مايكل فايس -
(ديلي بيست) 15/11/2015
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
إنهم يأتون من روسيا، وفرنسا -وحتى من نيوجيرسي- لينهوا حياتهم من أجل "الدولة الإسلامية". لكن منشقاً عن "داعش" يكشف أن جواسيس صدام القدامى هم الذين يمسكون بكل فتائل التفجير.
مع كل الانتباه الذي يتجه إلى تنظيم "داعش" الآن، ثمة القليل نسبياً مما هو معروف عن أعماله الداخلية. لكن رجلاً يزعم أنه كان عضواً في أجهزة أمن ما تدعى "الدولة الإسلامية"، تقدم ليعرض هذه الرؤية الداخلية. وترتكز هذه السلسلة على أيام من المقابلات التي أجريتها مع جاسوس "داعش".
* * *
الجواسيس يحبون الدولة الإسلامية
إسطنبول - "المفجر الانتحاري هو مسألة خيار"، قال الرجل الذي سندعوه أبو خالد، وهو يطفئ سيجارة المارلبورو ذي العلبة الحمراء ويشعل واحدة أخرى. "عندما تنضم إلى داعش، يسألون خلال الدروس الدينية: "مَن يريد أن يكون شهيداً؟" ويرفع الناس أيديهم، ويذهبون إلى مجموعة منفصلة".
عدد المجندين آخذ في الانخفاض، كما أخبرني ضابط استخبارات "داعش" والمدرب السابق هنا، على شواطئ البوسفور التركية. ولكن لم يكن ثمة عوَز، في دروس التلقين تلك على الأقل، للشباب الباحثين عن رحلة سريعة إلى الفردوس. "إنهم يستمرون في التطوع"، كما قال أبو خالد.
في العالم العريض خارج "الدولة الإسلامية"، التقطنا إلماعات من حين لآخر لأولئك الشباب المشتعلين حماساً. كان هناك، على سبيل المثال، جيك بيلاردي، الساخط الأسترالي الذي كان عمره 18 عاماً فقط، والذي اختبر انتقالاً سلساً من التشومسكية إلى التكفيرية -إذا حكمنا من المداخلة الإلكترونية التي تركها عندما كان ما يزال في ملبورن- قبل أن يفجر نفسه عند نقطة تفتيش في العراق.
أبو عبد الله الأسترالي، كما كان اسمه عندما ذهب إلى مصرعه في الرمادي، كان مقتنعاً بأنه يقوم بعمل نبيل من التضحية بالنفس، متحولاً إلى كاميكاز من أجل الخلافة. بالنسبة إليه، بدأ الجهاد في الوطن. وكتب عن ذلك: "نقطة التحول في تطوري الإيديولوجي"، ترافقت مع "بداية كراهيتي ومعارضتي الكاملتين لمجمل النظام الذي قامت عليه أستراليا وبقية العالم. وكانت أيضاً تلك اللحظة حين أدركت أن الثورة العالمية العنيفة ضرورية للقضاء على هذا النظام للحكم، وأنني سوف أُقتل على الأرجح في هذا النضال". وكان محقاً بخصوص الجزء الأخير، ولو أنه لم يكن كذلك تماماً بخصوص كيفية تقرير زملائه الثوريين قيمته الاستعمالية.
لأسباب براغماتية، تسامح "داعش" أولاً مع التجانس في صفوف كتائبه، على نحو يشبه كثيراً ما فعله الجمهوريون بألويتهم الدولية خلال الحرب الأهلية الإسبانية. وكانت إحدى أفضل كتائب التنظيم تدريباً قد سميت على اسم أنور العوالقي، رجل القاعدة أميركي المولد الذي قُتل في غارة شنتها طائرة أميركية بلا طيار في اليمن في العام 2011. ويقول أبو خالد: "كل شيء متصل بالإنجليزية في هذه الكتيبة. ولدينا واحدة أخرى فيها الكثيرون من الأميركيين، تُدعى كتيبة أبو محمد الأميركي. وهي مسماة على اسم شخص من نيوجيرسي قتل في كوباني. وتضم هذه الكتيبة الكثير من الأجانب أيضاً".
مع ذلك، تم في الآونة الأخيرة حل الكتائب المميزة عرقياً أو لغوياً، وأعيدت هيكلتها وتحويلها إلى كتائب مختلطة، بسبب العواقب غير المقصودة من ترك الكثير من الناس القادمين من مكان واحد، أو الذين يتحدثون لغة واحدة، متجمعين معاً. وكانت "البتار"، إحدى أقوى الكتائب في جيش "داعش" قد تشكلت من 750 ليبياً. لكن "داعش" وجد أن رجالها كانوا أكثر ولاءً لأميرهم من ولائهم للمنظمة نفسها. وهكذا، جرى تفكيك الكتيبة.
