الاقتصاد المصري من أقدم اقتصاديات العالم حيث بدأ بالقطاع الزراعي والتبادل التجاري مع البلدان المجاورة. ومر بمراحل تطور وانحدار حتي بداية العصر الجمهوري عقب أحداث يوليو 1952م. حيث بدأ جمال عبدالناصر في الإصلاح الاقتصادي وإنهاء الفترة الإقطاعية ومن هنا بدأت الثورة الاقتصادية في مجالات عدة وكان حينها اقتصاد مصر يتمتع بدرجة عالية من المركزية. و كان لرحيل عبدالناصر في 1970 فاتحة لصراع على السلطة بين شرائح النخب السياسية البيروقراطية المهيمنة أسسها عبدالناصر كانت ترى أن حل الأزمة الاقتصادية يكمن فيما يسمى بـالاقتصاد الاشتراكي، وثمة شريحة أخرى كانت تفضل العودة إلى آلية السوق من جديد وتفكيك القطاع العام وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر كحل وحيد للأزمة الاقتصادية العميقة. وفي هذا المقال سوف يتم تناول اقتصاديات الحرب و من ثم الانتقال إلى الانفتاح الاقتصادي.
اقتصاد مصر في مواجهة خسائر يونيو 1967م:
شهدت الستينيات تصاعد وتيرة بناء دولة قادرة على إرساء قواعد تنمية بديلة لا شرقية ولا غربية. ففي بدايتها انطلقت أول خطة للتنمية في ظل الوحدة مع سوريا، وأظهر تنفيذها ثغرات جرى سدها من خلال تأميم بعض الأنشطة التي وجدت منها مدخلا لنهب مخصصات الاستثمار، لاسيما في قطاع التشييد، وجرى تعزيز قواعد برنامج الإصلاح الزراعي، وأوضحت عدم قدرة الأجهزة التنفيذية على مجاراة سرعة عجلة التنمية، فتحول ديوان المحاسبة إلى جهاز مركزي للمحاسبات، وضمت مصلحة الإحصاء والتعداد إلى الجهاز المركزي للتعبئة لتمكين الدولة من النهوض بقاعدة البيانات وإزالة التضارب بين المصادر المختلفة وإحكام متابعة الخطة وتقييم الأداء. وساعدت الطفرة التي أحدثها نجاح البرنامج الصناعي الأول الذى أعده المهندس الدكتور عزيز صدقي وأدرج ضمن الخطة، على تزايد الثقة في إمكان بناء صرح صناعي شامخ، يسد الثغرة التي تتسلل من خلالها الرأسمالية العالمية لتواصل استعمارها المقنع، فقررت إيقاف العجلة قبل أن تتحول إلى نموذج ينقذ العالم الثالث من أيدى استعمار كان لازما لتقدمها.
من جهة أخرى جرت محاولات لتعزيز الذراع التعاونية لثلاثية المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني التي أخذ بها تنظيم الاتحاد القومي، ونضجت الصيغة الاشتراكية معززة بـمعهد للدراسات الاشتراكية ومجلس لرعاية الشباب إلى جانب إشاعة قصور الثقافة لتتغلغل في الكفور والنجوع مزيلة عنها أتربة الإهمال التي أهالها عليها الإقطاع، واستخدمت الإذاعة ثم التليفزيون في الوصول إلى جميع أرجاء الدولة وامتدت إلى الوطن العربي والقارة الأفريقية فأفاق الأفارقة على صوت الحرية، ولعبت شركات المقاولات والنصر للاستيراد والتصدير على إنعاش الحركة الاقتصادية في دول استغلها الأوروبيون أسوأ استغلال معتمدين على وسطاء عرب، لبنانيين وسوريين بوجه خاص.
غير أن تشجيع النزعة الاستهلاكية التي اعتقد المشرفون على السياسة التنفيذية برئاسة على صبري، أضعفت من إمكانيات الادخار المحلى، ظنا منهم أن هذا فيه إشعار بجدوى التحول الاشتراكي، واتجهت وحدات من القطاع العام تضطر إلى الاعتماد على قروض أجنبية أصبحت نذيرا بالخطر.
ثم تعرضت مصر لهزيمة كبيرة في يونيو 1967م، ولم تكن تلك الهزيمة عسكرية فحسب، بل امتدت جذورها إلى الهزيمة السياسية والاقتصادية. وقد قدر رئيس وزراء مصر الأسبق د. عزيز صدقي تلك الخسائر بنحو 11 مليار جنيه مصري، أي نحو 25 مليار دولار (بأسعار تلك الفترة، حيث كان الجنيه المصري يساوى نحو 2.3 دولار) في الفترة ما بين حربى يونيو 1967م، وأكتوبر 1973م. وتمثلت الخسائر الرئيسية للاقتصاد المصري بسبب حرب يونيو 1967م فيما يلى:
– فقدت مصر 80% من معداتها العسكرية وكان عليها أن تعيد تمويل شراء معدات عسكرية بديلة وهى تكلفة اقتصادية هائلة كان على الاقتصاد المصري أن يتحملها.
