في تطور غير متوقع أواخر الشهر الماضي، أعلن المرشد الأعلى آية الله خامنئي ترقية الجنرال محمد باقري إلى منصب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية. محمد باقري هو شخصية غامضة من فيلق الحرس الثوري الإسلامي، تمّ تكليفه بالإشراف على جميع فروع القوات المسلحة الإيرانية، بما في ذلك الحرس الثوري، والجيش النظامي، وقوات الشرطة.
تولى رئيس هيئة الأركان السابق، حسن فيروز أبادي، هذا المنصب منذ سبعة وعشرين عامًا، وهو طبيب بيطري بالأساس، يرجع له الفضل في التطورات الهامة التي شهدتها القوات العسكرية الإيرانية، ولكن افتقاره إلى الخبرة العسكرية ظلّ وصمة عار على سمعته.
على الجانب الآخر، يفتخر محمد باقري بأصل عسكري قوي؛ فهو شقيق بطل حرب، قضى فترة الحرب بين إيران والعراق على الخطوط الأمامية، واستخدم فطنته الاستراتيجية ليصبح قائد الحرس الثوري لعمليات الاستخبارات والمعلومات. وبعد الحرب مباشرة انتقل إلى هيئة الأركان العامة ليواصل عمله في المخابرات. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الجغرافيا والجغرافيا السياسية، ويدّرس في الكلية الحربية، بالجامعة الوطنية العليا للدفاع.
الأهمّ من ذلك أنَّ محمد باقري ينتمي إلى زمرة من ضباط الحرس الثوري الذين يشكّلون القيادة الأساسية للمنظمة، ويجلس جنبًا إلى جنب مع أمثال محمد علي جعفري، القائد الحالي للحرس الثوري الإيراني، وقاسم سليماني، الجنرال الشهير الذي يقود جناح التدخل السريع بالحرس الثوري، فيلق القدس. تتألف هذه الزمرة العسكرية من عدد قليل من الأعضاء، ولها علاقات عميقة تعود إلى الحرب بين إيران والعراق، ومؤثرة بشكل كبير في تشكيل مسار المنظمة. كما أنها لا تمانع التدخل في السياسة الداخلية؛ فأعضاء هذه الزمرة، بما في ذلك محمد باقري، وقّعوا خطابًا في عام 1999 إلى الرئيس محمد خاتمي، يهددون بانقلاب عسكري في حال لم يسحق خاتمي تمرد الطلاب المتزايد في ذلك الوقت.
تعيين محمد باقري باعتباره الرجل الأكثر نفوذًا في القوات المسلحة الإيرانية، في الوقت الذي تخوض فيه إيران صراعات عديدة في منطقة الشرق الأوسط، ليس مجرد تعديل تنظيمي فحسب؛ بل إنّه يشير إلى إعادة هيكلة تكتيكية واستراتيجية جوهرية للوضع العسكري في إيران وعلى رأسها قوي الحرس الثوري الإيراني، التي يمكن أن يكون لها تداعيات كبيرة على التطورات الإقليمية في السنوات القادمة.
يمكننا تناول عمق إعادة الهيكلة من منظور حجم التغييرات الهائلة داخل القوات المسلحة الإيرانية، مع عدد من التعيينات الأخرى التي تمّ الإعلان عنها في الأسابيع التي تلت ترقية محمد باقري.
الأمر الأكثر غرابة بين هذه التغييرات كان تعيين الجنرال غلام علي رشيد، عضو آخر من أعضاء القيادة المركزية للحرس الثوري، كممثل للحرس الثوري في مقر خاتم الأنبياء، وهو مركز التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي للحرس الثوري داخل هيئة الأركان العامة. وعلى الرغم من ندرة الحديث عنه في السنوات الأخيرة، إلّا أنَّ مقر خاتم الأنبياء لعب دورًا هامًا في تنسيق العمليات المشتركة للحرس الثوري الإيراني أثناء الحرب بين إيران والعراق، وقضى عدد من كبار القادة مراحل تكوينهم في هذا المركز، بما في ذلك القائد الحالي للحرس الثوري محمد علي جعفري. ومع ذلك، يبدو أنَّ أهمية المركز قد تضاءلت في السنوات الأخيرة مع قلة الحديث عنه في التصريحات الرسمية أو الدوائر السياسية. كما أنه لم يحظ بقيادة مخلصة أو بارزة منذ الحرب العراقية الإيرانية، وتقع المسؤولية على محمد باقري لإداراته بالتوازي مع أدواره الأخرى في هيئة الأركان العامة.