بعد وقت قصير من انضمامه إلى "داعش"، كان أبو خالد ينوي تأسيس كتيبة فرانكفونية من نحو 70 إلى 80 مقاتلاً من الذين لا يتحدثون العربية. وكتب الرجال عريضة ووقعوها، وأخذها أبو خالد إلى مقر "داعش" في الرقة. وتم رفض الطلب. لماذا؟ "قالوا لي: واجهنا مشكلة من قبل مع الليبيين. ونحن لا نريد الفرنسيين في كتيبة واحدة".
المتحدثون بالروسية أيضاً يُعتبرون مثيري شغب ومارقين في "الدولة". ويشار غالباً إلى المقاتلين كافة من القوقاز أو جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق بكلمة جامعة واحدة "الشيشان". وبينما يعد أبو عمر الشيشاني، المقاتل شيشاني العرق من جورجيا، من أكثر القادة الميدانيين في "داعش" شهرة (ومبالغة في زعم المآثر)، فإن "الشيشان" يديرون جماعاتهم الخاصة بالقليل جداً من الإشراف أو القيادة والسيطرة من الرقة. وقد تسبب ذلك في نشوء شعور متصاعد بالاحتراس في أوساط الجهاديين العرب أو الإقليميين. وقال أبو خالد: "كنت في الرقة ذات مرة، وكان هناك خمسة أو ستة شيشانيين. كانوا غاضبين من شيء ما. ولذلك جاؤوا لمقابلة أمير الرقة. كان الأمير خائفاً جداً، وأمر مقاتلي "داعش" بنشر القناصة على أسطح البنايات. ظن أن الشيشان سوف يهاجمون. وبقي القناصة هناك لساعتين".
أفضت النهاية التي بشر بها "داعش" للحدود المصطنعة التي فرضتها القوى الإمبريالية الغربية إلى تداعيات غير مقصودة من الإمبريالية الجهادية. فبعد كل شيء، تتكون قيادة "داعش" في سورية من العراقيين بشكل رئيسي، وإذا كان هناك هدف سياسي -كنقيض للغاية الدينية- يكمن وراء نشاطه التنظيم، فإنه استعاد السلطة السنية في بغداد، ويمكن اعتبار فرع التنظيم في بلاد ما بين الرافدين أكثر "وطنية" من حيث التوجه من فرعه في بلاد الشام؛ حيث يبدو أن المهاجرين المنتشين بـ"نهاية سايكس-بيكو" لا يدركون تعرضهم للاستغلال على يد جلاوزة صدام حسين السابقين.
***
في منظمة أقرب إلى "المخابرات" في الإقليم -أو أجهزة استخبارات الطغاة العرب التقليدية التي يفترض أن "داعش" يريد استئصالها، تتكون أجهزة أمن "داعش" (الأَمنيّات) من أربعة أجهزة أو فروع منفصلة، والتي لكل منها له دوره الخاص.
هناك جهاز "الأمن الداخلي"، وهو بمثابة وزارة داخلية "داعش". وهو مسؤول عن الحفاظ على الأمن في كل مدينة.
وهناك "الأمن العسكري"، أو استخبارات "داعش" العسكرية، ويقوم رجال الاستطلاع والمحللون في هذا الفرع بدراسة مواقع العدو وقدراته القتالية.
ويشكل جهاز "الأمن الخارجي" استخبارات "داعش" الخارجية، ويقوم بإرسال ناشطيه خلف "خطوط العدو" للقيام بأعمال التجسس أو تخطيط وارتكاب العمليات الإرهابية. لكن "خطوط العدو" لا تشير فقط إلى بلدان الغرب ومدنه؛ إن أي منطقة في سورية يسيطر عليها الجيش السوري الحر أو نظام الأسد، بحيث لا تكون بذلك داخل حدود الخلافة من الناحية الفنية، تتطلب إرسال عناصر خارجية من أجل اختراقها.
وهذا شأن حاسم بالنسبة للكيفية التي "تتوسع" بها المنظمة في سورية والعراق –عن طريق إيفاد متسللين لتجنيد العملاء والمخبرين، أو جمع المعلومات عن المجموعات المنافسة، سواء كانت من الميليشيات أو الدول العدوة. وقد أكد أبو خالد مراراً وتكراراً أن قدرات التجسس أكثر من الاقتدار الدفاعي هي التي تجعل "داعش" بالغ القدرة في الاستيلاء على الأراضي والاحتفاظ بها.
ويتفق معه آخرون في ذلك. فقبل بضعة أشهر، نشر كريستوف رويتر من مجلة "ديرشبيغل" تحقيقاً مستنداً إلى وثائق داخلية تم الاستيلاء عليها من "داعش"، والتي تشرح التقسيم الدقيق لما يدعى "الأمنيات" -أجهزة أمن التنظيم. (نشرت "الغد" ترجمة تحقيق رويتر في ذلك الحين).
