الحلقه الثانيه
لما كنت حريصاً على التحقق من نظرية ابو اياد رحت اتعقب مسار ابو نضال، واسبر ماضيه، واستجوب كل من قابلته ممّن كانوا على معرفة به، وحاولت ان افهم شخصيته المعقّدة.
ووجدت ان ابو نضال رجل يصعب وصف مظهره على رغم ان مصادر عديدة اشارت الى كونه اصلع، وذا عينين وقّادتين، وأسنان جيدة، وأنه ذو ثقافة بسيطة، وصحة عليلة، ويعاني من قروح في المعدة ومن ذبحة صدرية. وهو يرتدي ملابس بالية غالباً ما تتكوّن من سترة تُغلق بسحّاب وبنطال عتيق.
ان اقامته الطويلة متخفياً تحت الارض لأكثر من عشرين عاماً، ما يشكّل رقماً قياسياً في عالم العمليات السرية، جعلت منه شخصاً يجفل من أي اتصال انساني. فهو خيالي لا يبالي بالحقيقة، ويعيش في عالم من العنف، والتضليل، والخوف. وهو، كسائر المنغمسين في عالم المخابرات الموحل المظلم، مدمن على المعرفة السرية، والقوة السرية. وهو استاذ في عمليات التنكر والاحابيل، لا يثق بأحد، وحيد، يحمي نفسه ويعيش متخفياً عن انظار الناس.
ومع ذلك فحتى أعداؤه يسلّمون بأن لديه قدرات تنظيمية فهو اداري بعيد النظر، ذو تفكير مالي سليم، وهكذا جمع ثروة تصل الى مئات الملايين من الدولارات. ويقول زملاؤه السابقون أنه قادر على العمل الشاق والتفكير الواضح فترات طويلة، وأنه قائد لا شكّ فيه، وعلى رغم انه يوحي بالولاء والتفاني، فانه يحكم منظمته المترامية الاطراف مثل طاغية.
وذات مرة في بداية حياته العملية، كان ابو نضال مشهوراً بوطنيته الناريّة التي لا تلين. اما الآن فشهرته من عمليات الاغتيال. ويقول البعض انه في منتصف الخمسينات من عمره بدأ يتلذّذ بسمعته كخارج عن القانون …
طفولة ابو نضال التعيسة وغير الآمنة قد تفسر حالته، فقد وُلد في ايار مايو 1937 في يافا، الميناء العربي العريق على ساحل البحر الابيض المتوسط في فلسطين وكان ابوه، خليل البنّا، مواطنا صلباً تكمن ثروته في بيّارات البرتقال الممتدة جنوب المدينة في بساتين ومزارع طيبة الرائحة. وفي كل عام، وتحت عينيه اللتين تشبهان عيني النسر كانت محاصيله من الحمضيات تعبأ في صناديق خشبية وتشحن الى اوروبا على خط للسفن من يافا الى ليفربول، افتتح في تسعينات القرن الماضي.
وكان الحاج خليل شخصية ابوية جليلة. فمن زوجته الاولى كان له احد عشر طفلاً سبعة اولاد وأربع بنات يعيشون في بيت شاسع من ثلاثة طوابق مبني من الحجر المنحوت، قريب من ساحل البحر بما يكفي لجعل الاولاد ينزلون لغطسة فيه بعد عودتهم من المدرسة. ولكي يهرب من حرارة الساحل الرطبة في الصيف، اشترى خليل البنّا بيتاً آخر في قرية جبلية بعيداً في شمال سورية، في الريف الأخّاذ الجمال بتلاله فوق ميناء الاسكندرون …
وذات صيف عادت عائلة البنّا الى منزلها في يافا بفتاة سورية شابة جميلة في السادسة عشرة. فافتُتن بها خليل البنّا وتزوّجها في شيخوخته، فغاظ بقية افراد عائلته. وكان ابنه الثاني عشر - الذي سيصبح في المستقبل "ابو نضال" - هو ابن هذه الفتاة وسمّاه صبري.
منذ البداية كان مركز صبري في البيت غير مريح. كان اخوته واخواته غير الاشقاء الاكبر منه يحتقرونه. والأسوأ من ذلك انه بعد وفاة ابيه عام 1945 أُخرجت امه من البيت في نهاية الأمر، ففقدها هي الأخرى. وكان في الثامنة من عمره، فبقي في بيت ابيه، ولم يكن هناك احد يعتني به، وكان معنى هذا الاهمال انه لم يتلق في الواقع اي تعليم. فترك المدرسة بعد الصف الثالث، وهو الى هذا اليوم لا يزال يكتب بيد طفل غير مدرّبة، وهذا ممّا يُحرجه …
وقد تصالح ابو نضال منذ مدة طويلة مع عائلة ابيه، التي يعيش بعض افرادها تحت الحكم الاسرائيلي في الاراضي المحتلة. فلديه اخت غير شقيقة تعيش في نابلس في الضفة الغربية، وهو يرسل لها مالاً بين الحين والآخر بطرق متنوعة. أما اخوه غير الشقيق، محمد البنّا، فهو تاجر فواكه وخضروات حسب تقاليد العائلة، ويقال انه على وفاق مع سلطات الاحتلال الاسرائيلية. ولديه ما لا يقل عن عشرين من بنات اخوته واخواته، موزعات حول العالم العربي، ومنهن عديدات تزوجن اعضاء من منظمته. لكن، من الذي يقدر على تخمين الأثر الذي احدثه على روحه ونفسيته فقدان امه وتعرضه للاذلال والرفض في وقت مبكر؟ ان مسحة القسوة في تكوينه والحاجة الى السيطرة على من حوله تشيران الى ظلامة يحملها ضد العالم قد تكون مرتبطة بالألم الذي عاناه في طفولته. وأولئك الذين يعرفونه جيداً يقولون بأنه يحتقر النساء، بل ويكرههن. ويبدو انه لا مكان لهنّ في منظمته المكونة بأجمعها من الرجال. فزوجات اعضاء المنظمة يبقين في عزلة، جاهلات بأنشطة ازواجهن. بل ليس من المسموح لهنّ ان يصادق بعضهن بعضاً او يتزاورن، كما هي العادة في الفصائل الفلسطينية الاخرى. بل ان زوجته نفسها، وهي امرأة صابرة تألمت طويلاً، ظلت سنوات تعيش حياة محصورة في الهامش، بعيدة عن المجتمع، بلا اصدقاء.