– فقدان سيناء بثرواتها البترولية والمعدنية وإمكانياتها السياحية، وهى ثروات كان من الممكن اعتبارها مفقودة مؤقتا لو أن إسرائيل احترمت الاتفاقيات الدولية ولم تستنزف ثرواتها، لكن الذى حدث هو أن إسرائيل نهبت بصورة لصوصية دنيئة ثروات سيناء وبالذات نفطها، وهو ما يعنى أن مصر فقدت بشكل نهائي جزءا كبيرا من الثروات الطبيعية في سيناء بعد حرب 1967م.
– فقدت مصر إيرادات قناة السويس التي كانت قد بلغت نحو 95.3 مليون جنيه عام 1966م، أي نحو 219.2 مليون دولار توازى نحو 4% من الناتج المحلى الإجمالي في ذلك العام. وفضلا عن هذا الفاقد في الإيرادات، فإن الخسائر الناجمة عن العدوان الإسرائيلي على منشآت قناة السويس قاربت المليار جنيه.
– فقدت مصر جانبا هاما من الإيرادات السياحية يقدر بنحو 37 مليون جنيه سنويا، توازى قرابة 84 مليون دولار في ذلك الحين.
– فقدت مصر قدرا من مواردها البشرية التي تعتبر العنصر الأكثر حيوية في تحقيق التنمية الاقتصادية. كما فقدت في الحرب أصولا إنتاجية تم تدميرها أو تعطيلها بشكل دائم أو مؤقت، حيث حدث تدمير في 17 منشأة صناعية كبيرة وبلغت قيمة الدخل المفقود نتيجة تعطل هذه المصانع نحو 169.3 مليون جنيه مصري، أي نحو 389.4 مليون دولار. وبالإضافة لكل تلك الخسائر تعرضت مصر لدمار كبير في المنشآت الاقتصادية والأصول العقارية في مدن القناة التي تعرضت للعدوان والتدمير بشكل مكثف.
علاوة على ذلك، اتسمت تلك الفترة بعدم التخطيط و التنظيم؛ فقد اتبع عبدالناصر سياسات اقتصادية قوية إلا أنها طبقت بلا علمية و لا تنظيم فازدادت العشوائيات وازداد معدل البطالة، وأضيفت إلى ذلك آثار حرب خاسرة أثيرت بلا تفكير.
سياسات إدارة الاقتصاد بين الحربين:
أدركت القيادة المصرية أنها تدير اقتصاد حرب بالمعنى الحقيقي للكلمة، فاتبعت السياسات اللازمة لذلك إلى حد بعيد. وتجسد ذلك في فرض ضرائب جديدة وزيادة معدلات الضرائب القائمة، وذلك لزيادة الإيرادات العامة الضرورية لمواجهة التزايد السريع في الإنفاق العام اللازم للاستعداد لخوض جولة جديدة من الصراع العسكري مع الكيان الصهيوني.
وقد جاء التزايد في حصيلة الضرائب من الضرائب غير المباشرة والجمارك، حيث ارتفعت حصيلتهما من 442.5 مليون جنيه عام 1969/1970 إلى نحو 574.7 مليون جنيه عام 1973م، وشكلت حصيلتهما (الضرائب غير المباشرة والجمارك) نحو 63.4% من إجمالي حصيلة الضرائب عام 1969/1970، ارتفعت إلى نحو 69.1% في عام 1973. وبالمقابل بلغت حصيلة الضرائب المباشرة نحو 255 مليون جنيه عام 1969/1970 بما يوازى 36.3% من إجمالي حصيلة الضرائب في ذلك العام، ولم تزد حصيلة الضرائب المباشرة عن 257.5 مليون جنيه عام 1971 بما يوازى نحو 30.9% من إجمالي حصيلة الضرائب في ذلك العام. ولأن الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات يتحملها السواد الأعظم من الشعب، فيمكن القول أن القطاعات العريضة من أبناء الشعب هي التي تحملت عبء تمويل الاستعداد لمعركة أكتوبر في الفترة ما بين الحربين. وكان الشعب الثائر لوطنه وكرامته يقدم التضحيات دون حساب.
كما تزايد إصدار البنكنوت كآلية لتمويل الانفاق العام فيما يعرف بـالتمويل بالعجز. فقد ارتفع حجم وسائل الدفع من 397.2 مليون جنيه في يونيو 1960 إلى 761.5 مليون جنيه في يونيو 1970، ثم إلى 866.6 مليون جنيه في يونيو 1972 بنسبة نمو سنوية تقترب من 10%. كما زادت قيمة أذون الخزانة من 164 مليون جنيه في العام المالي 1959/1960 إلى نحو 375 مليون جنيه عام 1969/1970، ثم إلى 459 مليون جنيه في عام 1972م.
