صممت قاذفات الكانبيرا خلال الأربعينات من القرن الماضي، فلماذا ما تزال وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) تستخدم ثلاثاً منها حتى اليوم؟ تلقي بي بي سي الضوء على هذا الموضوع.
عندما شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء عام 1944، طلبت وزارة الطيران البريطانية وضع مخططات لقاذفة جديدة قادرة على أن تحلق بسرعة كبيرة وعلى ارتفاع شاهق.
ولم يكن مخططو الوزارة يتوقعون أن طائرة الشركة التي سيرسو عليها العطاء، وهي شركة "كانبيرا الكهربائية الإنجليزية"، وستستمر بالخدمة بعد سبعين عاماً لاحقة، وتقل إلى الجو مختبرات علمية تجري بحوثاً لصالح ناسا وغيرها من الوكالات الحكومية الأمريكية. فلماذا ما تزال وكالة الفضاء الأمريكية التي استخدمت بعضاً من أفضل الطائرات في تاريخ الملاحة الجوية، تستخدم طائرة يعود تصميمها إلى الحرب العالمية الثانية؟
طائرات الكانبيرا التي تستخدمها ناسا هي نسخة أمريكية من الطائرة الأصلية ويطلق عليها اسم "دبليو بي 57"، ومصممة على أساس الطائرة "بي 57" التي صممت بترخيص من شركة مارتن لصناعة الطائرات خلال الخمسينات، والتي صنعت حوالي 400 طائرة منها بين عامي 1953 و1957. الأنواع التي تستعملها ناسا هي آخر ما تم صناعته ومازالت في الخدمة، بعد 33 عاماً من إخراج سلاح الجو الأمريكي لهذه الطائرات من الخدمة. وقد التقطت في الآونة الأخيرة صور لآخر ثلاث طائرات كانبيرا وهي تحلق فوق هوستن حيث توجد قاعدتها.
وتمثل طائرات الكانبيرا التي تستخدمها ناسا جزءاً من برنامج العلوم المحمولة جوا (إيه إس بي)، كما يقول تشارلز ماليني الذي يدير أسطول الكانبيرا في البرنامج التابع لناسا والذي يضيف: "برنامج إيه إس بي مسؤول عن التزويد بأنظمة طائرات تساعد على تقدم العلوم وتطوير استخدام بيانات الأقمار الصناعية".
قدرة هذه الطائرات على التحليق على علو شاهق يجعلها ملائمة للقيام بمهمات متعددة، الكثير منها لدعم الأقمار الصناعية التابعة لناسا كما يقول ماليني. ويشمل ذلك اختبارات المعايرة للمساعدة على تحسين دقة القياسات من الأقمار الصناعية، واختبار المجسات الجديدة قبل إطلاقها في الفضاء، والحصول على قياسات من ارتفاعات شاهقة يمكن فيما بعد تدقيقها بمقارنتها بقراءات أخذت من أقمار صناعية في مدار الأرض.
وقد أقلت طائرات الكانبيرا تشكيلة من الأدوات والمعدات العلمية، لقياس كيمياء الفضاء الخارجي، وجسيمات الغيوم، والغبار الكوني، ورطوبة التربة، وارتفاع الجليد والبحار وغيرها كثير، كما يقول ماليني.
ويعود الفضل في استمرار استخدام طائرات الكانبيرا إلى تصميمها المثير للإعجاب أخذاً بعين الاعتبار أنها تنتمي لأول جيل من الطائرات النفاثة، التي ظهرت في وقت كان مصممو الطائرات يعانون في تعاملهم مع قضايا متنوعة ذات علاقة بالسفر منها السرعة الفائقة على سبيل المثال. وما يجعل هذه الطائرات استثنائية أكثر هو أنها تقوم بأعمال لم يكن أحد يحلم بها في بداية دخولها الخدمة.
ظهرت شركة "كانبيرا الكهربائية الإنجليزية" للنور عندما طلبت وزارة الطيران عام 1944 صناعة مقاتلة سريعة وحلقت الطائرة للمرة الأولى عام 1950. وقد كان تصميمها رشيقاً وأنيقاً يشبه كثيراً الطائرات الحربية المعاصرة، حيث يجلس الطيار ومساعده جنباً إلى جنب في قمرة القيادة، بينما يمتد موجه القنابل من أنف الطائرة المدبب. ووضعت محركات أفون، التي تصنعها شركة "رولزرويز"، وهو التصميم الذي سيزود لاحقاً المقاتلة البريطانية "البرق" التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وضعت في حجرات رشيقة على جناحيها السميكين. أما طول جناحها فهو قريب من طول جسم الطائرة، وهو تصميم فعال بطريقة غريبة في طائرة صنعت لتكون سريعة ويمكن الاعتماد عليها وسهلة القيادة.