من البعث الى فتح
ومن المحتمل جداً ان تكون شخصية ابو نضال المليئة بالمرارة والانتقام تشكلت من الاهانات التي عانى منها وهو طفل، لكن كذلك من الأثر الذي احدثته عليه الكارثة التي حاقت بأسرته وبالمجتمع الفلسطيني بأسره نتيجة الهجرة اليهودية الكثيفة الى فلسطين والتي تُوجت عام 1948 بقيام اسرائيل …
كانت سنوات مراهقة ابو نضال في نابلس صعبة. فعاش على الصدقة من اخوته غير الأشقاء، الذين كانوا يكافحون من اجل البقاء وتدبير المعيشة. فعمل في اشغال موقتة وغير منتظمة، كنقل الرسائل والسلع للزبائن، ومساعد لكهربائي، كما اوضح لأصدقائه في حياته اللاحقة في ما بعد. وحاول ان يداوم في مدرسة حكومية بضعة اشهر، ولكنه ببساطة لم يستطع تعويض السنوات الطويلة التي فاتته، ولم تكن لديه نقود بل واجه السخرية هناك، مما اضاف الى سخطه. غير انه كان ماهراً وطموحاً. فحاول ان يقرأ بنفسه، وعثر على صحيفة اخبارية شبه سرية تسمى "اليقظة" التي كان الفرع الاردني المحلي لحزب البعث يطبعها بين الحين والآخر في الضفة الغربية. وكان البعث في الاردن فرعاً هو في الواقع اول فرع من نوعه في العالم العربي، للحزب الأم الذي أسسه ميشال عفلق.
ولم يكن البعث في الاردن حصل على ترخيص للعمل بشكل قانوني كحزب سياسي، فكان لا يزال سرياً الى حد ما، يلعب مع السلطات لعبة القط والفأر. ولكنه قاد الهجوم على النظام القديم في تظاهرات عنيفة. كان يطالب بحصة اكبر للفلسطينيين، وبقطع العلاقات التي تكبّل الاردن وتشده الى بريطانيا: القوة التي كان الفلسطينيون يشعرون بأنها خانتهم بتسليم وطنهم للصهاينة.
عام 1955، شنّ البعث حملة لابقاء الاردن خارج حلف بغداد الذي أوحت به بريطانيا، وفي عام 1956، اثناء حرب السويس، دعا الملك حسين للوقوف الى جانب جمال عبدالناصر. فكان هذا البعث هو الحزب الذي انضم اليه ابو نضال عندما كان في الثامنة عشرة. كان ذلك اول طعم ذاقه للسياسة المتطرفة المتشددة.
على ان هذه التجربة السياسية كانت قصيرة الأمد. ففي نيسان ابريل 1957 حاول بعض الضباط القوميين الاستيلاء على السلطة في عمان، فواجههم الملك حسين وقوات البادية المخلصة له. فوُضع الانقلابيون في السجون وارسلوا الى المنفى. وتأييداً لهم دعا البعث وغيره من الاحزاب الى مؤتمر في نابلس للمطالبة باعادة الضباط، وطرد مستشاري الملك وعكس مسار تحالفات الاردن بعيداً عن بريطانيا والولايات المتحدة وباتجاه مصر. وبالتهييج والاثارة والتظاهر ومواجهة نيران الشرطة عاش ابو نضال كل لحظة من تلك الاحداث الدرامية العاصفة. لكن الحلم سرعان ما تلاشى، وكانت الصحوة قاسية: فقد استعاد الملك حسين السيطرة، وتحطّم البعث باعتقالات جماعية وأُغلقت مكاتبه وعُطلت صحيفته. اما كبار رجالاته، بمن فيهم قائد الحزب عبدالله الريماوي، فقد هربوا الى سورية، بينما اختار الآخرون مثل ابو نضال التواري عن الانظار …
وترك ابو نضال حزب البعث، بعد ان عمل فترة في الخليج، ثم انضم الى حركة فتح. ولم ينضم ابو نضال الى فتح كجندي متواضع. فبما انه كان في السابق يدير "مجموعته" الخاصة، فقد ضمن له ذلك مكانة اعلى بدرجة او درجتين في سلم التنظيم. وبدا انه انطلق في حياته انطلاقة جيدة من نواح كثيرة. كان ملتزماً بشكل عاطفي عنيف بقضية المقاومة - ولكنه كان ايضاً مليئاً بالحيوية، وصحبته ممتعة. وفي احدى زياراته الى نابلس التقى فتاة وتزوجها، وهي هيام البيطار، من عائلة من يافا ومنفية كعائلته. وكانت افضل منه تعليماً، فقد دخلت المدارس وتعلمت الفرنسية. لكنها - حسب ذوقه - كانت مطيعة وسهلة الانسجام.