ولكن هذا من المحتمل أن يتغيّر مع تعيين غلام علي رشيد، الذي سينضم له ممثل من القوات المسلّحة الإيرانية، الجنرال حسين حسيني سعيدي.
لماذا، إذن، يجري تنفيذ هذه التغييرات الشاملة للقوات المسلّحة الإيرانية في الوقت الحالي، بما في ذلك ظهور إعادة مركز التخطيط التكتيكي والاستراتيجي للحرس الثوري؟
ليس سرًا أنَّ القوات المسلّحة الايرانية لعبت دورًا محوريًا في الصراعات داخل منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في العراق وسوريا. منذ عام 2012 على الأقل، وخاصة بعد صعود تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014، أرسلت إيران الآلاف من الجنود والمستشارين لدعم حلفائها في المنطقة وإبعاد الجماعة الإسلامية السُنية، التي تعتبر إيران وحلفائها ذات الأغلبية الشيعية أعداء ألداء لها.
وكانت النهاية القاسية لتدخلات إيران في الشرق الأوسط هي قوات الحرس الثوري الإيراني، الذي فقد حتى الآن مئات المقاتلين وعشرات من القادة في جميع أنحاء المنطقة. في العراق، أشرف الحرس الثوري على إنشاء قوات الحشد الشعبي، وهي منظمة تشمل مئات الميليشيات ذات الأغلبية الشيعية التي تقاتل إلى جانب الجيش النظامي العراقي وتقود العمليات الخاصة في كثير من الأحيان. ويوفر الحرس الثوري التدريب والأسلحة والقادة في الخطوط الأمامية لمساعدة تلك القوات، التي تهيمن عليها ميليشيات تعهدت بالولاء للزعيم الإيراني الأعلى. وقد قُتل بعض عناصر الحرس الثوري الإيراني في القتال، بما في ذلك الجنرال المخضرم حميد تقوي وهو قائد عربي أشرف في عام 2014 على الدفاع عن مدينة سامراء، التي يوجدها بها العديد من المزارات الشيعية.
ولكن في سوريا، لعب الحرس الثوري الإيراني الدور الأبرز. بدءًا من الدعم السريّ لجيش الأسد في عام 2012، ازداد تورط الحرس الثوري الإيراني بشكل كبير، مع قيادة العديد من القوى المختلفة بما في ذلك: قوات الحرس الثوري الخاصة، القوات البرية التقليدية، وقوات الباسيج شبه العسكرية، وقوات الجيش السوري والميليشيات التي تمّ إعدادهم من قِبل الحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني، والميليشيات العراقية المختلفة، التي يتم تدويرها داخل وخارج سوريا وفقًا للحاجة، إلى جانب فرقة من المقاتلين الأفغان معظمهم من الهزارة، يعرفون باسم “فاطميون”، تدعمها وحدة صغيرة من الشيعة الباكستانيين، يطلق عليهم اسم “زينبيون” .
إنَّ الصراعات في الشرق الأوسط هي التي تعيد، عن عمد أو بسبب الظروف، تشكيل الحرس الثوري بشكل يصعب إدراكه. في حين بدأت المنظمة باعتبارها الحرس الإمبراطوري للثورة الإسلامية، تحوّلت اليوم إلى مؤسسة عسكرية متعددة الجنسيات، حيث تعمل على تضمين نفسها في العواصم العربية التاريخية وقيادة مجموعة مختلفة من المقاتلين. وقد كان حزب الله اللبناني في ذروة الثورة الإسلامية الإيرانية في العالم العربي، ولكنه تضاءل اليوم أمام العديد من العراقيين والسوريين والافغان وغيرهم ممن انضموا إلى هيكل قيادة الحرس الثوري الإيراني.
