عندما استلم الجنرال «إلياهو زعيرا» منصبه الجديد كرئيس لجهاز المخابرات العسكرية في الأول من أكتوبر 1972 أي قبل حرب أكتوبر بعام وعدة أيام، كان الرجل مملوءاً بالثقة والفخر. لقد عرف عنه ثقته الشديدة بنفسه، وفي أحكامه وقراراته، وكان يتحدث عن هذا في المحافل العسكرية، بل وعبر عن تصوره هذا لنفسه أمام لجنة التحقيق. أضيفت الى هذه الثقة الذاتية في النفس حالة فخر بالجهاز الذى ترأسه والذي يمثل العقل المدبر بالنسبة لأجهزة المخابرات الأخرى والذي يوجه حركتها ويقوم بتقييم معلوماتها.
لقد عبر الرجل عن ثقته في الجهاز أثناء التحقيق معه لدرجة أنه دعا أعضاء لجنة «أجرانات» إلى زيارة محطة تنصت سرية عملاقة في سيناء بمعايير ذلك الوقت خاضعة لقيادته قائلاً إنها مفخرة لكل يهودي. لم يكن الجنرال يعلم وهو يوجه دعوته هذه للجنة فى 27/11/1973 مع أول جلسة للتحقيق معه أنه يقدم للجنة أول البراهين على فشله، وما كان «زعيرا» يدري أن محطة التنصت السرية، والتي كان يتباهى بها، والتي كان يستخدمها في التنصت على مكالمات القيادات في مصر قد تم اختراقها منذ زمن بعيد من جانب المخابرات المصرية وما كان المسكين يدري أن سلاحه السري المفخرة قد استخدمه المصريون ضده ببث معلومات مضللة له ولجهازه من خلال أدواته الالكترونية نفسها لإقناعه بأنه لا نية اطلاقاً لدى مصر لشن حرب.
«مفهوم» لم يُختبر!
ورث «زعيرا» قيادة الجهاز، وورث معها ما كان يسميه قسم الأبحاث في الجهاز بـ«المفهوم» الخاص بمصر وسوريا ونواياهما لشن الحرب. اطلع الرجل على عناصر هذا المفهوم الذي كان راسخاً قبل استلامه منصبه أول أكتوبر 1972، الذي يتكون من عنصرين الأول يقول إن مصر لن تشن هجوماً ضد إسرائيل، إلا إذا ضمنت لنفسها القدرات العسكرية الجوية التي تمكنها من الهجوم على عمق إسرائيل وتدمير قوة السلاح الجوي الإسرائيلي، وشل قدرته على التدخل في المعركة. أما العنصر الثاني، فيقول إن سوريا لن تُقدم على شن هجوم شامل على إسرائيل إلا في وقت واحد مع مصر. لقد تبين للجنة من التحقيقات مع «زعيرا» أنه احتضن هذا المفهوم طوال الوقت دون أن يعطي نفسه والآخرين الفرصة لمراجعته مع الظروف المتغيرة في الجيشين المصري والسوري من حيث العتاد الجديد، والذي وردت عنه معلومات من أجهزة جمع المعلومات الإسرائيلية.
زعيرا يتهم «الموساد»
لقد كشف «زعيرا» بعد ذلك عما اعتبره خطأً رئيسياً من جانب «تسيفى زامير» رئيس الموساد باعتباره رئيس جهاز جلب المعلومات من الخارج، والذي يتبع مباشرة رئيسة الوزراء، ويقدم لها المعلومات ذات الأهمية بطريق مباشر، ويرسل نسخة منها للمخابرات العسكرية.