صداقة ابو اياد
وقعت حرب 1967، فغادر ابو نضال الخليج الى الاردن للالتحاق بصفوف حركة فتح هناك. لكنه عندما وصل الى الاردن لم يتجه - كما فعل كثيرون غيره - الى واحد من المعسكرات التي كانت فتح تقيمها على نهر الاردن، على مرمى رصاصة من العدو، بل هيأ لعائلته منزلاً محترماً في عمان. وخلال زمن قصير جداً، كان انشأ شركة تجارية تدعى "إمبكس". وسرعان ما اصبح مكتب "امبكس" في عمان نوعاً من "الواجهة" لفتح - مكاناً يستطيع فيه الناس ان يجتمعوا عند مجيئهم الى المدينة، ويستطيع ان يتسلم ويدفع اموالاً للفدائيين وعوائلهم. وكان ابو نضال يملك حساً تنظيمياً واضحاً ويستطيع عند الحاجة ان يعمل بلا كلل على مدار الساعة. وعلى رغم كل كلامه عن العنف الثوري كان انذاك منظّماً ومنهجياً، أي بيروقراطياً للكفاح المسلح وليس مقاتلاً. وهذه صفات لاحظها فيه ياسر عرفات وغيره من قادة فتح.
وفي تلك الفترة قام ابو نضال باتصال قُدّر له ان يترك على حياته أثراً واسعاً. فقد اصطفاه وصادقه ابو اياد، مسؤول المخابرات الأعلى في فتح. وفي حديثه معي في تونس صيف عام 1990 كان ابو اياد كعادته أبداً في الطلاقة والسخرية، يستذكر انه سمع باسم صبري البنّا بعد وقت قصير من حرب حزيران يونيو 1967. قال لي ابو اياد: "لقد زكوه لي كرجل مليء بالطاقة والحماس، لكنه بدا خجولاً عندما التقينا. غير انني عندما ازدادت معرفتي به، لمحت فيه مزايا اخرى. كان رفيقاً جيّد الصحبة، بلسان حاد سليط، واتجاه الى نبذ معظم بني البشر باعتبارهم جواسيس وخونة، وقد اعجبني ذلك. واكتشفت انه كان طموحاً جداً، ربما اكثر مما تسمح به له قدراته، وكذلك سريع الاهتياج، الى حد انه كان ينفعل احياناً الى درجة تفقده كل قدرة على المحاكمة العقلية المنطقية".
وراح ابو اياد يستمتع باستعداد ذلك الشاب لنقد كل شيء وكل شخص، ولم يكن ليستثني ياسر عرفات نفسه. ووجد ابو اياد ان صراحته تلك كانت منعشة. فقد كان يجرؤ على الكلام، وعلى ابداء وجهات النظر، وكان ابو اياد وقادة آخرون في فتح يتعاطفون مع تلك الصفات. كان صبرى البنّا يتصرف كما لو كان على قدم المساواة مع عرفات، وذلك لمجرد انه كان، قبل ان ينضم الى فتح، زعيماً لفصيل فلسطيني ضئيل. وبعد ان تبنّى صبرى اسماً حركياً هو "ابو نضال" راح يتردّد بسيارته في احيان كثيرة على وادي الاردن، نازلاً لزيارة ابو اياد في الكرامة، وهي قرية قريبة من النهر اقامت فيها فتح قاعدة عسكرية راحت تحاول منها تسريب الرجال الى الضفة الغربية المحتلة. كانت الكرامة مكاناً قذراً، وقد ذُعر ابو نضال من تعاسة الظروف البائسة التي كان يعيش فيها ياسر عرفات وأبو اياد. فلماذا يجب ان تكون خرائب هكذا؟ وعلى العكس، كان ابو اياد كلما ردّ الزيارة لأبو نضال في عمان ينزل في بيته النظيف المريح، فيتناول وجبة مشبعة، ويستحمّ، وينام جيداً، ويلعب مع طفلي مضيفه الصغيرين نضال وبادية.
في اواخر 1968، ومطلع 1969 اقنع ابو نضال ابو اياد بأن مواهبه يمكن استخدامها على افضل وجه في الديبلوماسية، وليس في الحروب الفدائية، وبذلك ضمن لنفسه منصباً في الخرطوم كممثّل لفتح في السودان. وبمجرد وصوله الى هناك عمل بجد ومشقة فأقام اتصالات بجميع الاطراف السياسية في السودان على اختلاف نزعاتها. وسرعان ما اصبح على علاقة طيبة بنظام جعفر النميري الجديد. كان النميري عقيداً في الخامسة والثلاثين وقد استولى على السلطة في الخرطوم صيف عام 1969. وكانت تلك اول وظيفة حقيقية يعمل فيها ابو نضال للقضية الفلسطينية …
المواجهة مع الاردن
لقد وقعت حادثتان عام 1968 كانت لهما اهمية كبرى على مستقبل العمل الفلسطيني في الاردن. الاولى في آذار مارس عندما عبرت نهر الاردن قوة اسرائيلية من 15 الف رجل، بدعم من الدروع والطيران، وهاجمت قاعدة فتح في الكرامة بقوة ساحقة. فأُزيلت القاعدة نفسها ومُسح جزء كبير من القرية، بخسائر فادحة. غير ان الفدائيين قاتلوا ببسالة، وبمساعدة الجيش الاردني استطاعوا ان يوقعوا خسائر كبيرة في صفوف الاسرائيليين. وفي وقت كانت المعنويات العربية في الحضيض في اعقاب 1967، فان حقيقة ان العرب صمدوا وقاتلوا مُجّدت كانتصار كبير. وزحف نصف سكان عمان ليحتضنوا من بقي على قيد الحياة من الفدائيين. وهرع الالاف لينضموا اليهم. وبالصعود الى قمة موجة من العاطفة الشعبية راح الفدائيون يتبجحون في انحاء عمان والمدن الاخرى بعجرفة دون اي اعتبار للسلطات المحلية. ولم يكن غريباً ان يرى الملك حسين في خيلائهم غير المنضبطة تهديداً له. فبدأ يفكر في احتوائهم.
