بعد فشل محاولات الإصلاح السياسي المتعددة ورفض تشكيلتين حكوميتين، اعتصم نحو 150 نائبا عراقيا داخل البرلمان، وأقالوا رئيس البرلمان، وانتخبوا رئيسا آخر.
فقد عقد النواب المعتصمون في البرلمان العراقي، أمس (14 04 2016)، جلسة أعلنوا فيها إقالة رئيس البرلمان سليم الجبوري ونائبيه. وانتخب المعتصمون عدنان الجنابي (النائب الأكبر سناً) رئيسا مؤقتا للبرلمان.
ومع احتدام الأزمة السياسية، يبدو أن التوجه الحالي للنواب المعتصمين يتمثل بتشكيل حكومة إنقاذ وطني برئاسة نوري المالكي، أو شخصية مقربة منه وعزل الرئاسات الثلاث.
وفيما رفض الجبوري إقالته، مؤكدا ألا أثر قانونيا لها، وأن المجلس سيستمر غير متأثر بما جرى، وصف المالكي في موقعه على "تويتر" ما جرى بأنه كان حراكا سياسيا ناضجا، وأنه "لم يعد بالإمكان الاستمرار في الأخطاء التي عانتها العملية السياسية".
وربما حملت الساعات أو الأيام المقبلة تحولاً سياسياً قد يقلب الأمور، وينهي التحالفات السياسية المعتادة، لا سيما مع الكرد و"تحالف القوى الوطنية"، خصوصا أن بعض القوى بدأت تبحث عن مخرج خاص بها من أزمة الصدام السياسي والبرلماني، التي يعيشها البلد عبر محاولات شهدتها الساعات الماضية للتحالف مع المكون الكردي.
وقد يخرج هذا الصدام البرلماني عن السيطرة لوجود أطراف مسلحة تنتمي إلى العملية السياسية. غير أن صمام أمان هذا الصدام تبقى الأطراف التي لا تزال تتفرج عليه، ومنها: المرجع الديني السيد علي السيستاني ورئيس الحكومة حيدر العبادي ورئيس الجمهورية محمد فؤاد معصوم محليا، وأمريكا وإيران إقليميا.
وعلى هذا الأساس، وفي محاولة منه ليكون صمام أمان، قال العبادي في كلمة متلفزة أمس: "لقد باشرنا بالإصلاح الشامل، وكان يفترض بالتغيير الوزاري أن يكون حلقة بسيطة من هذا الإصلاح. ولكن أن ينتهي الأمر إلى الخلافات والانقسامات، فإن ذلك مخالف للإصلاحات التي دعونا إليها".
وأضاف رئيس الحكومة: "لقد وُضعنا أمام خيار الاستسلام وهو خيار لا يمكننا الرضوخ له، ونرفضه بشدة، ولا يمكن أن نقبل بالفوضى التي تعرض مصالح شعبنا للخطر".
فكان أن رد النواب المعتصمون بأن العبادي ليس وصياً على ممثلي الشعب ليتحكم بقراراتهم. وهكذا، وصل المشهد السياسي العراقي إلى أن تتربص الأطراف البرلمانية العراقية بعضها ببعض، بل وأن تتصادم وبشكل غير مسبوق لم يحصل منذ عام 2003.
وقد يكون هذا هو شوط المباراة الأخير في التغيير الكبير الذي ينتظره العراقيون بعد 13 عاما من الاحتلال. وربما يكون هذا الشوط في الوقت بدل الضائع من هذه المباراة.
وواضح أن كل طرف برلماني عراقي اليوم أصبح يتربص بالآخر. فالمالكي يتربص بخصومه، الذين أخرجوه من رئاسة الوزراء في أغسطس/آب عام 2014، رغم فوزه في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 30-4-2014. ثم أخرجوه في أغسطس/آب عام 2015 من موقع نائب رئيس الجمهورية بحجة الإصلاح السياسي، وحمّلوه مسؤولية سقوط نينوى بيد "داعش".
وخصوم المالكي هم: العبادي ومعصوم والجبوري والسيد مقتدى الصدر.
والصدر ورغم ورود أنباء عن مصالحة يرتَّب لها بينه وبين المالكي بوساطة أطراف إقليمية، ورغم وجود "كتلة الأحرار" الصدرية ضمن المعتصمين، فإن ذلك لا يعني أن خلاف الصدريين والمالكي قد انتهى.
ومن جهة أخرى، فإن العبادي هو الآخر يتربص بالمالكي، ومن خلفه السيد السيستاني، الذي ما زال صامتا منذ الخامس من فبراير/شباط الماضي، وهو قد يتحدث في مرحلة حاسمة مقبلة وقد لا يتحدث.
ومعصوم والجبوري والسيد عمار الحكيم (رئيس "المجلس الأعلى الإسلامي") ومسعود بارزاني (رئيس إقليم كردستان العراق) هم أيضا يتربصون بالطرفين.