يرى «زعيرا» أن المعلومات التي تأسس عليها (المفهوم) منذ ما قبل توليه منصبه جاءت من رئيس «الموساد» الذي حصل عليها من أشرف مروان، ويقول «زعيرا» إن مروان قد استطاع السيطرة على عقل رئيس الموساد واقناعه بما تمليه عليه أجهزة المخابرات المصرية لتضليل إسرائيل. من هنا يرى «زعيرا» أن المسؤولية يجب أن تقع على رئيس «الموساد»، الذي سقط في فخ الخداع المصري وصدق كل المعلومات التي كان يقدمها له أشرف مروان، واقنع بها السياسة الإسرائيلية لدرجة أن هذه القيادة صاحبة القرار قد قامت باستبعاد كل الانذارات التى جاءتها مباشرة من عملاء كبار بقرب وقوع الحرب. وهنا يدلل «زعيرا» على عدم تحمله المسؤولية بأن جولدا مئير رئيسة الوزراء قابلت يوم 25 سبتمبر صديقا لاسرائيل من الشرق الأوسط على مستوى رفيع طلب اللقاء بها مباشرة وأنها تلقت منه تحذيراً حول نية مصر وسوريا لشن الهجوم بداية أكتوبر ومع ذلك اهملت التحذير ثقة في المعلومات التى يقدمها أشرف مروان لرئيس الموساد فى هذا الصدد. يبين زعيرا أن اخطر معلومة زرعها أشرف مروان في عقل الموساد ورئيسة الوزراء ووزير الدفاع جاءت في أغسطس 1973، حيث أكد أشرف مروان لرئيس الموساد أن الرئيس السادات قد قرر تأجيل النظر في موضوع شن هجوم إلى نهاية العام. ويرى زعيرا أن تصديق «الموساد» والقيادة السياسية لهذه المعلومة هو الذي أعمى الجميع عن تصديق سائر التحذيرات التي وردت إلى إسرائيل.
وعد أبريل 1973
فى استنتاجات لجنة «إجرانات» عن أسباب الفشل فى تقدير نوايا المصريين والسوريين، والتي نُشرت في التقرير الأول للجنة في الأول من أبريل 1974 جاء أن الجنرال «الياهو زعيرا» رئيس المخابرات العسكرية (أمان) قد أصدر وعداً بإعطاء تحذير مبكر للقيادة في حالة توفر وانعقاد نية العدو المصري على شن حرب شاملة، مؤكداً أن تحذيره سيأتي قبل الموعد المحدد لهجوم العدو بفترة زمنية كافية للاستعداد وتعبئة القوات الاحتياطية على نحو منظم لا عجلة فيه.
يضيف تقرير اللجنة أن وعد الجنرال «زعيرا» قد اكتسب مصداقية لدى قيادات الجيش، وكان له اعتبار كبير عندها لدرجة أنها اتخذت منه قاعدة تبني عليها خططها الدفاعية. لقد انتهت اللجنة بعد هذا إلى إصدار حكمها بشأن الجنرال زعيرا وصلاحيته أو عدم صلاحيته للمنصب فقالت إنها ترى أنه يجب ألا يستمر فى منصبه كرئيس للمخابرات العسكرية بسبب الفشل الخطير المذكور.
وحاول «زعيرا» بعد صدور تقرير «لجنة إجرانات» الأول فى 1 إبريل 1974 أن يستأنف حكمها بعدم صلاحيته للاستمرار فى منصبه فقام بكتابة عريضة دفاع عن نفسه قدمها لسكرتير اللجنة دافيد برطوف بعد عشرة ايام من صدور التقرير غير ان هذا الاستئناف لم يغير من الامر شيئاً واضطر إلى تقديم استقالته من منصبه.
في الحقيقة أرى أن دفاع «زعيرا» في عريضته بشأن وعد النوايا غير مقنع. لقد بنى دفاعه على نفي أنه أصدر وعداً بإعطاء تحذير عن نوايا العدو قائلاً إن وعده كان متعلقاً فقط بإعطاء تحذير عن استعدادات العدو المصري الخاصة بعبور مجرى قناة السويس، وليس نواياه. انني أرى أن «زعيرا» يحاول هنا التنصل من مسؤوليته كرئيس للجهاز المسؤول عن تحليل المعلومات ودراستها واستنباط النتائج منها وبالتالي التوصل إلى تقديرات حول نوايا العدو المصري. يشير «زعيرا» في عريضته إلى الوثيقة التي اعتمدت عليها اللجنة في إصدار حكمها وهي وثيقة محضر جلسة مشاورات لمجلس الحرب عقدت برئاسة «جولدا مئير» في مقر رئاسة الوزراء بتاريخ 18/4/1973. لقد قال «زعيرا» في هذا المحضر متبادلاً الحوار مع رئيسة الوزراء ما يلى: انني على يقين اننا سنعلم مبكراً عن عبور قناة السويس من جانب المصريين وسيمكننا اصدار تحذير للقيادة قبل وقوع الهجوم المصري بعدة ايام. وسألته «جولدا مئير»، وكيف سنعلم ذلك: هل من خلال مراقبتنا لاستعدادات المصريين؟ ويجيب «زعيرا» قائلاً سنعلم عن الهجوم المصري من خلال استعدادات الجيش المصري وتحركات قادته، ودفع القوات إلى اتجاه القناة، وتدعيم قوات الدفاع الجوي، وسنعلم عندما نلاحظ أن الجيش المصري أصبح يعمل بكامله.
