الحلقه 3
كانت توقيتات انسحاب التشكيلات كالآتي: اللواء المدرع / 16 في الساعة الخامسة عصراً، اللواء المدرع / 30 في الساعة السابعة مساءً، لواء المشاة الآلي/25 في الساعة الثامنة مساءً، وتنسحب الصنوف الساندة مع تشكيلاتها، أما المواد غير الضرورية للقتال فيباشر بإخلائها فوراً.
واللافت للنظر أن كثيراً من الوحدات العسكرية لم تستخدم العجلات القليلة المخصصة لنقلها بل ذهبت سيراً على الأقدام رغم أن المسافة إلى خط الحدود لا تقل عن 80كم، كانوا ينشدون الأمان لأن العجلات أصبحت أهدافاً سهلة للطائرات المغيرة وقد أصدرت أمرا بأن لا يتركوا شهيدا أو جريحا في أرض المعركة وكررت هذه العبارة مرات عديدة في المؤتمر. (في الحرب مع إيران، كنا نقدم شهداء وجرحى إضافيين من أجل إنقاذ جريح أو إخلاء شهيد من أرض المعركة ولكن هذا الاهتمام المعنوي بدأ يتلاشى تدريجيا، ففي البداية كنا نحزن لاستشهاد مقاتل عدة أيام وفي أحيان كثيرة كان رفاقه يمتنعون عن تناول الطعام وكان ذلك يتطلب تدخلنا لرفع معنوياتهم وإعادتهم إلى وضعهم الطبيعي وواجباتهم الإعتيادية، وبعد سبع سنوات من سير تلك الحرب، شاهدت في معركة "الحصاد الأكبر" عام 1987 جنوداً يتناولون طعامهم على بعد متر واحد من شهيد لم يجف دمه النازف بعد)، وفي الكويت، إختلفت الأُمور على نحو أسوأ حيث لم يعد هناك أي دافع للتضحية، فلقد تلاشت هذه القيم مع تلاشي قيمة الإنسان العراقي عموما بنظر حكومته. فالجندي صار يترك الموضع وينسحب باتجاه الحدود دون رادع ولم يعد يهتم بالقيم العسكرية بخلاف آمر السرية وآمر الوحدة واللواء وضابط الركن الذي لا يملك غير البقاء في موضعه منتظراً الأمر الرسمي بالانسحاب أو الموت وهذا ما تقتضيه التقاليد العسكرية، حيث أن الضابط لا يمكنه أن يتصرف حيال الأحداث مثلما يتصرف الجندي البسيط.
كان الوضع النفسي العام يوحي بالانهيار وربما يهدد بفقدان السيطرة لأن الجميع متهيئون للانسحاب. في ذلـك الحين، قمت باتصالات هاتفية مع الفيلق مستفسراً عن ضباط الركن عسى أن أحصل على معلومات إضافية عن الموقف فلم أجد أحداً رغم أن الساعة لم تجـاوز العاشرة صباحا. المعلومات غير الرسمية تشير إلى إكمال الفيلق الثالث انسحابه وكذلك قيادة عمليات الخليج في مدينة الكويت. قلت في نفسي، إن مبررات بقائنا حتى الثامنة مساء قـــد انتفت ولاسيما أن الفرق الأمامية وهي مشاة (20 و 30 و 16 و 21 ) كانت قد أخلت مواقعها ليلا وذهب جنودها سيراً على الأقدام باتجاه الحدود وكانت أعدادهم قليلة نسبياً، فهذه الفرق ناقصة الملاك أصلا، علاوة على أعداد المتسربين والهاربين الذين لا تقل نسبتهم عن 60%، وقد وقع آلاف منهم في الأسر يومي 24 و 25 شباط ، وأما الباقون فكانوا لا يزيدون على بضع مئات، انسحبوا ليلا ضمن مجموعات تضم عناصر من مختلف الفيالق والصنوف وانتشروا في الصحراء، على الطرق المؤدية إلى العراق.
من المسؤول عن هذا الإنهيار؟ هل هو الجندي في الموضع الأمامي أم القائد العسكري الميداني، أم السياسي الذي منح نفسه رتبه عسكرية وزج بالجيش في معركة كانت خاسرة في الأساس ؟ وما الذي يجب أن يترتب عليه من جراء ذلك كله؟
التوقيت الحرج !