وأما الحادثة الحاسمة الثانية فكانت اختطاف طائرة الركاب الاسرائيلية "العال" اثناء رحلتها المقررة من روما الى تل ابيب، وتحويلها الى الجزائر. وقد أُطلق سراح النساء، والاطفال، وغير الاسرائيليين الذين كانوا على متنها. ولكن ما غاظ اسرائيل هو ان الاسرائيليين الاثني عشر الباقين من بين الركاب ظلوا محتجزين 39 يوماً. ولم يفرج عنهم الا بعد ان بودل بهم 15 فلسطينياً كانوا معتقلين في السجون الاسرائيلية.
كانت هذه اول عملية فدائية من نوعها، فصارت نموذجاً بدائياً لعمليات كثيرة لاحقة. وكان الدماغ المخطط لها هو وديع حداد، الثوري الفلسطيني من صفد، والذي كان تخرّج كطبيب من الجامعة الاميركية ببيروت. وقد استبد به الغضب للعنف الذي تعرض له شعبه، فأقسم على استخدام العنف بالمقابل. ومع ثلاثة من اصدقائه وزملائه في الجامعة الاميركية ببيروت - وهم السوري هاني الهندي، والفلسطيني جورج حبش، والكويتي احمد الخطيب، والاثنان الاخيران طبيبان مثله - شكّل حداد حزباً سياسياً هو "حركة القوميين العرب". له فروع في دول عربية عديدة وكان شعارهم: "دم، حديد، نار - وحدة، تحرر، ثأر".
وبعد وقت قصير من بدء فتح "الكفاح المسلح" جمع حبش وحداد الاعضاء الفلسطينيين في "حركة القوميين العرب" في منظمة منفصلة صارت "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ولجأت الجبهة الشعبية الى الاعمال الفدائية الدرامية المثيرة والمذهلة، مثل خطف طائرة "العال"، مما اكسبها نفوذاً …
وفي هذه الاثناء، راح الفدائيون - وقد شعروا بالثقة بأنفسهم اكثر من اللازم - يدعون الى التمرد على الملك حسين وينادون باسقاطه علانية … وجاءت الازمة الطاحنة في ايلول سبتمبر 1970، عندما أرغمت الجبهة الشعبية، في حفلة خطف، ما لا يقلّ عن ثلاث طائرات على النزول فوق مهبط غير مستعمل في الاردن. فصمّم الملك حسين على القتال بعد ان استشاط غضباً، وأطلق نيران دباباته على الفلسطينيين، وطائراته الحربية على قوة سورية مدرّعة عبرت الى الاردن لدعمهم ولكن من دون حماس. فقتل مئات عدة من الفدائيين، واعتقل ثلاثة آلاف آخرون، واصيب حوالي عشرة آلاف فلسطيني بجروح. ويكفي القول ان الفدائيين خسروا - بجرة قلم - ملاذهم الحيوي في الاردن الذي كانوا يحلمون بالانطلاق منه لدفع اسرائيل بعيداً عن نهر الاردن، وبذلك يحررون فلسطين شبراً شبراً. وهكذا اضطروا الى التخلي عن الحلم وعن الاستراتيجية، بينما انغمست الحركة الفدائية في اعظم حزن وخيبة أمل …
ابو نضال في بغداد
وفي تلك الفترة، ايضا، وقبل صدامات ايلول سبتمبر 1970، وقعت خلافات عدة بين فتح وتنظيمات فلسطينية اخرى، بعضها مرتبط بسورية والبعض الآخر بالعراق. ولم يكن ابو نضال راضياً عن فوضى هذه الخلافات الفلسطينية فقد توقع في بداية 1970 حدوث المواجهة بين الفلسطينيين والملك حسين، ولذلك بدأ يلح على على ابو اياد لارساله كممثل لفتح في بغداد. وحدث ان كانت فتح بحاجة ماسة الى شخص في تلك اللحظة بالذات لتوضيح قضيتها للحكومة العراقية التي كان لها 14 الف رجل مرابط في الاردن، كجزء من "الجبهة الشرقية" التي لم تعش طويلاً، والتي كانت تضم مصر وسورية ذات يوم. كان زعماء فتح قلقين لمعرفة ما اذا كان يمكنهم الاعتماد على تلك القوات العراقية كي تقف معهم في حال وقوع مجابهة مع الملك حسين. ولجسّ نبض العراق كان عرفات وابو اياد اجتمعا سراًً في تموز يوليو 1970 مع اثنين من قادة النظام العراقي، هما عبدالخالق السامرائي عضو مجلس قيادة الثورة، والفريق صالح مهدي عماش وزير الداخلية، في معسكر عراقي قرب مدينة الزرقا الاردنية. كانا تلقيا تأكيدات بأن القوات العراقية ستقاتل معهم. لكن فتح كانت بحاجة الى شخص في بغداد يستطيع ان يطالب العراقيين بالوفاء بتعهدهم، شخص قدير وقوي بحيث يتصل بالرئيس احمد حسن البكر شخصياً، وبوزير دفاعه الفريق حردان التكريتي. وبدا ابو نضال الرجل المناسب لهذه المهمة.
