يعود التعاون الأمني والاستخباراتي بين المغرب وفرنسا إلى الواجهة بقوة، غداة الاعتداءات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس، الجمعة 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، تحديداً بعد تداول أخبار تُفيد بتقديم السلطات الأمنية والاستخباراتية المغربية معلومات لفرنسا، مهّدت لعملية مداهمة سان دوني، شمالي باريس، التي تمّت صباح الأربعاء الماضي. ولم تعد هذه المعلومات مجرد تخمينات بعد الشكر الكبير الذي وجهه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يوم الجمعة للمغرب على "المساعدة القيّمة" التي قدمتها لبلاده، في معرض حديثه عن "إنجاز" مداهمات سان دوني. ولألف سبب وسبب، يبدو طبيعياً ان يكون التعاون الأمني بين فرنسا من جهة، والمغرب من جهة ثانية، هو الأكبر حجماً ونوعاً مقارنة مع التعاون الفرنسي مع بقية دول المغرب العربي. ومن أبرز هذه الأسباب كون بعض أكبر "الإرهابيين" الذين ضربوا فرنسا، هم من جذور مغربية، منهم أخيراً كل من عبد الحميد أبوعود، الملقب بـ"عمر السوسي"، وبلال الحدفي.
وكان التعاون الأمني والاستخباراتي الوثيق بين البلدين الحليفين قد توقف لمدة سنة تقريباً، بعد حادثة استدعاء السلطات القضائية الفرنسية لمدير جهاز الاستخبارات المغربية، عبد اللطيف حموشي، في فبراير/ شباط 2014، للبحث في شكاوى تعذيب مواطنين فرنسيين من أصول مغربية، ما دفع الرباط إلى تجميد التعاون الأمني والقضائي مع باريس، قبل أن تعود المياه إلى مجاريها في فبراير من العام الجاري.
ويشير مصدر أمني خاص لـ"العربي الجديد"، إلى أن "السلطات المغربية ما فتئت تُقدّم المعلومات التي تبدو مهمة للأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البلاد، إلى العديد من الدول التي تربطها مع المملكة اتفاقيات تعاون أمنية وقضائية، خصوصاً فرنسا وإسبانيا، من أجل استباق العمليات الإرهابية، في إطار التدابير الوقائية المعمول بها".
ويُضيف المصدر بأن "المغرب قدّم عدداً من المعلومات الأمنية ذات البُعد الاستخباراتي للسلطات الفرنسية، بهدف المساعدة على القبض على مشتبهين فيهم بالقيام بتلك الأفعال الإجرامية". ويُبرز أنه "لا يُمكن التأكيد على أن تلك المعلومات كانت المفتاح الرئيسي لمداهمة سان دوني تحديداً، باعتبار أن توظيف تلك المعلومات يبقى بيد الأجهزة الفرنسية المعنية، إما أن تأخذ بها أو تتركها".
وكان المدّعي العام الفرنسي، فرانسوا مولان، قد ذكر بأن "القوات الأمنية الفرنسية التي قامت بعملية المداهمة في سان دوني، من أجل القبض على مشتبه بهم في ارتكاب اعتداءات باريس، تلقت معلومات محددة تفيد بوجود من سُمّي بالعقل المدبّر للهجمات، (البلجيكي من أصول مغربية) عبد الحميد أباعود، في الشقة التي تمّت مداهمتها"، من دون أن يفصح عن الجهة التي زوّدت الفرنسيين بتلك المعلومة.
وفي هذا الصدد، يقول رئيس "المركز المغاربي للدراسات الأمنية وتحليل السياسات"، عبد الرحيم المنار اسليمي، إن "هناك معلومات مؤكدة حول انتقال مسؤولين في الاستخبارات المغربية إلى باريس الثلاثاء الماضي، وتقديمهم معلومات جوهرية مكّنت من الوصول إلى مجموعة من الإرهابيين الفارين والمتورطين في عملية باريس".
ويتابع اسليمي، في حديث لـ"العربي الجديد"، بأن "التحوّل الذي أحدثه المسؤولون الأمنيون المغاربة تجلّى في مداهمات سان دوني يوم الأربعاء، إذ يبدو أن الاستخبارات المغربية أخبرت السلطات الفرنسية بأن الخطر لا يزال قائماً وحددته جغرافياً في ضواحي باريس".