في خضم هذه الأوضاع وتطوراتها السريعة كان لا بد أن أتحدث مجدداً مع قائد الفرقة حول توقيتات الانسحاب خشية قيام قوات الحلفاء بتعقب قطعاتنا وتكبيدها خسائر جسيمة. وفي ضوء ما حصلنا عليه من معلومات، قال لي: "كلامك صحيح، ولكن المراجع العليا طلبت عدم إخلاء الموضع قبل الساعة الثامنة مساءً، والتوقيت مهم في الانسحاب. قلت، صحيح ولكن توقيت المراجع بني على أساس بقاء الفيلق الثالث وقطعات أخرى حتى الساعة السابعة مساءً من هذا اليوم الأمر الذي لم يحدث. كل المواضع أصبحت خالية حتى مدينة الكويت نفسها عدا الفيلق الثاني في الروضتين والعبدلي، وإذا كان لا بد من أن نلتزم بالتوقيت النهائي علينا أن نسرع في سحب التشكيلات الأمامية مع الاحتفاظ بلواء المشاة الآلي / 25 حتى اللحظة الأخيرة، فوافق على ذلك من حيث المبدأ وأجرى تعديلا على توقيتات الانسحاب".
طلبت من العقيد الركن "جليل خلف" آمر اللواء المدرع / 16 الشروع بالانسحاب في الساعة الثانية بعد الظهر مع التأكيد على استخدام أسلوب التسرب (تقسيم اللواء إلى سرايا فتنسحب بالتعاقب، ونحدد فاصلة زمنية مناسبة بين حركة سرية وأخرى) إذ كان وضع اللواء صعبا، فالكفاءة الفنية للدبابات متدنية وهي من الموديلات القديمة تي "55 صينية"، رومانية، روسية، بولونية، وعند المباشرة بالانسحاب تعرضت كتيبتا، "المهلب وحذيفة" لغارات جوية عنيفة ما أدى إلى استشهاد وفقدان وجرح عدد من الضباط والجنود.
واصل أفراد مقر اللواء وكتيبة دبابات الرافدين والفوج الرابع الآلي انسحابهم السريع دون توقف، وفي الساعة الرابعة عصراً تعرض مقر الفرقة لغارة جوية جرح فيها ثلاثة جنود. ففي الأيام التي سبقت الانسحاب، كان المقر هادئا ولكن الحركة تزايدت فيه يوم الانسحاب، إجتماعات وحركة واسعة للضباط والعجلات، كما مرت وحدات اللواء المدرع / 16 بالقرب منه مما شجعت القوة الجوية لدول التحالف لإعادة النظر في موقفها من المقر.
في الساعة الخامسة مساءً شرع اللواء المدرع / 30 بالانسحاب وكنا خلال النهار نتساءل "قائد الفرقة وأنا وهيئة الركن، عن القوات البرية للحلفاء والطرق الممكن أن تسلكها باتجاهنا وتوصلنا إلى أنها بلا فاعلية حيث أنها متوقفة في أماكنها في مواضع الفرق الأمامية حسب المعلومات المتيسرة لدينا. تجدر الإشارة هنا إلى أن الجنرال "شوارتزكوف"،قائد جيوش التحالف، توقف عند هذه النقطة، وفي مذكراته انتقد قائد القوات المصرية المهاجمة لقاطعنا واصفا إياه بأنه كلاسيكي وأنه يخشى كثيراً هجوماً عراقياً متوقعاً!