وفي اواخر تموز يوليو 1970 تسلم ابو نضال منصبه الجديد في بغداد، تاركاً فوضى الاردن وراءه. ولكن ابو نضال فشل في مهمته. فعندما راحت دبابات الملك حسين تدكّ مواقع الفدائيين لم يحرّك العراقيون ساكناً. واستعرت المعارك بين الجيش الاردني والفدائيين عشرة ايام ولكن صيحات فتح اليائسة في طلب النجدة ذهبت ادراج الرياح فلم يسمعها احد في بغداد. وافلت عرفات من الاسر بصعوبة. اما ابو اياد، وزعيم بارز آخر من قادة فتح هو ابو اللطف فاروق القدومي فقد اعتقلهما الاردنيون. ولتحطيم معنوياتهما، جعلوهما يستمعان الى تسجيل لمكالمة هاتفية بين الملك حسين والفريق حردان التكريتي اكد فيها القائد العراقي ان القوات العراقية لن تتدخل، "وذلك بموجب اتفاقهما السابق". لقد خان العراقيون الفدائيين وتخلوا عنهم.
وكان زعماء فتح على موعد قريب مع صدمة اخرى. فبعد احداث ايلول سبتمبر مباشرة بدأ ابو نضال يهاجمهم من "صوت فلسطين" محطتهم التي تذيع من بغداد، وراح يتهمهم بالجبن في المعركة ويدينهم لأنهم وافقوا على وقف اطلاق النار مع الملك حسين. ولم يكن الرجل الذي اختصه ابو نضال بتهجمه بشكل خاص غير ابو اياد صديقه القديم، ومعلمه الذي اعطاه منصبه في بغداد.
واخبرني ابو اياد في تونس انه، وهو يسترجع كل ذلك، توصل الى الاعتقاد بأن ثمة شيئاً مهماً حدث لأبو نضال عام 1969 او1970 وجعله يأخذ هذا المنحى الجديد المشكوك بأمره. وراح يتساءل اذا كان تم تجنيد ابو نضال في الخرطوم من قبل المخابرات العراقية ام مخابرات اخرى.
عام 1971، عندما استمر ابو نضال في هجماته الاذاعية، قررر عرفات وزميله ابو جهاد خليل الوزير طرده من فتح. ولكن ابو اياد نصح بالتريث والحذر. فعلى رغم انه كان الهدف الرئيسي لنقد ابو نضال الجارح، الا انه شعر بأن من الخطأ ان يخسروا رجلاً قديراً للعراقيين، قبل ان يحصلوا على توضيح لتغييره موقفه بهذا الشكل. وبالاضافة الى ذلك فمن المحتمل ان يفسر العراقيون هذا الطرد بأنه انتقاد لهم. وبعد الصدام المرير مع الاردن كان ابو اياد يرى ان تتجنب فتح الصدام مع العراق كذلك.
لقاء عاصف مع البكر
عام 1972 دعا العراق حركة فتح الى ارسال وفد الى بغداد لمناقشة علاقاتهما. فتكوّن وفد فتح من ابو اياد وابو مازن وابو اللطف. وكان على رأس جدول اعمال المحادثات تخلي العراق عن مساعدة الفلسطينيين في الاردن في ساعة محنتهم. وروى لي ابو اياد في تونس عام 1990 ان ابو نضال كان في استقبالهم في المطار، لكن ابو اياد رفض ان يصافحه.
وسرعان ما انغمس اعضاء الوفد في مناقشات عميقة مع قادة العراق، وخصوصاً مع عبدالخالق السامرائي الذي كان وعدهم بتدخل القوات العراقية الى جانبهم، والذي كان مفهوماً ان يشعر بالحرج لأن الوعد لم ينجز.
وروى لي ابو اياد ما حدث: "اخذنا السامرائي لزيارة الرئيس البكر. وفي الطريق حاول ان يمهد لنا بتحضيرنا لما نتوقع فقال لنا محذراً: لن تتمكنوا من البقاء طويلاً. فالرئيس متعب. ولا تكلفوا انفسكم عناء احتضانه عند تحيتكم له. وكان اول ما صدمني عندما دخلنا مكتب البكر انه لم ينهض عن مقعده. وشعرت بأن السامرائي قد تزايد حرجه".
وكان الاجتماع بارداً للغاية وعندما اقترب من نهايته قال ابو اياد: "سيدي الرئيس. يبدو انك مشغول. فنرجوك ان تسمح لنا ان نستأذن بالمغادرة. لكن قبل ان نذهب اسمح لي ان اقول اننا صدمنا لقراركم بعدم دعمنا في الاردن، ولا شك ان ذلك القرار قد اتخذ من دون علمكم". فصرخ البكر بحدة: "لقد كان قراري! فقد اشرفت شخصياً على انسحاب القوات العراقية" عند ذلك شعر ابو اياد بأنه مضطر لسؤال الرئيس عن اسبابه فرد البكر: "انتم في المقاومة الفلسطينية لكم تسع ارواح كالقطط. فاذا قتلوكم فستنهضون ثانية. اما نحن فنظام! لقد كانت هناك مؤامرة عام 1970 لجرنا الى المعركة بهدف تدميرنا. ولو دمرونا لانتهينا"!