المشكلة التي تواجه الحرس الثوري الإيراني هي أنه لا يمتلك سوى القليل من الوقت للتكيّف مع هذا النمو السريع؛ ففي غضون أربع سنوات فقط، نما الحرس الثوري من قِبل عشرات الآلاف من المقاتلين، ليغطي معارك عسكرية معقدة ومتنوعة. قبل ذلك، كان فيلق القدس بقيادة قاسم سليماني هو المسؤول عن الإشراف على عمليات التدخل السريع للحرس الثوري. واليوم، تشرف منظمة الحرس الثوري بأكملها على عمليات التدخل السريع في المنطقة.
مع هذا النمو السريع وتحوّل التوقعات التشغيلية يأتي خطر كبير من التجاوز الاستراتيجي، ومستوى تهديد معقد ومتنوع نظرًا لأنَّ المنافسين الإقليميين لإيران أصبحوا أكثر اهتمامًا بصعودها. إسرائيل والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص لم يخفيان تحديهما لإيران، ولم يتراجع المسؤولون الإيرانيون عن إلقاء اللوم عليهما في ارتفاع أعمال العنف على الحدود الإيرانية، بما في ذلك عودة ظهور حركة تمرد الأكراد على الحدود الغربية مع العراق، وسلسلة من الهجمات التي تشنها الجماعات المسلّحة على طول الحدود الشرقية مع باكستان. وفي الآونة الأخيرة، دعم رئيس المخابرات السعودية السابق تركي بن فيصل حركة “مجاهدي” خلق، وهي جماعة إيرانية معارضة في المنفى، داعيًا الجماعة لإسقاط نظام الملالي في إيران.
ومع انتهاكات الجمهورية الإسلامية المستمرة لحقوق الإنسان في الداخل، هناك بالتأكيد نقاط ضعف ينبغي استغلالها. وهو ما يقودنا مرة أخرى إلى التغييرات التي يجري تنفيذها في القوات المسلّحة الإيرانية.
تاريخيًا، لم تكن هناك علاقة جيّدة بين الحرس الثوري الإيراني والقوات المسلّحة الإيرانية. تشكّل الحرس الثوري في عام 1979 من قِبل النخبة الدينية للدفاع عن الجمهورية الإسلامية الوليدة، ويُعدّ مظهرًا من مظاهر الثورة والحرب التي تلت ذلك مع العراق: مجموعة من الرجال والفتيان الذين قبل بضع سنوات كانوا يكدحون في الحقول أو يقبعون في سجون الشاه، والآن يقودون قوة من مئات الآلاف من المقاتلين الملتزمين أيديولوجيًا في حرب مدمّرة ودموية. حتى يومنا هذا، يتجنب الحرس الثوري العقيدة العسكرية الكلاسيكية، ويعمل على تطوير نوع من الحرب غير المتكافئة، استنادًا إلى الحشد الشعبي والمُثل العليا للثورة. ويبذل الأعضاء جهودًا كبيرة لإبعاد أنفسهم عن الطقوس العسكرية التقليدية، مفضّلين إعفاء اللحى وارتداء الملابس الفضفاضة، لإظهار التقوى ورفض العالم المادي الغربي.
القوات المسلّحة الإيرانية، على الجانب الآخر، عانت من الثورة. وباعتبارها من بقايا النظام القديم، كان يُنظر للمنظمة بمزيد من الشكّ من جانب النخبة الدينية، الذين طهروها من أفضل القادة وفصلوها عن المستفيد الرئيسي، الولايات المتحدة. لعبت القوات المسلّحة الإيرانية دورًا هامشيًا في الحرب مع العراق، وتمّ حرمانها من القدرة على بناء إرث يضاهي الحرس الثوري الإيراني. وحتى يومنا هذا، القوات المسلّحة الإيرانية هي المسؤولة اسميًا فقط عن الأمن الداخلي في إيران، ولكن في الواقع الحرس الثوري الإيراني هو مَن يقوم بالدوريات على الحدود، ويدير الموانئ، ويشرف على مجموعة الحشد الشعبي الواسعة وأجهزة المخابرات التي تُبقي البلاد تحت رقابة مشددة.