في الساعة الخامسة والنصف مساءً وبينما كنت أتابع انسحاب وحدات اللواء المدرع / 30 الذي يضم كتائب دبابات المثنى، طارق، شرحبيل، الفوج الخامس الآلي، دخل إلى مقري قائد الفرقة فقلت له، إن نصف اللواء المدرع /30، قد ترك مواضعه منسحباً بسلام وقد سبقه اللواء المدرع / 16 وانسحبت الصنوف الأُخرى والخدمات والقسم الأكبر من هيئة الركن في مقر الفرقة في وقت مبكر وحسب التوجيهات، وبعد استراحة قصيرة قلت له: سيدي.. تقاليد الانسحاب تقول: القائد مع القسم الأكبر.. وها هو القسم الأكبر من الفرقة قد انسحب وسأشرف بنفسي على إتمام عملية انسحاب الباقين، قال: طيب، أشكرك وصافحني مودعا، وقبل خروجه ذكرني بضرورة عدم سحب اللواء الآلي "25" قبل التوقيت المحدد، قائلاً : "إن الأوامر تنص على ذلك"، ويبدو أنه أحس برغبتي بسحب اللواء مبكراً. وفي الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة، دخل مقري "العقيد الركن عبد الكريم أحمد"، مسرعاً وفور نزوله من العجلة صاح (بصوت عال) متسائلاً، أين رئيس الأركان؟ وأضاف قائلاً : (كتيبة دبابات شرحبيل أصبحت في خط التماس مع قوات الحلفاء ودروعهم تتقدم باتجاه مقر الفرقة،).. وركب عجلته ملتحقا بتشكيله مسرعاً.
قذائف .. تتساقط
في هذه الأثناء، بدأت قذائف مدفعية ثقيلة تتساقط على مقر الفرقة بمعدل اثنتين إلى ثلاث قنابل في الدقيقة الواحدة، وهذا مؤشر على بدء التقدم الفعلي نحو مقرنا. اتصلت فوراً بآمر لواء المشاة الآلي / 25 لأبلغه المباشرة بالانسحاب فوراً، ولكن الجندي المخابر في بدالة اللواء أخبرني بأن آمر اللواء قد رفع سلك التلفون ويبعد عنه مسيرة 15 دقيقة فأمرته بالذهاب فورا. سألت "المقدم ركن حمد الخفاجي" ضابط الركن الثالث استخبارات الفرقة، عن موقف مقر الفرقة وجاهزيته للحركة، وبعد خمس دقائق أخبرني بأن كل شيء جاهز، فقلت له : اسحبهم واترك لي الجندي المخابر "عامل البدالة" وضباط الإرتباط، وحينما اتصل بي "العقيد الركن محمد علي الجميلي "آمر لواء المشاة الآلي /25"، اعتذر عن رفع سلك التليفون في وقت مبكر، وسألته إن كان جاهزاً للانسحاب... قال ضاحكاً: كيف لا ، أنا جاهز للانسحاب منذ البارحة!! قلت له: إن قوات الحلفاء في تماس مع الوحدات الأخيرة للواء الثلاثين، انسحب فورا وتحاشَ التماس معهم.. نسّق استخدام الطريق مع "عقيد ركن عبد الكريم" لأن السابلة مزدحمة.
عين على الحدود
هل يمكنني أن أتساءل، بأننا قد أشرفنا على النهاية؟ حيث كل شيء أمسى جاهزاً للرحيل عن الكويت الآن! التشكيلات الرئيسة في حالة انسحاب وكذلك الصنوف والخدمات وهيئة الركن. لم يبق في مقر الفرقة سوى "أربعة ضباط" ارتباط يقودهم النقيب " فؤاد محمد أمين" وجندي مخابر ونائب ضابط "هادي" سائق عجلة اللاندكروز "وصادق" الجندي الانضباط والمراسل "حسن" وأنا. قلت للنقيب فؤاد مازحاً: من بقي في الموضع فهو "صامد" حتى النهاية! فتلفت يميناً وشمالاً وابتسم قائلاً: لم يبق أحد سيدي، وإنما نحن فقط! قلت: خذ جماعتك وانسحب وانتظرني قرب جبل سنام. انطلق فؤاد فرحاً ولكنه سرعان ما عاد ليخبرني بأن عجلة ضباط الارتباط عاطلة، فأومأت إلى نائب ضابط هادي طالبا منه أن يسحبها إذ لا بد من تشغيلها بسرعة، وعاد فؤاد مسرعا وهو يردد: العجلة اشتغلت سيدي !
كان القصف يشتد على مقر الفرقة بنيران المدفعية ويزداد كلما تقدم الوقت، حينها حملتنا العجلة اللاندكروز مشرعين بالسير في أعقاب قطعاتنا المنسحبة باتجاه منطقة الرميلة العراقية وقد بذلت أقصى ما يمكن من جهد للسيطرة على الانسحاب، وعلى انفعالات الضباط والجنود وكان أملي أن نصل أرضنا وندخل حدودنا الإقليمية دون تضحيات إضافية، وفي الوقت الذي كنت أرغب فيه مشاهدة قوات التحالف التي سمعنا وقرأنا عنها الكثير خلال الأشهر الماضية، كنت أحذر من التماس معها بعد أن بدأنا بالانسحاب والعودة إلى حدودنا.