وهنا يقوم «زعيرا» في عريضته ويشرح الفرق بين التزامه بتقديم إنذار عن استعدادات العدو، وما تقول به اللجنة من أنه التزام بالتحذير من نوايا العدو. غير أن هذا الشرح في الحقيقة لا يبرئ «زعيرا»، لأن سياق الكلام كله في محضر الاجتماع كان متعلقاً ببحث نوايا المصريين، وجاء الحديث عن الاستعدادات باعتبارها مؤشرا واحدا على وجود نوايا شن الحرب. الدليل القاطع عندي ضد «زعيرا» أن جهازه قد أبلغ القيادة في اجتماع الاربعاء الثالث من أكتوبر بجميع الاستعدادات التي رصدها عن تحركات الجيش المصري على الضفة الشرقية للقناة ومع ذلك قدم لرئيسة الوزراء تقديره عن نوايا المصريين من الحشود والاستعدادات مستبعداً أن تكون الاستعدادات دالة على نيتهم لشن هجوم.
«جولدا» مشتركة في التقصير
أدرك «زعيرا» أنه لا يمكنه فى عريضته الدفاعية نفي مسؤوليته عن إعطاء تقدير خاطئ لنوايا المصريين، وبالتالى سعى في دفاعه عن نفسه إلى محاولة إشراك القيادة السياسية خاصة رئيسة الوزراء جولدا مئير في المسؤولية عن التقصير في توقع الهجوم.
يقول زعيرا في عريضته : صحيح أننى وقعت في خطأ بشأن تقدير نوايا العدو لشن الحرب في السادس من أكتوبر، ولا يمكننى أن أقلل من خطورة هذا الخطأ، أو أنفي مسؤوليتي عنه باعتباري رئيس جهاز المخابرات العسكرية، ولكنني أرى في ضوء المعلومات التي قدمت للحكومة أنها مسؤولة أيضاً عن بناء تقدير لنوايا القيادة السياسية العليا في الدولة المعادية.
ويقتبس «زعيرا» من تقرير لجنة «أجرانات» فقرة تقول إن القيادة العسكرية العليا للجيش الإسرائيلى جنباً إلى جنب مع القيادة السياسية للبلاد لم يتوصلا إلى تقدير صحيح حول حرب وشيكة الوقوع. لقد كان «زعيرا» يرى هو وجهازه أن الحشود في مايو ليست سوى مناورة صيفية، وأنه لا يجب إعلان الطوارئ واستدعاء الاحتياط، غير أن «جولدا مئير» رفضت تقديره، وأعلنت التعبئة العامة، وكلفت الدولة تكاليف باهظة بعدها تبين أن الحشود المصرية لم تكن سوى مناورة.. لابد هنا من اثبات أن «جولدا مئير» ظلت طوال التحقيق معها تلقي بالمسؤولية في عدم التوصل إلى تقدير صحيح حول النوايا المصرية والسورية على تقديرات المخابرات العسكرية. وعلى «زعيرا» من ناحية، وعلى الدهاء الذي، تميز به الرئيس المصري من ناحية أخرى. لقد اعترفت أنها تشعر بأنه يجب عليها بعد الحرب أن تقدم اعتذارها للسادات بسبب تصديقها للصورة الهزلية، التي كان يقدمها عن نفسه سواء في أدائه العلني أو عن طريق مصدر تم حذف اسمه قال المعلقون في الصحف الإسرائيلية، إنه أشرف مروان.
