مع فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، عاد الجمهوريون لاستلام زمام السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد غيابٍ دام ثماني سنوات. وسوف تعتمد السياسة الخارجية الجديدة للحزب الجمهوري على تفضيلات الرئيس المنتخب بشكلٍ أساسي، إلّا أنّه من الواضح والضروري أنها ستأخذ في عين الاعتبار مخاوف الناخبين والوقائع في الخارج. وما زالت القيادة العالمية للولايات المتحدة أمراً لا غنى عنه للمصالح الأمريكية والعالم على حد سواء، ولكن يجب أن تكون مصممة خصيصاً للمشهد الجيوسياسي الذي يختلف عن ذلك الذي كان سائداً في المرة الأخيرة التي كان فيها الجمهوريون في السلطة.
وكان خوف الناخبين من التغيرات المقلقة التي يشهدها العالم من العوامل التي دفعتهم إلى دعم ترامب في المعركة الرئاسية. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أنّ المقترعين الجمهوريين يهتمّون بشكلٍ أساسي، إلى جانب الاقتصاد، بموضوعي الإرهاب والسياسة الخارجية - وهما مسألتان مرتبطتان بالعلاقة التي تجمع الولايات المتحدة بالعالم. ولم يخطئ الأمريكيين في قلقهم هذا، إذ إن المنافسة في العالم تزداد يوماً بعد يوم، ويضعف بذلك التأثير الأمريكي عليه. وعند مقارنة الوضع الحالي بـ"اللحظة الأحادية القطب" التي تميّزت بالتوافقية في أعقاب الحرب الباردة بين التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي، من المرجح أن يكون العصر الجديد أكثر خطورةً وفوضوية وإثارة للجدلية.
ومن المغري بالنسبة للجمهوريين إلقاء لوم هذه التطورات على الرئيس أوباما. فقد تفاقمت الأزمات في عهده واضطربت التحالفات، وغالباً ما بدا أنّه غير مكترثٍ لأمرها. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أنّ أكثر من نصف الشعب الأمريكي يعارض السياسة الخارجية للرئيس أوباما. وبالفعل، واجه هذا الأخير انتقاداتٍ من عددٍ كبير من الخبراء الديمقراطيين في السياسة الخارجية.
ومن المرجّح أنّ تكون سياسات الرئيس أوباما قد سرّعت الاتجاهات السلبية في المكانة الدولية للولايات المتحدة. إلّا أنّ تصورات الأمريكيين لقوة بلادهم ونفوذها لم تتراجع ابتداءاً من عام 2009، بل قبل سنين عديدة من ذلك العام. وهذا يشير إلى أنّه يتعيّن على الحزبين الجمهوري والديمقراطي إعادة التفكير الذاتي، وأنّ المشكلة تتخطى فشل أي سياسة كانت.
ولا تأتي التغيرات العالمية الحالية نتيجة تراجع الولايات المتحدة، بل بروز الدول الأخرى. فالقوة الاقتصادية التي كانت تتركز في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان في السابق، أخذت تفقد مكانتها. وفي الواقع، أصبح "الناتج المحلي الإجمالي" في الصين ينافس ذلك الخاص بالولايات المتحدة، وبحلول منتصف القرن الحالي، سيصبح الاقتصاد الهندي ثالث أضخم اقتصاد في العالم. ويرى "مجلس الاستخبارات الوطني" الأمريكي أنّ حصّة الولايات المتحدة من القوة العالمية المتمثلة بالثروة الاقتصادية والقوة العسكرية وما إلى ذلك سوف تتقلص من الربع في أوائل القرن إلى السدس بحلول منتصف القرن. أمّا حصص اليابان والحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في أوروبا فمن المرجح أن تتضاءل أكثر من ذلك.
وتعمد الدول الأخرى إلى تحويل قوتها الاقتصادية المتنامية إلى قوةٍ عسكرية بشكلٍ متزايد. وفي حين لطالما كانت جيوش أخرى، كالصين مثلاً، أكبر من جيش الولايات المتحدة من حيث العديد العسكري، فإن تحديثها المتسارع يشكّل القلق الأكبر اليوم. فقد تكاثرت القدرات العسكرية العصرية كالطائرات المسلحة بدون طيار والذخائر الموجهة بدقة وأنظمة منع الوصول/تحريم الدخول. وتبني الصين اليوم قوةً عسكرية قادرة على مواجهة الولايات المتحدة في غرب المحيط الهادئ، والأمر مماثلٌ لروسيا التي أصبحت قادرة على مواجهة الولايات المتحدة، لكن بقدرات أكثر محدودية، في أوروبا الشرقية.
بالإضافة إلى ذلك، يواجه النظام الدولي القائم تحدياتٍ متزايدة. وتشهد الديمقراطية تراجعاً منذ عام 2006 نسبةً لعدد الديمقراطيات الانتخابية في العالم ولمستويات الحرية والحريات المدنية على الصعيد العالمي، وذلك بعد أن كان انتشارها التدريجي يبدو محتماً في السابق. وقد تباطأ تطوّر رأسمالية السوق الحر منذ الأزمة المالية، كما تعثرت الاتفاقات التجارية.
وفي الوقت نفسه، سعت دول أخرى إلى مواجهة الغرب على نحو متزايد بخصوص الحق في تشكيل النظام الدولي. فقد أصبحت الصين وروسيا أكثر صرامةً في تنفيذ مقارباتهما الخاصة للقضايا الراهنة، بدءً من السيطرة على الأراضي في بحر الصين الجنوبي وشبه جزيرة القرم، ووصولاً إلى المنافع المشتركة والقواعد المتعلقة بالتبادل التجاري. حتى أنّ الدول الحليفة للولايات المتحدة، وليس تلك المحايدة فحسب، أصبحت تتوخى الحذر في الانضمام إلى المبادرات الأمريكية أو مقاومة مبادرات منافسيها. فقد فشلت واشنطن مثلاً في حشد المعارضة ضد "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية" الذي أنشأته الصين، حتى أنّ المملكة المتحدة رفضت المبادرات الأمريكية.