بانوراما الكارثة
كانت صور التذمر والسخط والنقمة تشمل كل الأفراد والجنود بملابسهم الرثة وأحذيتهم المتهرئة وهم يجرون أقداما تحمل أجساما منهكة وفي عيونهم حزن عميق وأمل ضائع ونفوسهم تتطلع إلى إنهاء المأساة والقضاء على عناصرها المسببة وإنقاذ شعبنا مما ينتظره من نتائج مدمرة. كانوا يشقون طريقهم وهم يترنحون من الإعياء والتعب وصور الموت تلاحقهم، فطائرات التحالف لم تكف عن القصف، فكان المنظر يزداد بؤسا باحتراق الدبابات والعجلات وكلما اقتربت الطائرات كان الجنود يتمددون على الأرض ثم ينهضون ويستأنفون سيرهم ببطء باتجاه الحدود، العديد من الضباط تركوا عجلاتهم لكي يتجنبوا القصف، لكننا بقينا في عجلتنا "اللاندكروز"، نقطع الطريق التي تعرضت للقصف الشديد الذي أحدث فيها أخاديد عميقة، وفي وسط حشود جنودنا المتدفقة كنا نشق الطريق بصعوبة بالغة وكانت نظرات مثقلة بالعتاب تواجهنا وهي ترسم تعابير غير مألوفة وتساؤلات مكبوتة عن هذا الدمار وعن المسؤول عن كل ذلك !
( في الحرب العراقية – الإيرانية، خسرنا معارك مهمة واضطررنا إلى الانسحاب مراراً ولكن لم يبلغ الإحساس بمرارة المأساة الحد الذي نعيشه اليوم، إنها الكارثة بعينها. فلقد خسرنا كل شيء.)
كان الكثير من الضباط والجنود يقطعون الطريق مشيا على الأقدام، وبقدر ما كان الأمر مأساويا، كان ينبئ بمرحلة قادمة تعقب مرحلة الانكسار، حبلى بأحداث مريرة، وفي هذا المنعطف اختفت الرتب وتساوى أفراد الجيش وتوحدت مشاعرهم وأحاسيسهم في مسيرة المعاناة الطويلة. كانت الساعة تشير إلى العاشرة مساءً وقد وصلنا جبل "سنام" حيث كان يفترض أن ألتقي ضباط مقر الفرقة وقطعاتها وكان القصف شديدا وطائرات الحلفاء تلقي حمولتها بكثافة وعلمت أن السبب في ذلك هو نصب رادار على قمة جبل سنام.
قررنا أن نذهب إلى الزبير لقضاء الليلة هناك ثم نستأنف البحث في الصباح. كانت المدينة تغص بمئات الدبابات والناقلات والعجلات وهي تقف ملاصقة لجدران البيوت إحتماء بها. هكذا كان حال الجيش الذي قاده نظامه السياسي إلى مثل هذا الموقف الذي لا يحسد عليه.
بقيت أتجول في مدينة الزبير ساعة كاملة، توقفت عند العديد من الدبابات وعجلات القتال المدرعة، كان كثير منها يعود للفرقة المدرعة السادسة والفرقة الآلية الأولى وفرق أخرى وقد ترك الضباط والجنود عجلاتهم وأسلحتهم الثقيلة دون حراسة خلافاً للعرف العسكري ولجؤوا إلى البيوت حيث نزع كثير منهم بزاتهم العسكرية وأخذوا يبحثون عن ملابس مدنية يلبسونها، كانوا يريدون أن يقطعوا علاقتهم بالجيش إذ لم تبق أيام المأساة والمرارة لديهم أي رغبة في الاستمرار فيه، فبدؤوا يربطون بين عودة الأوضاع إلى مجاريها وبين سقوط النظام وانتهاء حكم العصابة الجائرة.
لم أستطع تحمل تلك المشاهد المؤلمة فقررت العودة إلى ناحية صفوان وقضيت الليلة في العجلة متنقلا بين المزارع وقريبا من جبل سنام.