وقال لي ابو اياد: "كان هذا كل شيء. لم يستغرق الاجتماع اكثر من عشر دقائق. وما ان اصبحنا خارج الغرفة حتى أخذت ابو نضال فانتحيت به جانباً، فلعنته وشتمته، وصرخت به: أهذا هو النظام الذي تدافع عنه؟ وفي ذلك المساء ذهبت الى بيته، وكاشفته بالموضوع كاملاً أمام زوجته. قلت له انه ربط نفسه الى عجلة العراقيين. وكنت سمعت بأن له علاقة خاصة مع سعدون شاكر الذي كان مدير المخابرات العراقية آنذاك. وانفجر أبو نضال غاضباً لهذا الاتهام فقال لي محتجاً: "انا لست عميلاً لأحد". ولكن شكوكي ظلت مُلحّة. والواقع انني بدأت اعتقد انه كان اتصل بالمخابرات العراقية عندما كان في السودان، وأن تشوقه المتلهف لنقله الى بغداد لم يكن من بنات افكاره وحده".
ظل أبو اياد، حتى بعد هذه الزيارة ينصح زملاءه في فتح ان من الافضل لهم ان يحاولوا احتواء ابو نضال بدلاً من طرده، وألا يغامروا بدفعه الى احضان العراقيين اكثر. وكان أبو اياد لا يزال مولعاً به. ولكن - كما اخبرني - كان قلقاً مما كان يحدث له. كان فيه شيء يخيف. غير انه لم يُطلع زملاءه على مخاوفه هذه ….
"ايلول الاسود"
كانت حرب الارهاب والارهاب المضاد بين اسرائيل والفلسطينيين عامي 1972 و1973 ظاهرة جديدة، تختلف في جوانب عديدة عن العنف الذي سبقها والعنف الذي كان سيتلوها. فقبل عام 1972 لم تكن الهجمات على اهداف اسرائيلية واجنبية من عمل حركة فتح بل من عمل مجموعات متشددة كجبهة جورج حبش. فهكذا مثلاً تم هجوم الجبهة الشعبية في 26 كانون الاول ديسمبر 1968 على طائرة العال في مطار أثينا حيث قُتل اسرائيلي فردت اسرائيل بعد يومين بغارة كوماندوس على مطار بيروت، ودمرت 13 طائرة مدنية لبنانية، اي اسطول لبنان الجوي كله تقريبا. وهكذا كان ايضا خطف الجبهة الشعبية في 30 آب اغسطس 1969 لطائرة بوينغ تابعة لشركة "تي.دبليو.آي" في رحلة من روما الى تل ابيب وتحويلها الى دمشق. وقد تم بصورة هادئة تبادل راكبين اسرائيليين على متنها مع طيارين سوريين اسيرين. غير ان رد اسرائيل أخذ الشكل المعروف من غارات جوية، وقصف مدفعي، وهجمات ارضية على اهداف عربية وفلسطينية واصبحت الضربات الانتقامية أشد عنفاً عندما تولت غولدا مائير رئاسة الوزراء في آذار مارس 1969، مفتتحةً سياسة "الدفاع الفعال عن النفس" التي كان معناها البحث عن الفلسطينيين وتدميرهم قبل ان يهاجموا. وفي تموز يوليو 1970 اطلق عملاء الموساد صواريخ على شقة وديع حداد في بيروت لكنهم فشلوا في اصابته.
خلال عامي 1972 - 1973 حدث تغير مهم في النمط، عندما انضم متشددون من فتح، تحت راية "ايلول الاسود"، الى وديع حداد في الجبهة الشعبية ومعهم آخرون في حملة ارهابية واسعة النطاق. وكانت هناك اتجاهات ثلاثة يمكن تمييزها وتبينّها: كان بعض هؤلاء المتشددين يريدون قتل اسرائيليين، وكان آخرون يريدون ان يمارسوا ضغطا على الملك حسين لاطلاق سراح 3 آلاف سجين فلسطيني والسماح للفدائيين بالعودة الى الاردن، وفريق ثالث كان يريد مهاجمة اهداف اميركية، ولا سيما الخطوط الجوية وشركات النفط، "لمعاقبة" الولايات لمتحدة على دعمها لاسرائيل. وقد تركت "ايلول الاسود" تأثيراً كبيراً على ابو نضال. فقد أُعجب بعملياتها، لكنه لم يشترك فيها. والواقع ان شبابها تجاهلوه، فلم يكونوا يريدونه ان يشترك في عملياتهم، على رغم ان العديد من هذه العمليات جرى التخطيط لها في بغداد وانطلق منها، حيث كان ابو نضال يقيم. وكنوع من التحدي، ألقى ابو نضال بنفسه في خضم "العنف الثوري" ليثبت لأولئك الفلسطينيين الذين كانوا منهمكين فيه انه اقوى واكثر فاعلية. فالعمل السري، وتحديد نقاط ضعف العدو، ومن ثم ضربه بقوة كانت كلها متناغمة مع طبعه وتتفق مع الفلسفة التي كان عاكفاً على تطويرها آنذاك.
غير انه بحلول 1973، وبعد الاغتيالات والاغتيالات المضادة في "حرب الاشباح" هذه، كانت فتح واسرائيل مستعدتين لعقد هدنة غير رسمية. لقد تلقت فتح ما فيه الكفاية اذ خسرت بعض افضل رجالها. كما كانت في وضع افضل لاستعادة السيطرة على المقاتلين الفلسطينيين غير المنضبطين الذين كانوا ما يزالون متعطشين للعمل والانتقام. فمن جهة التفّ الرأي العام الاسلامي في لبنان حول المقاومة بكثافة بعد غارة اسرائيل على وسط بيروت. وهكذا شعرت المقاومة بأنها آمنة اكثر في لبنان. ومن جهة اخرى، فتحت حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 آفاق تسوية سلمية، فاقتلعت ابرة اللسع من شعور الفلسطينيين بالخيبة والاحباط، وجعلت الارهاب يبدو غير ذي موضوع الى حد كبير.