خطة الخداع المصرية
يرى الجنرال «زعيرا» في فصل خصصه في مذكراته لخطة الخداع الاستراتيجي المصرية ان المصدر الذي اعتمدت عليه جولدا مئير في استقاء معلوماتها عن نوايا القيادة المصرية وكانت تثق فيه ثقة كبيرة كان في الحقيقة يعمل على تضليل إسرائيل ربما بتوجيه مباشر من الرئيس المصري. لقد افصح الجنرال زعيرا بعد هذا عن اسم هذا المصدر باعتباره أشرف مروان سكرتير الرئيس السادات للمعلومات الذي كان يغذي الجنرال تسيفي زامير بالمعلومات المضللة بعد ان اكتسب ثقته في البداية.
لقد أدى هذا الافصاح الى نشوب صراع علني وقضائي بين الجنرالين زعيرا وزامير في ظاهر الأمور سأعود إلى بيان هدفه الحقيقي من وجهة نظري كباحث مصري. يقدم «زعيرا» أسباب اعتقاده أن أشرف مروان كان يزود الموساد بمعلومات هدفها النهائي تضليل إسرائيل فيما يتعلق بالتاريخ الفعلي لشن الهجوم المصري. من أهم هذه الأسباب عنده ان مروان قدم معلومات مبكرة بأسابيع عن نية شن الهجوم مرتين الاولى في ديسمبر 1972 قبل احتشاد القوات المصرية لمناورة الشتاء والثانية في أبريل 1973 قبل تجميع المصريين لقواتهم في مناورة الربيع.
هنا يؤكد زعيرا أن مروان تم توجيهه من القيادة المصرية لتقديم تحذير مبكر لإسرائيل في المرتين ثم تم توجيهه قبل الموعد الذي حدده لإسرائيل أن يبلغها أن الرئيس المصري أجل قراره بشن الهجوم. هكذا يرى زعيرا أن مروان اكتسب ثقة الموساد ووزير الدفاع دسان ورئيسة الوزراء جولدا مئير فقد ظهرت حشود مصرية بالفعل بالقرب من القناة في المرتين ثم انسحبت بعد ذلك وهو ما اعطى لمروان مصداقية عالية عندما يقول إن هناك قرارا بالهجوم وعندما يقول انه تم تأجيل القرار. كان هذا في رأي زعيرا جزءاً رئيسياً من خطة الخداع المصرية ذلك أن مروان قد عاد فى نهاية أغسطس 1973 وبداية سبتمبر أي قبل الحرب بشهر الى ابلاغ الموساد بأن الرئيس المصري قد أجل قرار الحرب الى نهاية العام وبالتالي تم تصديقه وتكذيب أي انذارات أخرى وصلت من المخابرات الأميريكة أو من حاكم صديق لجولدا مئير بقرب وقوع الهجوم المصري. هنا يسجل زعيرا نقطة قوية في نظريته بأن مروان كان يعمل على تضليل إسرائيل فهو يتساءل لماذا لم يقدم أشرف مروان انذاراً مبكراً لرئيس الموساد زامير فيما يخص حشود أكتوبر 1973 كما سبق وفعل بالنسبة لحشود ديسمبر 1972 ومايو 1973. يجيب زعيرا على السؤال بقوله إن مروان لم ينذر رئيس الموساد بقرار الحرب في أكتوبر إلا قبل 14 ساعة فقط من وقوع الهجوم الفعلى مع بداية ليلة 6 أكتوبر بلندن معنى هذا في رأي الجنرال زعيرا ان هذا الانذار كان عديم القيمة بالنسبة لمصير المعركة وذلك لأن هيئة الأركان المصرية كانت ترى أن وصول الانذار لإسرائيل في مدة اقل من 48 ساعة على موعد الهجوم لا يعطيها الفرصة لجمع قوات الاحتياط وتوجيه ضربة اجهاضية للحشود المصرية المستعدة للهجوم.
----------
الكاتب : د. ابراهيم البحراوي