الحواجز تتحطم ..!
كان الجنود وهم يقاسون المعاناة يتلفظون بكلمات تعبر عما يجول في خواطرهم عن النقمة جراء ما حل بهم وكثيراً ما كانوا يدخلون في نقاش، فمنهم من كان يعبر عن سخطه متسائلاً: أين قائد الفيلق ؟ "كذا وكذا"! فيجيبه آخر معبراً عن بعض جوانب وأحوال القادة:
- "وماذا بيد قائد الفيلق ! إنه مثلك ومثلي، ليس له إلا الخضوع والتنفيذ". ولم يكن في أذهان الجنود آنذاك وهم في حالات تذمرهم وسخطهم سوى صورة صدام فقط، بل كان الجنود يتناولون أزلام النظام وأفراد العصابة التي تحكم العراق فرداً فرداً بالشتائم والألفاظ الساخرة.
(أين صدام الآن !؟ .. أين علي حسن المجيد !؟ هرب قبل يومين ! أين هرب !؟ " قالوا لنا، ضعوا الكويت في "قوطية" واقفلوا عليها، إنها بئر نفط ولا انسحاب منها ونفطها للمحرومين من أبناء شعبنا، وإذا بهم يستبيحون الكويت وينهبون ما فيها ويسرقون محتوياتها، ومثل هذه الأعمال من إستباحة ونهب وسرقة لا تقوم بها إلا عصابة مجرمة)، ويكملون (إذا ما "يطير" صدام، أهرب من العسكرية وأكعد ابيتي ! يا جيش ! يا حزب .. كافي مهزلة)
ولا اخفي أن البعض من الجنود أسمعنا كلاماً قاسياً ونحن نمر بهم وهم يطلبون منا أن نحملهم معنا في العجلة ولكني توقفت رغم ما سببوا لي من إحراج كبير أمام جنودي الذين معي في العجلة، إذ أين أضعهم في عجلة صغيرة لا مجال فيها لحمل جندي إضافي واحد !
وعندما سألت بعضهم عن تشكيلاتهم لغرض معرفة الفرق والتشكيلات الأخرى المنسحبة على ذات الطريق امتنع كثيرون منهم إعطائي الجواب !
الفوضى … تـتـسع
في الصباح، كان جبل "سنام"، يرتفع كهامة عراقي يأبى أن يستكين ويرفض سياسة الإذلال التي يتبعها صدام والحلفاء ضده ... كان هذا الجبل يعبر عن كبرياء وعزة العراقيين.!
جاء بعض الضباط يبحثون عن بقايا قطعات فرقهم ... العميد الركن "حسين عداي" قائد الفرقة الآلية الأولى، العميد الركن "أحمد الراوي" قائد الفرقة المدرعة العاشرة (أحيل على التقاعد فيما بعد)، والعقيد الركن "طاهر علي حمود" (أحيل على التقاعد)، وكذلك العميد الركن "نبيل شاهين" قائد فرقة المشاة الثانيـــة (أحيل على التقاعد)، والعميد الركن "وضاح الشاوي" قائد الفرقة المدرعة /17 (نفذ به حكم الإعدام عام 1995) لاتهامه بالتآمر !
كان جبل سنام النقطة الدالة الوحيدة في المنطقة لعموم القيادات بعدما فقدت القدرة على السيطرة والاستدلال ليلاً ولكن القطعات لم تعد راغبة في التجمع خشية أن تكلف بمغامرة جديدة وظلت بعيدة عن مواقع قياداتها مختلطة ببعضها والجميع ينتظر القرارات الأخيرة ولا أحد من الجنود والضباط يجازف بحياته مجدداً.
لقد عم الارتباك وسادت الفوضى وبقيت أنا مستمرا في البحث عمن يرشدني إلى قائد الفيلق أو رئيس أركانه وكانت هناك مقرات للفرق: العاشرة والسابعة عشرة، والثانية، والأولى وهي بدون قطعات وعلمت أنها منتشرة وبدون انتظام بين صفوان والزبير ومعسكر الدريهمية الواسع.
