجيش الأردني والتي كانت تحت قيادة الضابط عصر المجالي ( إبن الشيخ رفيفان المجالي ) فقد كانت قد غادرت جنين قبيل الهجوم الإسرائيلي بأربع وعشرين ساعة وقد أثار انسحابها الهلع في قلوب المدنيين وصاحب ذلك تدهور حاد في معنوياتهم.
مع قدوم الضابط العراقي نوح الحلبي ( من مواليد الموصل عام 1909، خريج الكلية العسكرية في بغداد وقد أنهى خدمته في الجيش العراقي برتبة عقيد ) مع سريته في ليلة الثاني من حزيران أصبح هو القائد الأعلى لكافة الجنود والمتطوعين العرب وقد جعل مبنى قلعة البوليس مقراً لقيادته، وقد كان معه في مقر القيادة إضافة لقادة الوحدات المذكورة أعلاه قائمقام جنين عصام الشوا وقاضي محكمة الصلح في جنين خليل العبوشي والدكتور نصفت كمال وضابط البوليس نور الدين العبوشي.
سير المعركة:
في غضون يوم الثاني من حزيران 1948 وليلة الثالث منه، استطاعت القوات الإسرائيلية السيطرة على معظم التلال المحيطة بمدينة جنين بل واقتحمت معظم الأحياء السكانية بحيث لم يبق بيد القوات المدافعة سوى بعض الجيوب ومبنى القيادة في القلعة. وقد ابرق القائد نوح الحلبي إلى كافة القطاعات العراقية في فلسطين طالباً النجدة، وذلك بعد أن أوشكت ذخيرة جنوده على النفاذ. وقد كانت الوحدات التي يقودها المقدم عمر علي ( من مواليد كركوك عام 1910، خريج كلية بغداد العسكرية أنهى خدمته في الجيش العراقي برتبة زعيم ركن ) هي أقرب الوحدات العراقية إلى جنين حيث كانت هذه الوحدات في طريقها لاستبدال وحدات عراقية أخرى مرابطة في منطقة المثلث الجنوبي ( الطيرة وكفر قاسم ).
بدأت طلائع القوة العراقية تصل مشارف جنين في الساعات المبكرة من فجر الثالث من حزيران، وقد سارت هذه القوات، التي ساندتها قوات من المتطوعين الفلسطينيين، في مسارين: الأول على الطريق العام نابلس - جنين وقد كانت هذه القوات برئاسة المقدم ميخائيل شلمون ( عراقي ؟أشوري)، والثاني كان بقيادة عمر علي وقد سلك طريقاً فرعياً غربي الطريق العام ليتسنى له مفاجأة القوات اليهودية من الخلف في منطقة برقين ؟اليامون.
حاولت القوات اليهودية وقف تقدم النجدات العراقية من خلال قصفها من الجو من دير شرف وحتى جنين لكن هذه الهجمات لم تفلح بوقف التقدم سيما وأن تقدم القوات العراقية كان قد تم في الليل. بدأ الالتحام بين القوات في الثامنة صباحاً من يوم الثالث من حزيران. في البداية احتلت القوات العربية سفوح برقين وبعد ذلك استطاعت هذه القوات من السيطرة على تل الخروبة الاستراتيجي بعد معركة في السلاح الأبيض خاضتها سرية عراقية بقيادة الضابط إدريس عبد اللطيف. ثم اشتد القتال في منطقة محطة السكة الحديدية التي جعلتها القيادة اليهودية مقراً لها. في عصر ذلك اليوم حاولت القوات اليهودية القيام بهجوم مضاد من خلال وحدة مدرعات ووحدتي مشاة ولكن نيران المدفعية العراقية منعت هذا الهجوم من تحقيق أي انجاز على الأرض بل قامت القوات العراقية وقوات المتطوعين الفلسطينيين بهجوم آخر تكلل في صباح الرابع من حزيران بطرد القوات اليهودية من كافة الأحياء السكنية للمدينة بل طاردت فلول القوات المنسحبة إلى ظاهر جنين الشمالي، حيث انتهت الأعمال القتالية حوالي الساعة الحادية عشرة قبل الظهر.
وقد غنم الجيش العراقي في هذه المعركة حوالي 300 بندقية من طرازات مختلفة وعشرة مدافع هاون وعشرين رشاشاً وأربعة أجهزة لاسلكية. قدرت خسائر القوات الإسرائيلية ب-300 بين قتيل وجريح، في حين قدرت الخسائر العربية بنحو 100 من العسكريين (عراقيين وفلسطينيين وأردنيين ) ونحو خمسين مدنياً.
الملفت للنظر أن هذه المعركة لم تحظ بالاهتمام البالغ من جهة الكتاب والمؤرخين اليهود، فقد اختار البعض تجاهلها في حين ذكرها البعض الآخر بشكل عرضي، في حين لم ير فيها من ذكرها إخفاقاً بل انجازاً منع التواصل بين قوات الجيش العراقي في محيط المثلث الكبير ( جنين ؟ نابلس ؟ طولكرم ) وبين قوات جيش الانقاذ في الجليل. وعلى سبيل المثال فقد قال موشيه كرمل قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي آنذاك في معرض حديثه عن تلك المعركة: " هذه المعركة المرة التي دفعنا فيها أغلى الدماء، حسمت مصير مرج يزراعيل الذي أصبح بعدها لنا إذ أن خطط وتحضيرات العدو لمهاجمة العفولة تحولت إلى شظايا بعد المعارك الطاحنة التي دارت في جنين ومحيطها".
صحيح أن خط النار بعد هذه المعركة كان على مشارف مدينة جنين، لكن القوات العراقية سعت لإبعاده قرابة 15 كم نحو الشمال وقد نجحت في ذلك في سلسلة من الهجمات قامت بها في الثامن من تموز 1948، بحيث أضحى خط النار على تخوم قرية زرعين المهجرة شمالي خط قرى صندلة ومقيبلة، وقد بقي هذا خطاً للنار حتى اتفاقية رودس في ربيع 1949 بين الأردن وإسرائيل والتي جرى بموجبها تسليم قرى مقيبلة وصندلة للقوات الإسرائيلية التي دخلتها في تموز 1949. في حين كان العراقيون قد غادروا تلك المنطقة وسلموها للجيش الأردني في كانون الثاني من العام 1949.
وللخلاصة نقول إنه لولا الإنجاز الذي حققته القوات العراقية وقوات المتطوعين من الفلسطينيين والأردنيين في معركة جنين لكان جزء كبير من قرى هذا القضاء في عداد القرى المهجرة وربما مدينة جنين نفسها التي كان سكانها قد نزحوا بمعظمهم عنها أثناء موجة الهجوم الإسرائيلية الأولى وقد عادوا بعد استردادها من قبل القوات العربية.