ويضيف قائلاً إن "التعاون الأمني والاستخباراتي بين فرنسا والمغرب يصل إلى إمكانية إدارة عمليات مشتركة في مكافحة الخلايا الإرهابية، وباتت للاستخبارات المغربية خبرة عالية في مكافحة خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتمكنت من تفكيك 16 خلية منذ عام 2014 حتى الشهر الحالي، كما تمكنت من تفكيك حوالي 147 خلية منذ تفجيرات الدار البيضاء في 16 مايو/ أيار 2003".
ويُشدد على أن "هذا يعني أن للأجهزة المغربية قاعدة معلومات واسعة، وخارطة أمنية استباقية حول الجسم المتطرف في شمال أفريقيا ودول أوروبا، خصوصاً فرنسا وبلجيكا. وهي قاعدة معلومات مستمدة من الإرهابيين المقاتلين الذين عادوا من سورية وحاولوا دخول المغرب عبر المطارات، وأُلقي القبض على حوالي 237 شخصاً مغربياً، وجنسيات أخرى حاملة لجوازات سفر مزوّرة سورية وليبية".
ويرى اسليمي أن "الاستخبارات المغربية تملك خبرة وقاعدة معلومات جوهرية، وقدرة على تحليل المخاطر، ترتكز على رصد وتتبّع واستباق التهديدات القادمة من داعش في سورية والعراق، وجند الخلافة في شمال أفريقيا والجهاديين في أوروبا، بالإضافة إلى قدرة الاستخبارات على جمع معلومات عما يجري في ليبيا وشمال مالي، وخطر جماعة بوكو حرام في أفريقيا".
وتُعدّ هذه المعلومات بمثابة زيادة على الخبرة المكتسبة خلال الأعوام الـ12 الماضية، وانفتاح الاستخبارات المغربية على التعاون الأمني الثنائي والمتعدد. وهي معطيات تُفسّر مساعدة المغرب لفرنسا مرات عديدة، منها في عام 2009، حين كان مقرّ جهاز الاستخبارات الفرنسية في باريس سيتعرض لعمليات إرهابية، لم تقع بفعل المعلومات المغربية، أو قبل حادث "شارلي إيبدو" مطلع العام الحالي، أو في مداهمات سان دوني.
والمؤكد أن التعاون الأمني والاستخباراتي بين المغرب وفرنسا، ليس وليد هجمات باريس ولا حتى قبلها، بل نتيجة مسار تراكمي منذ سنوات طويلة، بفضل الاتفاقيات المشتركة بين الرباط وباريس، لكنه تعزّز كثيراً في سياق تفشّي العمليات الإرهابية، تحديداً بعد ظهور تنظيم "القاعدة"، وبعدها تنظيم "داعش".
وظهر الاهتمام البالغ للحكومة الفرنسية بإجراء التنسيق الأمني والاستخباراتي مع المغرب، من خلال تصريحات وزير الداخلية الفرنسية، برنار كازنوف، الذي أكد على ضرورة تعزيز التعاون الأمني بين البلدين، تحديداً في ميدان مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وقد وصف وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، أمام مجلس الشيوخ الفرنسي، أخيراً، التعاون القضائي والأمني مع المغرب بكونه "التزاماً لا خياراً".
ويعود اهتمام فرنسا بالتعاون الأمني والاستخباراتي مع المغرب أكثر من أي بلد آخر في المنطقة، إلى العديد من العوامل الرئيسية، لعل أولها الاحترافية والكفاءة المشهود بها لجهاز مديرية مراقبة التراب الوطني "الاستخبارات"، الذي يشرف عليه عبد اللطيف حموشي، وهو نفسه مدير الأمن الوطني.
وثاني العوامل التي تدفع الفرنسيين إلى "تفضيل" التعامل مع المغرب في مجال مكافحة الإرهاب، يعود إلى كون أحد أكبر الجاليات في فرنسا هم من المغاربة، الذين يقطنون في ضواحي المدن، حيث تسود البطالة والتهميش، ويعانون من الفراغ وأحياناً من العنصرية والتعنيف. كما يُنظر إلى أماكن سكنهم وكأنها بؤر متطرفة.
وتعوّل فرنسا على المغرب كثيراً في رصد الجالية المغربية في الأراضي الفرنسية، وفي رصد تحركات المقاتلين، سواء داخل المملكة، أو خارجها، خصوصاً في الديار الفرنسية، عبر تقديم المساعدة بتوفير المعلومات الأمنية، بشأن مجاهدين ينطلقون من المغرب في اتجاه دول أوروبية.