ويمكن أن تحافظ الولايات المتحدة على موقعها البارز في العالم. إلّا أنّ ذلك سيتطلّب منها مواجهة هذه التحديات وبلورة سياسة خارجية قادرة على التغلب عليها بدلاً من الأمل في أعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وتبقى قوة الولايات المتحدة ونفوذها هائلين. بيد، لن تتمتع واشنطن مرةً أخرى بالمنافع النسبية التي كانت تملكها بعد الحرب العالمية الثانية أو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولا يمكنها أن تتوقع أن تحقق استراتيجية التموضع العام أكثر من مجرد تأخير فاتورة حساباتها بالتهديدات والأزمات وفرض شروطٍ لا ترضى بها.
لذلك، من الضروري أن يتم تحديد السياسة الخارجية الأمريكية المستقبلية من خلال الاعتراف بأهمية الحفاظ على القوة الأمريكية وتوسيعها وتطبيقها بشكلٍ استراتيجي وفعّال في بيئةٍ جيوسياسية أكثر تقييداً وتنافسية. وهذا يعني تخطي مناقشات العقود المنصرمة بين المحافظين الجدد والواقعيين، والتي تركزت بشأن نشر قوة أمريكية إضافية والكيفية التي يتم بها ذلك والأهداف التي يراد تحقيقها. فلم تعد هذه المسائل طارئة في الوقت الذي أصبحت فيه القوة صعبة المنال.
لذلك، من الضروري أن يتم نشر القوة الأمريكية، ليس من أجل حل مشاكل دول العالم لمصلحة هذه الأخيرة، بل من أجل التعزيز الواضح لمصالح الولايات المتحدة. وقد تشكّل تأدية دور الوسيط في التوصل إلى حلٍ للمشاكل أو الأزمات الأخرى خارج البلاد استراتيجيةً سليمة في بعض الأحيان، ولكن فقط إذا تفوقت المنافع التي تعود على الولايات المتحدة على التكاليف التي تترتب عن هذه الوساطة. وقد تكون الحلول صعبة المنال في بعض الأحيان، وكل ما يمكن لواشنطن القيام به هو الحفاظ على مصالحها.
إلّا أنّ فهم الولايات المتحدة لمصالحها والتركيز عليها لا يعني بالضرورة التخلي عن أسس انخراطها مع العالم بعد الحرب العالمية الثانية، أي القيادة العالمية والتحالفات القوية والمؤسسات الليبرالية، أو عدم تفهّم مصالح الآخرين وأخذها بعين الاعتبار. وقد صبّ النظام الذي تقوده الولايات المتحدة في مصلحتها، وشكّل إحدى أهم القنوات لنشر السيطرة الأمريكية. إنّ نهوض القوى المعارضة دليلٌ على أن هذا النظام في حاجةٍ إلى التحديث والتعزيز وعدم الإهمال، لإنّ النظام الذي حل محله قد يكون أقل مناسباً بكثير بالنسبة للولايات المتحدة. وسوف يكون للتحالفات أهميةً أكبر، وليس أقل، في عصر لن تكون فيه القوة الأمريكية هي المسيطرة. وستحتاج واشنطن إلى الحلفاء والشركاء، ليس لمشاركة الأعباء فحسب، بل للمساهمة في تحقيق التوازن ومقاومة القوى المتحدية - وهم بدورهم بحاجة إلى الولايات المتحدة.
وباختصار، من الضروري أن تكون السياسة الخارجية الأمريكية أكثر تركيزاً وواقعية وكفاءة. ويجب أن تتطابق الغاية مع الوسيلة، وهو أمرٌ لم يتحقق في العراق عام 2003، أو مؤخراً في سوريا وبحر الصين الجنوبي. يتعين على الولايات المتحدة توسيع قدراتها العسكرية والدبلوماسية ودعم دبلوماسيتها بالقوة والعكس بالعكس، وذلك من خلال استخدام الأدوات المتعددة للسياسة العامة بصورة متناسقة وليس بشكلٍ تدريجي. يتعين عليها أيضاً أن تسعى إلى الحد من الأزمات والصراعات، وبالتالي إعادة التأكيد على الردع والتخطيط الاستراتيجي، بدلاً من الانتظار لحل المشاكل عندما تندلع. ويجب عليها أن تضمن استدامة معاييرها الدولية المفضلة وتمديدها بدلاً من افتراض هذه الاستدامة، إذ ستصبح هذه المعايير من دون جدوى إذا لم يتم تطبيقها.
وقد أظهرت دراسة جديدة لـ "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية" أنّ الأمريكيين من جميع الأطراف ما زالوا يؤمنون بالقيادة العالمية للولايات المتحدة. ومع عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض، يتعين عليهم إثبات أهمية [صياغة] سياسةٍ خارجية تضع الولايات المتحدة في موقع القيادة في عالمٍ تزداد فيه التنافسية يوماً بعد يوم، والنجاح في تحقيق هذه السياسة والحفاظ عليها بشكلٍ مستدام. ويشكل ذلك خطوةً ضرورية، ليس للمواطنين الأمريكيين فحسب، بل أيضاً للكثيرين في الخارج الذين ما زالوا ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها الأمل الأكبر للعالم، وذلك لأنهم يدركون البدائل عنها بشكلٍ مباشر.
الكاتب : مايكل سينغ هو زميل "لين سوينغ" الأقدم والمدير الإداري في معهد واشنطن.