تمّت معالجة هذا الخلل بين القوتين عدة مرات منذ الحرب، مع عدد متزايد من التدريبات العسكرية المشتركة بين الحرس الثوري والقوات المسلّحة الإيرانية في السنوات الأخيرة. لكن ليس هناك ما يشير إلى الجهود الفعلية عن التكامل أو الاندماج. وعلى الرغم من أنَّ ازدياد النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي للحرس الثوري، تمّ ترك القوات المسلّحة الإيرانية بلا معدات كافية ومهمشة سياسيًا، على الرغم من احتواءها على قوة عسكرية كبيرة من القوات العسكرية والبحرية والجوية. عودتها الجريئة إلى دائرة الضوء في وقت سابق من هذا العام، من خلال الإعلان عن نشر قوات خاصة في سوريا، لم تسفر سوى عن خراب خلال أيام، بعد مقتل عدد من الجنود في كمين للثوار السوريين. القوات المسلّحة الإيرانية تكافح من أجل التعبير عن نفسها، لكنها عادت بشكل غير رسمي مرة أخرى إلى الظلال، مع معلومات قليلة عن عملياتها في سوريا منذ ذلك الحين.
الآن، رُغم ذلك، يبدو أنَّ القيادة السياسية الإيرانية تحاول دمج القوتين مرة أخرى.
كشف رئيس هيئة الأركان العامة الجديد محمد باقري عن مهمة من أربع نقاط في منصبه الجديد، وضعها مباشرة المرشد الأعلى:
(1) خطة تحديث للقوات المسلحة الايرانية لمدة خمس سنوات.
(2) تعزيز الحشد الشعبي في مجالات الدفاع والأمن؛
(3) استمرار الاستعداد الدفاعي مع مساعدة من هيئة الأركان العامة ومقر خاتم الأنبياء؛
(4) دمج القوات المسلّحة الإيرانية، وخاصة مع الحرس الثوري.
وفي سياق مماثل، أعلن قائد القوات المسلّحة الإيرانية أحمد رضا بوردستان عن إنشاء “سلسلة الدفاع” على طول الحدود الإيرانية، تهدف إلى زيادة جمع المعلومات الاستخباراتية وتبادل المعلومات بين الحرس الثوري والقوات المسلّحة الإيرانية.
يبدو، إذن، أنَّ إيران قد شرعت في محاولة أخرى لدمج الأجنحة المختلفة للقوات المسلّحة الإيرانية. بالتأكيد هناك منطق استراتيجي وراء هذه الخطوة: النمو التوسّعي للحرس الثوري والانخراط في الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط، إلى جانب الإهمال النسبي للقوات المسلّحة الإيرانية، كل هذه العوامل أحدثت خللًا كبيرًا في القدرات التي تحتاج إلى معالجة. من أجل أن يعزز الحرس الثوري الإيراني مصالحه في الخارج ومواصلة تحوله إلى مؤسسة عسكرية متعددة الجنسيات، يجب أن تثبت القوات المسلّحة الإيرانية قدرتها على سد الثغرات في الداخل.
الأمر غير المفهوم حتى الآن هو ما إذا كانت هذه التغيرات تضع الحرس الثوري والقوات المسلّحة الإيرانية على قدم المساواة، أو أنها غارة على موارد القوات المسلّحة الإيرانية من قِبل الحرس الثوري الإيراني. إعادة ظهور مقر خاتم الأنبياء تشير إلى الاحتمال الأول. لكنَّ حقيقة أنَّ رئيس الأركان الجديد هو قائد سابق بالحرس الثوري الإيراني، يتفاخر بخبرته العسكرية الواسعة وينحدر من القيادة المركزية للحرس الثوري، هي تذكير مؤثر أنَّ الحرس الثوري، وليس القوات المسلّحة الإيرانية، هو مَن يمتلك زمام الأمور في إيران.
يجب على المراقبين الأجانب الانتباه لهذه التغييرات الجريئة في القوات المسلّحة الإيرانية، حتى في الوقت الذي تخوض فيه الصراعات في جميع أنحاء المنطقة، وأنها تبرهن على وجود ثقة تامة في قيادة البلاد. إنها ليست إعادة تقويم للسياسات؛ بل تأكيد لها، مع تركيز واضح على المستقبل.