في عام 1957 حطمت الكانبيرا الرقم القياسي في التحليق المرتفع عندما وصلت إلى 70310 قدم (21300 متر)
سريعة وتحلق على ارتفاع كبير
يقول ديفيد كين، من متحف سلاح الجو الملكي في هندون بلندن: "لقد أثبتت الكانبيرا أن تصميمها جيد منذ البداية" ويضيف: "يمكن لهذه الطائرات أن تنطلق بسرعة كطائرة حربية مقاتلة، ويمكنها أن تحلق على ارتفاع لا تبلغه غيرها من الطائرات الحربية". وعلى عكس طائرات الحرب العالمية الثانية، لم تحمل الكانبيرا أي مدافع دفاعية الطابع، فقد افترض فيها أن تكون سريعة في تحليقها لدرجة لا تستطيع معها طائرات العدو اللحاق بها.
ويقول كين: "هذه المواصفات هي السبب في استمرارها في الخدمة لمدة طويلة. وهي صفات تجعلها أيضاً طائرة استطلاع متميزة". ويراعى في تصميم الطائرات الحربية أن تكون سهلة التحليق وأن تكون مستقرة أثناء التحليق لا تتأرجح، وهو ما يكون ضرورياً عند ضرب أهداف بدقة، وهو ما يجعل هذه الطائرة خياراً جيداً لمهمات الاستطلاع.
في وقت سابق، كان بإمكان الكانبيرا حمل عدد من الكاميرات عالية الجودة والتي تمكنها من التقاط الصور على ارتفاعات عالية فوق الدفاعات الجوية للعدو، كما أنها تحمل مجسات يمكنها التنصت على الاتصالات الالكترونية. وبينما يتراجع دورهها كطائرة حربية، فإن هذا الدور هو الذي حافظ على استمرار الكانبيرا في التحليق لمدة أطول من عمرها الافتراضي وجعلها ملائمة للقيام بذلك النوع من الأعمال التي تحتاجها ناسا.
وقد أخرج سلاح الجو الملكي الكانبيرا من الخدمة عام 1972 لكنها استمرت في الخدمة كطائرة استطلاع لعقود ثلاثة تلت. وقد حلقت الكانبيرا في مهمات استطلاع على ارتفاع شاهق في كل من أيرلندا الشمالية والبوسنة وكوسوفو، كما استخدمت في أفغانستان في بداية الألفية الثانية، أي بعد 50 عاماً من دخول أول طائرة كانبيرا الخدمة.
ويقول ديفيد بروس، قائد سرب سابق في سلاح الجو الملكي وعضو في جمعية الطيران الملكية والذي حلق بطائرات الكانبيرا أواخر الستينات حيث كانت قاعدته في جزيرة مالطا بالبحر المتوسط وكان يحلق بطائرات تصوير واستطلاع من طراز كانبيرا: "كملاح أحببت أن أكون قادراً على أن أنظر إلى الخارج وأرى أمامي وتحت الطائرة بينما كنت أتمتع بميزة أخرى وهي أنني مربوط بكرسي القفز بالمظلة".
وأضاف: "أعتقد أن كثيراً من المتعة التي شعرب بها في تحليقي بطائرات الكانبيرا يرجع إلى الدور الاستطلاعي وخاصة خلال المسح التصويري بغرض رسم الخرائط. فخلال الوقت الذي قضيته في الجيش قمنا بمسح استطلاعي فوق غامبيا وسيراليون وكينيا وجزر المالديف وأجزاء من الإمارات العربية المتحدة."
وأردف: "وعندما كانت تسير الأمور على مايرام كنا نقوم بالمهمات بشكل جيد حيث تكون الرؤية واضحة ونحلق على ارتفاعات منخفضة وهي أمور تتطلب مهارات وجهداً من الطيار. كان تنفيذ تلك المهمات يحتاج إلى حذر ومراقبة لصيقة وتركيز كبير، وهو ما يضيف إلى شعورك بالإنجاز على خير وجه."
وقد حلق بروس على ارتفاعات شاهقة في عدة مهمات استطلاع تدريبية فوق الشرق الأوسط حيث "التناقض بين طبيعة الأرض، وساحل الخليج، والجبال من مختلف الأشكال والأحجام والألوان والقرى المنعزلة، كل ذلك كان مكشوفاً وظاهراً بطريقة تشعر بالارتياح في تنفيذ المهمة.