رأيت ضباطا يتحاورون مع بعضهم بصمت وحيرة ويتحدثون في المِأساة التي يعيشها جيشنا وشعبنا وما ينتظرنا من أيام صعبة وكان كل ضابطين من القادة أو الأعوان يقفان على جانب وقد ألجمت ألسنتهم الدهشة والحيرة ولكن كان من بينهم من تحدث بصوت عال مهاجماً النظام قائلاً: "هذه نتائج حكم عصابة تكريت للعراق"!
لم يعد لحاجز الخوف الذي كان يكتم الأنفاس أثر، لقد انهار ذلك الحاجز وانطلقت ألسنة الجميع بالنقد المر اللاذع، وبإجتياز الحدود كانت المعنويات تهبط وتنهار كلما شوهدت آثار التدمير في البصرة والمدن الأخرى والجميع يتساءلون لماذا احتل صدام الكويت ؟ لماذا لم ينسحب حينما كانت الفرصة متاحة وينقذ ماء وجه الجميع ؟ لماذا لم يتحمل المسؤولية وحده ولو لمرة واحدة في حياته! مثلما فعل غيره من القادة الذين يذكرهم التأريخ ؟ لكن صدام لا يملك أن يتصرف كأولئك ولن يتخلى عما احتله من مناصب ومواقع على أشلاء الضحايا وبالأساليب التي يعرفها الجميع.
التقيت بعد جهد بقائد الفرقة وبقية ضباط الركن ... دخل علينا المقدم الركن "قيس" وهو ضابط ركن في مقر اللواء المدرع الثلاثين وأخبرنا عن تواجد لواء المشاة الآلي / 25 في مدخل الزبير، أمـــا وحــدات اللـــواء المدرع / 16، فكانت داخل المدينة نفسها. بينما كانت وحدات اللواء المدرع / 30 في معسكر الدريهمية. كانت أعلى نسبة لتواجد المنتسبين والآليات المدرعة هي في لواء المشاة الآلي / 25 لكونه مجهزاً بعجلات القتال، "B.M.B1" وهي عجلات حديثة وسريعة وتتمتع بكفاءة فنية مما مكنها من قطع المسافة من الكويت إلى البصرة والمحافظة على تشكيلاتها. قال لي قائد الفرقة:
- عقيد ركن نجيب، علينا أن نخرج تشكيلاتنا من الزبير ومن معسكر الدريهمية ونأتي بها هنا لاتخاذ تشكيل دفاعي مناسب وهذا ما كنت أرغب فيه أنا أيضا لأن انتشار القطعات داخل المدينة سيفقدها آخر ما لديها من معنوية وشعور بالمسؤولية تجاه الوطن المهدد من الخارج.
وعلى الفور أخذت المقدم الركن قيس جانباً وطلبت منه أن يشرح لي الموقف الحقيقي للوحدات في الزبير والدريهمية وكما شاهدها فعلا.
قال لي: الوضع سيئ للغاية، الجنود يهربون خشية إعادتهم إلى الجبهة (يقصد جبل سنام)، تسيب وانفلات في الضبط .. الآمرون فقدوا السيطرة على وحداتهم تماما ونسبة الهروب أصبحت عالية جداً.
أردت استنهاض الهمم وحث الآمرين على إعادة السيطرة على قطعاتهم فلم أجد إلا أن أكتب رسالة خطية أُخاطب بها جميع آمري التشكيلات والصنوف في الفرقة وأرسلتها بيد المقدم الركن قيس قائلا فيها: (نرجو من الجميع تهيئة وحداتهم حال استلام رسالتنا هذه لتنفيذ الواجبات التي توكل إلى الفرقة وبمعنوية عالية وبما يتطلبه شرف الجندية والدفاع عن الوطن. مهمتنا الآن احتلال موضع دفاعي غرب جبل سنام وكما في المخطط المرفق بالرسالة، نرجو من كافة الآمرين الحضور إلى مقرنا حال تهيئة وحداتهم، مقرنا في مقر فرقة المشاة / 28 القديم، تؤمن الدلالة من قبل المقدم الركن "قيس"). وكان قصدي من ذكر المعنويات والإشارة إلى شرف الجندية والدفاع عن الوطن هو ضرورة تنظيم الدفاع عن حدود العراق ، وان ما تعرضنا له بسبب نظامنا السياسي وأخطائه لا يعفينا من أداء الواجب كانت استجابة الآمرين جيدة أما الجنود وبعض الضباط الحديثين فلم تكن مشجعة.