فهل سيربح المالكي الجولة ويعود رئيسا للوزراء من جديد، ويزيح العبادي ومعصوم بعد أن أزيح الجبوري؟ وهل سنعود لأجواء عام 2014 بعودة المالكي؟ وهل سيحول النواب المعتصمون بخطوتهم هذه النظام البرلماني في العراق إلى نظام رئاسي؟ أم أن خطوة إقالة هيئة رئاسة مجلس النواب قد تفتح بابا لا يُسد؟
من الصعوبة بمكان أن يعود المالكي إلى رئاسة الوزراء ولو حاول ومعه مؤيدوه. فالمالكي نفسه لا يحلم بالعودة، وشعاره اليوم "علي وعلى أعدائي". وكما أخرجوه من موقعه فلعله يريد إقالتهم جميعا نكاية بهم ليس ألا. خاصة أنه صرح قبل أيام بأن "مشروعات الإصلاح المطروحة باسم التكنوقراط ما هي إلا مؤامرة على المشروع الإسلامي".
وقد يعود المالكي مؤقتا إلى موقعه. لكن عودته دونها عوائق محلية وإقليمية ودولية. وعودته، إن تمت، فإنها قد تفتح عليه بابا لسيناريو اليمن أو سيناريو ليبيا.
ولعل هذه الإقالة وتداعياتها ستؤدي إلى شق العملية السياسية إلى نصفين؛ وكل نصف له مؤيدوه محليا وإقليميا. وقد يؤدي ذلك كله إلى خروج الأمر عن السيطرة؛ وبالتالي، إلى قيام برلمانين وحكومتين ورئيسين. وقد قال الجبوري أمس إن البرلمان سيعقد جلسته يوم السبت في الساعة العاشرة صباحا. فأين سيعقد برلمان اليوم جلساته؟
وبذلك، سيشبه الأمر ما حصل في ليبيا، أو قد يتخذ الأمر طابعا مسلحا فيتكرر السيناريو اليمني. وقد ينتقل العبادي ومعصوم والجبوري إلى إربيل إن تمت إقالتهم، ومن هناك سيطلبون دعما دوليا وإقليميا، كما حصل في اليمن حين غادر الرئيس عبد ربه منصور هادي صنعاء وذهب إلى عدن.
ويمكن القول إن ما جرى في البرلمان العراقي أمس ليس خطوة باتجاه الإصلاح، بل انقلاب عبر النظام الداخلي لمجلس النواب على عملية الإصلاح الجارية، التي يقودها رئيس الوزراء. ويؤيد وجهة النظر هذه انقلاب الأمور من تصويت على قائمة حكومية إلى إقالة رئيس مجلس النواب!
فعلى الرغم من عدم ورود نص دستوري يدعم ما قام به النواب المعتصمون، فإن المادة ١١ و12 من النظام الداخلي، التي استند إليها المعتصمون في إقالة رئاسة مجلس النواب، لا تُعد دليلا لهم لأكثر من سبب:
ذلك أن النظام الداخلي لمجلس النواب ليس قانونا يمكن الاستناد إليه، أولا. وثانيا، فإن المادتين 11 و12 منه تتحدثان عن انتخاب هيئة رئاسة جديدة في حالة تعذر حضور رئاسة مجلس النواب للمجلس أو عجزها عن القيام بدورها. ولم يرد في المواد المشار إليها أي سبب يعوق رئاسة البرلمان من الحضور سوى احتجاج المعتصمين ورفضهم للرئاسة وإصرارهم على إقالتها. وثالثا، إذا كان استنادهم للمادتين 11 و12، فذلك ينفعهم فقط مؤقتا ولجلسة واحدة لا غير. وهذا قد يعني أن الحاجة قائمة إلى رفع الأمر إلى المحكمة الاتحادية لتقول كلمتها، ولا سيما أن العبادي ومعصوم والجبوري يرون أن ما جرى مخالف للقانون والدستور.
وختاما, من الصعب أن نتصور اتفاق الكتل السياسية العراقية البرلمانية بعد اليوم. فقد حاولت الكتل السياسية العراقية داخل البرلمان الاتفاق بعد كل أزمة منذ ٢٠٠٥-٢٠١٥، لكنها في النهاية كانت تتفق بعد ضغوط أطراف دولية وإقليمية .
بيد أن الأمر اليوم يختلف عن كل الأيام؛ إذ لم يعد أحد يحرص على اتفاق الكتل إقليميا ودوليا. بل ربما كان هناك حرص إقليمي ودولي على عدم اتفاقها. خاصة بعد أن أصبحت أطراف مجلس النواب معضلة العراق السياسية الكبرى، وبعد أن أقدمت بعض هذه الأطراف على حل الأزمة بطريقتها الخاصة من دون الاتفاق مع الآخرين، وهذا هو دخول في نفق مظلم وليس خروجا من أزمة.
وللخروج من الأزمة، لا بد من العودة إلى النصف الثاني من عام 2004؛ أي إلى ما قبل كتابة الدستور العراقي. وهي المرحلة التي جاءت بعد انتهاء فترة مجلس الحكم الانتقالي، وقبل أول انتخابات وأول حكومة لإبراهيم الجعفري وكتابة الدستور. أي إلى الفترة التي كان فيها إياد علاوي رئيسا للوزراء في العراق.
تلك فترة يصلح أن يبدأ العراقيون بها من جديد بمصالحة وتعديل دستور وانتخابات وطقم سياسي عراقي جديد. والعودة الى النصف الثاني من عام 2004 تتطلب خطوة أخيرة تبدأ بحل مجلس النواب وتجميد الدستور وإعلان حالة الطوارئ وتشكيل حكومة انتقالية.