يقال غالبا ان "ايلول الاسود" كانت ذراعاً سرية لفتح. بيد ان الحقيقة اكثر تعقيداً. فقد وافق بعض قادة فتح على اغتيال رئيس وزراء الاردن وصفي التل، وهو الحادث الذي دشّن اطلاق تلك الحركة العنيفة كلها. غير ان فتح لم توافق رسمياً على "ايلول الاسود" على الاطلاق، ولم تكن هذه حركة مركبة وتحت إمرة عرفات بل كانت اقرب الى طبيعة التمرد داخل فتح، كنوع من الاحتجاج يعبر عنه مقاتلون ساخطون على ما اعتبروه اخطاء وسلبية وسكونا من قبل قادتهم … وداخل فتح دافع ابو اياد عن اعضاء "ايلول الاسود" …
شو ان لاي يؤنب ابو نضال
في آذار مارس 1972 توجه ابو نضال على رأس وفد ضم صديقه ابو داوود في رحلة استغرقت عشرة ايام الى الصين وكوريا الشمالية من 28 آذار مارس الى 8 نيسان ابريل 1972. طاروا من الكويت الى شنغهاي، حيث اخذتهم طائرة خاصة الى بكين. غير انهم عندما اقتربوا من العاصمة اصطدموا بعاصفة، فلم يتمكنوا من الهبوط، وبدأوا يطوفون حول المدينة فراح ابو نضال يعبّر عن قلقه، ولتهدئته حاول ابو داوود ان يشاغله بلعبة شطرنج. ولكن - كما قال لي ابو داوود فيما بعد - ظل ابو نضال في حالة هيجان متفجر الى ان هبطت الطائرة في خاتمة المطاف.
كانت الصين منقطعة عن العالم، ومستمرة في معاناة مخاض "ثورتها الثقافية" المؤلم، فاستقبلت اعضاء الوفد الفلسطيني وكأنهم قادة الثورة الفلسطينية كلها. فرضي ابو نضال كلّ الرضا وظلّ على علاقة ممتازة بالصين طيلة العقد الذي تلا تلك الزيارة. ومما لا شك فيه ان خلافه مع السوفيات كان له دخل في دفء الاستقبال الذي خصه به الصينيون. فخلال اتصالاته بالديبلوماسيين السوفيات في بغداد نشأت لديه كراهية غريزية قوية للسوفيات، اما هم فقد وجدوه متهوراً اكثر من اللازم. وكان سبب الخلاف الرئيسي حدود الوطن الفلسطيني في المستقبل: كان السوفيات يؤيدون حدود عام 1967، بينما كان ابو نضال يحلم بحدود 1948، وينادي بـپ"بتدمير اسرائيل واستعادة فلسطين بكاملها".
وكما اخبرني ابو داوود، فقد جعل ابو نضال من عادته في المناقشات مع الصينيين ان يتملقهم في البدء، بهجوم لاذع عنيف ضد الروس، ما جعل رئيس الوزراء شو ان لاي يرد عليه في آخر الأمر: "انا لا اعتقد انكم قادرون على البقاء من دون مساعدة سوفياتية"، واستمر يؤنبه بتعقل قائلاً: "انهم قوة مهمة على المسرح الدولي. وعليكم ان تتعاملوا معهم. لكن حاولوا ان لا تصبحوا جزءاً من استراتيجيتهم الاقليمية".
ووقف الوفد الفلسطيني لالتقاط الصور التذكارية مع ماوتسي تونغ وشوإن لاي قبل الطيران الى كوريا الشمالية لاجراء محادثات والتقاط مزيد من الصور هناك مع كيم إيل سونغ. ولم يعد ابو نضال الى أي من هذين البلدين ولم يتلق فيهما تدريبات، كما يزعم بعضهم احيانا. ومع ذلك فقد زودته الرحلة بشعارات يتفوه بها، ورفعت من شعوره بالاهمية عند نفسه.
وكممثل لفتح في العراق، كان ابو نضال رسمياً يعادل ممثلي فتح الآخرين في كل من سورية، ولبنان، ومصر، وليبيا التي هي المراكز العربية الاساسية لنشاطها. ولكن بعد طرد الفدائيين من الاردن، صار المنصب العراقي اهم من المناصب الاخرى الى حد ما. ففي بغداد، تمكن ابو نضال من استحصال وثائق سفر عراقية لالوف من المقاتلين المنفيين وعوائلهم. وكانت الاسلحة تخزن هناك، وتتدفق التبرعات من المواطنين العراقيين العاديين. وكان التشدد السياسي والتطرف في الجو في ظل النظام البعثي الذي يتزعمه الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين. وكان من المحتم ان تصيب ممثل فتح الرئيسي في بغداد مسحة من نفوذ العراق الكبير في القضايا العربية.
ولكن، مع ضياع الاردن، من اين كان الفدائيون سيقاتلون؟ وأنّى يتسنى لهم الاشتباك مع العدو الاسرائيلي؟ ان الشيء المشترك الذي كان يجمع بين كثير من المقاتلين هو شعورهم بأنهم خرجوا من الاردن ظلماً، وان الملك حسين يجب ان يعيدهم الى هناك. وبين 1971 و1973 رفع الفلسطينيون اغصان زيتون كثيرة للملك حسين، وحاولوا ان يجعلوا وسطاء عرباً يشفعون لهم طالبين السماح لهم بمقاتلة اسرائيل بتنسيق كامل مع الملك اذا رغب في ذلك. ولكن الملك لم يكن يميل الى الثقة بالرجال الذين اقتربوا جداً من الاطاحة به، والذين قتلوا رئيس وزرائه وصفي التل، ولذلك رفض عروضهم رفضاً حاسماً.