الجندية
طائرات الكانبيرا التي تستخدمها ناسا تقوم بمهمات مشابهة لتلك التي تحدث عنها وقام بها بروس، مع أن الطائرات نفسها تبدو مختلفة في شكلها عن الطائرات الأصلية، وهو دليل على أن تصميم الكانبيرا يحتمل أي تغييرات أو تعديلات. ويزيد طول أجنحة الطائرات التي تستخدمها ناسا والمطلية بالأزرق والأبيض بمرتين تقريباً عن الطائرة الأصلية، وهو ما يساعد على بقاء الطائرة مستقرة في حالتي الارتفاعات الشاهقة والهواء الخفيف.
يقول ماليني: "الذي يجعل هذه الطائرة تصمد أمام تغيرات الزمن هو القدرات الفريدة لسقفها ومدى تحليقها والوزن الذي تقله والطاقم الملاحي".
ويمكن لطائرات إي أر إس تو (التي بنيت على أساس طراز طائرة التجسس يو 2) والتي تستخدمها ناسا ايضاً التحليق على ارتفاعات أعلى، لكن لا يمكنها حمل كمية معدات كالتي تستطيع حملها الكانبيرا.
بينما طائرات ناسا من طراز غلوبال هوكس يمكنها التحليق على مسافة تصل إلى أربعة أضعاف، لكن لا يمكنها أن تقل على متنها سوى ربع الحمولة فقط.
ولأن الكانبيرا جيدة في أداء مهماتها لا يوجد خطط لاستبدالها. ويقول ماليني: "في الحقيقة، نبحث باستمرار عن وسائل لزيادة قدراتها من ناحية القدرة على تحمل أنظمة الاتصال وجمع المعلومات. وقد أكملت الطائرة في الآونة الأخيرة مجموعة من التحديثات والتي اشتملت على نظام جديد للتحليق التلقائي (أوتوبايلوت)، ونظام حديث لمقعد القفز، ونظام جديد لجمع المعلومات، واتصالات بالأقمار الصناعية، ونظام اتصالات متطور ومحدث".
وفي عام 2013 كان هناك طائرتا كانبيرا فقط بحوزة ناسا، إلى أن قامت الوحدة التي يعمل بها ماليني بإعادة واحدة إضافية إلى الخدمة. وخرجت الطائرة المعروفة ب 63-13295 من الخدمة منذ عام 1972، وقضت حوالي 20 عاماً في أريزونا على مشارف تاكسون قبل أن تقرر ناسا أن هناك عمل يستدعي استخدام طائرة ثالثة. وعندما قامت الطائرة المعروفة الآن باسم ناسا 927 بمهمة التحليق التجريبية الأولى في أغسطس / آب 2013، كانت تلك المرة الأولى التي تحلق فيها منذ 41 عاماً.
لكن إبقاء هذا الأسطول من الطائرات في الخدمة ليس أمراُ سهلاً. يقول ماليني: "يعد الحصول على قطع الغيار أحد أهم التحديات، حيث لم يعد كثيرً من قطع غيار هذه الطائرات متوفراً، كما أغلقت الشركة المصنعة لها".
وأضاف: "نعمل على تأمين قطع الغيار من الطائرة التي تم تخزينها في قاعدة ديفيز مونثان الجوية قرب تاكسون في أريزونا، وحتى من متاحف الطيران في أنحاء البلاد. وعندما لا تتوفر قطع الغيار يتعين على فريقنا الهندسي أن يصمم أو ينتج قطعة مشابهة تقوم بنفس وظيفة القطعة التالفة. سدادات خزانات الوقود على سبيل المثال فتحت وأغلقت عدداً كبيراً من المرات لدرجة أصبحت معها لا تغلق بإحكام، مما يجعلها ترتخي أثناء الطيران". المشكلة هي أن الشركة التي صنعت هذه الأغطية أغلقت منذ زمن طويل. وكان على الفريق الهندسي أن يعيد تصميم بدائل لهذه السدادات، وأن يصمم 100 نموذج منها.
في خدمة سلاح الجو الملكي، تقوم طائرات التورنيدو وطائرات الاستطلاع بدون طيار بقسم كبير من المهمات التي كانت تطلع بها طائرات الكانبيرا. وكان إخراجها من الخدمة بمثابة النهاية لإحدى المراحل الذهبية للطيران، مرحلة كانت بمعايير العصر الحاضر تتميز باستخدام تقنية بسيطة إلى حد يصعب تخيله.
يقول كين: "الكانبيرا لها ذيل خشبي، وهذا معناه أنه كان على سلاح الجو الملكي أن يضم لصفوفه نجارين طول الوقت حتى خروج الطيارات من الخدمة".ومن تلك البدايات المتواضعة صنعت أسطورة ناسا.