وتلك السياسة النقدية المتمثلة في التمويل بالعجز تعتبر عاملاً رئيسيا مغذيا لـالتضخم. وكان التضخم مكبوتا في الفترة ما بين حربى 1967/1973 بسبب سياسة التسعير الجبري للسلع الأساسية، لكنه انفجر فيما بعد حرب أكتوبر 1973 مع تخفيف سياسة التسعير الحكومي للسلع باتجاه إلغائها.
كذلك تميزت السياسة الاقتصادية المصرية بين الحربين بإعطاء أولوية للاستثمارات التي تخدم المعركة على كل ما عداها من استثمارات. وتميزت أيضا بالذات من بداية عام 1972، بـإيقاف استيراد السلع الكمالية، حيث صدر قرار بحظر استيراد تلك السلع ومن بينها الملبوسات والأقمشة الصوفية الفاخرة وأجهزة التليفزيون والراديو والسجائر والثلاجات والغسالات والسجاد الفاخر.
كما تقرر زيادة الرسوم الجمركية على السلع الكمالية الواردة للاستعمال الشخصي بنسبة 50%. كما تم قصر تجارة الجملة في المواد والسلع التموينية الأساسية على القطاع العام. وكان الهدف من ذلك هو منع أي تلاعب في تلك السلع وضمان وصولها إلى جماهير الشعب بأسعار مقبولة باعتبار أن توفيرها عنصر مهم في تحقيق الاستقرار السياسي.
وإذا كان القطاع العام قد قام بالدور الرئيسي في تمويل الاستعداد للمعركة، فإن القطاع العائلي الذى كان مهيمنا في مجال الزراعة وفى الكثير من الخدمات قد ساهم بدوره بشكل فعال في دعم استعدادات مصر للحرب سواء من خلال ما تحمله من ضرائب أو من خلال مساهمته الفعالة في الإنتاج والتنمية في تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر. لكن القطاع العام وقاعدته الصناعية الثقيلة كان لهما الفضل الأكبر في إنجاز استعدادات مصر لحرب أكتوبر بعد هزيمة 1967.
ملامح الإنفاق العسكري من 1967 حتى 1973:
لم يكن الإنفاق الدفاعي في مصر يتجاوز 5.5% من الناتج المحلى الإجمالي في المتوسط السنوي خلال الفترة من 1960 حتى 1962. وبعد هزيمة 1967 ارتفع إلى أضعاف هذا المعدل وبلغ في ذروة عمليات شراء الأسلحة للاستعداد للحرب نحو 21.7% من الناتج المحلى الإجمالي المصري عام 1971. واستمر قرب هذا المستوى حيث بلغ نحو 20% من الناتج المحلى الإجمالي المصري عام 1973.
ويمكن القول أن خمس الناتج المحلى الاجمالي المصري على الأقل، قد تم توجيهه لتمويل الانفاق الدفاعي المصري منذ حرب الاستنزاف وحتى حرب أكتوبر 1973. ومن البديهي أن اقتطاع ذلك الجزء الهام من الناتج المحلى الاجمالي لتمويل الإنفاق الدفاعي الضروري للغاية من أجل معركة استعادة الأرض والكرامة، قد أثر على قدرة الاقتصاد المصري على تمويل الاستثمارات الجديدة اللازمة لتحقيق معدلات نمو مرتفعة.
التحرر الاقتصادي وظهور الاقتصاد الريعي:
لقد أوضحت معاهدة السلام السوفيتية والأمريكية 1972 للسادات أن مصر لم يعد بمقدورها أن تواصل الاعتماد على دعم الاتحاد السوفيتي. ولكي تتواصل مصر مع العالم الغربي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية آثر السادات حربا محدودة عام 1973، وطرح خيارات تسوية الصراع. ففي عام 1974 أعلن السادات اتباع سياسات الانفتاح الاقتصادي بإصدار قانون 43 لسنة 1974 لتشجيع الاستثمار الأجنبي ولتوصيل رسالة عالمية عن رغبة القيادة في مصر في الدخول إلى النظام الدولي الليبرالي.
وكان السادات مقتنعا أن تطبيق سياسات الباب المفتوح لابد لتنفيذها من التحالف مع الغرب، وقد اتخذ أولى خطواته في الاندماج مع الغرب بقرار عقد معاهدة السلام، فما كان من أمريكا سوى أن تقدم له هديته وهي معونة سنوية بمقدار 2.1 مليار دولار؛ إلا أن سياساته لم تنجح و لم تجن ثمارها بعد: فها نحن في عام 2015 ما زلنا نحبو اقتصاديا ولم يترك لنا سوى إرث ضخم من الديون ومزيد من التبعية.