خطة ابو داوود في الاردن
وهكذا كانت خلفية خطة ابو داوود الطموحة في شباط فبراير 1973 لقيادة فريق ضارب من 16 رجلاً داخل الاردن. وفي تفسيرات لاحقة، قيل ان الهدف كان مبنى السفارة الاميركية. غير ان الهدف في حينه كان توجيه ضربة للملك حسين نفسه، او على الاقل محاولة الضغط عليه ليطلق مئات الفلسطينيين. وتستحق عملية ابو داوود ان تروى بشيء من التفصيل لتأثيرها على مجرى حياة ابو نضال.
في المانيا الشرقية، تعلّم ابو داوود خدعة تفكيك سيارة وإخفاء اسلحة في تجاويف هيكلها. فشحن سيارات عدة بهذه الطريقة وساقها اعضاء فريقه الى داخل الاردن. ثم اطلق ابو داوود لحيته، وانتحل شخصية عربية في اجازة وعبر الحدود ومعه "زوجته" والواقع انها كانت زوجة واحد من فريقه، وتطوعت لهذه المهمة. ولدى وصوله الى عمان اتصل فوراً بعضو سري في فتح متروك في حالة "سبات" لوقت الحاجة، واسمه مصطفى جبر. ولكن من سوء حظ ابو داوود ان المخابرات الاردنية كانت "قلبت" جبر هذا للعمل لصالحها.
وقال لي ابو داوود بعد في تونس: "من اول لحظة رأيته فيها عرفت من النظرة التي في عينيه انه سيخونني. فأمسكت به من ياقته وهمست: اسمع يا مصطفى: اذا فكرت بافشاء امري فسأقتلك".
واذ احس ابو داوود بالخطر، قرر ان يضرب ضربته في غضون 24 ساعة. لكن لا بد ان مصطفى لم يضع اي وقت في تنبيه الاردنيين، لأن ابو داوود اعتقل وهو عائد من منزله.
وطوال اربعة ايام ظل ابو داوود خاضعاً للاستجواب، ولكنه لم يبح بشيء. وبطريق الصدفة اعتقل الاردنيون في اليوم الرابع شاباً في سيارة فارغة اشتبهوا في انه يهرب الماريجوانا. وكان عضواً في فريق ابو داوود وسيارته محملة بأسلحة مخبأة. وخطرت للأردنيين فكرة عرض ابو داوود على هذا الشاب ليروا ما اذا كان سيتعرف عليه.
وسألوا الشاب: "أتعرف من هذا؟"، فأجاب: "هذا ابو داوود لقد جئت الى هنا معه!".
وسحبوا ابو داوود الى غرفة الاستنطاق من جديد، وهم مصممون على ارغامه على الكلام. واعادوا ضربه ثانية لساعات يومياً طوال شهر كامل. وفي تلك الاثناء، ومن اعترافات الشاب تمكن الاردنيون من لملمة كل اعضاء الفريق الذين كانوا ينتظرون اشارة التحرك وهم في فنادق مختلفة. فصفوهم صفاً واحداً ورفعوا امامهم ابو داوود. كان وجهه متورماً، وساقاه وذراعاه مليئة بالكدمات والرضوض ولا حراك فيها. وكان رجل واحد فقط يعرف مكان اخفاء الاسلحة في السيارات. وقد انهار بعد اسبوعين من التعذيب. وفي تلك اللحظة انتهت اللعبة كلها وحكم على ابو داوود وفريقه جميعاً بالاعدام. وقد أُلبس ملابس الاعدام الحمراء مرتين، واخذ لينفذ به الحكم، وفي كل مرة يؤجل في الدقيقة الاخيرة.
ولم يبح ابو داوود بكلمة واحدة عن خيانة مصطفى جبر له بل على العكس، تظاهر انذاك انه لا يعرفه على الاطلاق. وفيما بعد، ومن اجل اصطياد مصطفى، ارسل له ابو اياد، اشارة من مصر زعم له فيها انه يريد القيام بعملية كبرى في الاردن بالفعل لتأمين الافراج عن ابو داوود. ولم يستطع الاردنيون ان يقاوموا اغراء محاولة اكتشاف ما الذي يفكر فيه ابو اياد وهكذا ارسلوا مصطفى جبر ليقابله في القاهرة. فاعتقل مصطفى هذا وتم تهريبه الى ليبيا حيث القي في السجن. وافرجت عنه فتح بعد ثلاثة اعوام، استجابة لتوسل والده العجوز. ولدى عودته الى الاردن عين مديراً للشؤون الثقافية بوزارة الاعلام.
وقال لي ابو داوود: "لقد اطلق سراحي بعد مدة ليست طويلة، نتيجة وساطات عدة. فقد وافق الكويتيون على دفع 12 مليون دولار للابقاء على حياتي. وارسل الثلاثي الحاكم، بريجينيف وكوسيغين وبودغورني برقية الى المسؤولين في الاردن. وفي عام 1973 عرف الملك حسين ان حرباً في الشرق الاوسط ستقع في غضون اسابيع ولم يكن يريد ان يظل الفلسطينيون معتقلين لديه اثناء الحرب. "وفي 18 ايلول سبتمبر 1973، قبل ايام قليلة من اندلاع حرب اكتوبر، أُطلق سراحنا جميعاً بعفو عام. وجاء الملك بنفسه الى زنزانتي وقال لي انني حرّ".