كتب رويتر: "كان يفترض أن يعمل العملاء مثل أجهزة استشعار الأمواج زلزالية، والذين يتم إرسالهم لتعقب أصغر الشقوق، واكتشاف خطوط الصدع القديمة في داخل طبقات المجتمع العميقة -باختصار، أي معلومات يمكن استخدامها لتقسيم وإخضاع السكان المحليين". من هي عائلات النخبة؟ كيف تكسب أموالها؟ هل بين أبنائها واحد مثليّ الجنس بالسر؟ ما الذي يمكن استخدامه لابتزازها بهدف الخضوع أو الامتثال؟
كانت المؤسسة كلها مقسمة إلى إقطاعيات شبه المستقلة، الموكلة إلى كل منها معمة تعقبما تفعله الأخريات. هناك "دائرة للاستخبارات العامة، ترفع تقاريرها إلى "أمير الأمن" في المنطقة المعنية، المسؤول عن نواب أمير للمقاطعات الفردية. ويقوم رئيس لخلايا التجسس و"مدير لجهاز الاستخبارات والمعلومات" في كل مقاطعة برفع تقاريره إلى واحد من نواب الأمير هؤلاء. وترفع خلايا التجسس على المستوى المحلي تقاريرها إلى نائب أمير المقاطعة. والهدف هو جعل الجميع يراقبون الجميع".
يجلب هذا إلى الذهن بشكل طبيعي طريقة عمل جهاز "كيه. جي. بي" (المخابرات السوفياتية) أو "ستاسي" (استخبارات ألمانيا الشرقية) -وهي بالكاد مصادفة بالنظر إلى أن الكثيرين من كبار مسؤولي "داعش" هم أعضاء سابقون في مخابرات صدام حسين، وبذلك تلاميذ سابقون لأجهزة حلف وارسو الأمنية. وفي الحقيقة، كان الرجل الذي وضع هيكلية فرع "داعش" في العراق، حاجي بكر المتوفى الآن، قد خدم ذات مرة عقيداً في استخبارات الدفاع الجوي في عهد صدام.
أخبرني أبو خالد أن وزارة الرعب التي بناها حاجي بكر ظلت تزدهر فقط منذ ذلك الحين. وقال:
"قبل أسبوع من انشقاقي، كنت أجلس مع رئيس فرع الأمن الخارجي، أبو عبد الرحمن التونسي. إنهم يعرفون نقطة ضعف الجيش السوري الحر. قال لي التونسي: سوف ندرب رجالاً نعرفهم، مُجنِّدين، سوريين... خذهم، درِّبهم، وأعِدهم إلى المكان الذي أتوا منه. سوف نعطيهم 200.000 إلى 300.000 دولار. ولأن معهم نقودا، سوف يضعهم الجيش السوري الحر في مناصب عليا".
"هكذا استولى داعش على سورية"، قال أبو خالد "إن له غراسا في القرى والمناطق التي يديرها الجيش السوري الحر، ورجاله موجودون في الجيش السوري الحر".
بعبارات أخرى: ليس كل حلفاء أميركا المفترضين في سورية هم ما يبدون عليه. بعضهم، وفقاً لأبو خالد، تعرضوا للاستغلال من أناس يعملون سراً مع "داعش" في حقيقة الأمر.
جعلوا أبو خالد عضواً في جهاز "أمن الدولة"، الفرع الرابع من مخابرات "داعش". وهو بمثابة "الشين بيت" الإسرائيلي أو مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي "ف. بي. آي"، والمسؤول عن إدارة عمليات مكافحة التجسس (استئصال الجواسيس الأجانب الذين يعملون للجيش السوري الحر، ونظام الأسد، أو الأجهزة الغربية أو الإقليمية)؛ واعتراض الاتصالات الداخلية (مثل المكالمات الهاتفية أو وصلات الإنترنت غير المرخصة)؛ والمحافظة على برنامج اعتقال المنظمة سيئ السمعة. وكان البريطاني المولد محمد إموازي، الذي لقبه الإعلام باسم "الجهادي جون" بعد عملياته المسجلة لقطع رؤوس الرهائن الغربيين والذي يرجح أن تكون قد قتلته غارة لطائرة أميركية من دون طيار مؤخراً، كان عضواً في "أمن الدولة" أيضاً.
شرح أبو خالد: "عندما يكون أي شخص من أي واحد من هذه الفروع الأربعة في العمل، فإنه يضع على وجهه قناعاً. لكن ولع داعش بجلب الانتباه الإعلامي يكسب أحياناً. لقد تم تأكيد هوية إموازي فقط، كما قال أبو خالد، لأن مخبراً لإحدى الحكومات في الإقليم حصل على صور غير منقحة للبريطاني وهو يركض في أنحاء الرقة من دون قناع، وتم تسليمها إلى لندن".
بينما يتكون العملاء في كل فرع أمنيمن السوريين نمطيّاً، فإن رؤساءهم ليسوا كذلك. لسبب ما، لا يستطيع أبو خالد تفسيره، يغلب أن يكون هؤلاء الرؤساء الأمنيون فلسطينيين من غزة.
مثلما تفعل البيروقراطيات في أي دولة، تتيح الإقليمية في "داعش" صعود الفصائلية والاحتراب الداخلي. "لدينا الجيش والأمنيون"، قال أبو خالد "وهم لا يحبون بعضهم بعضا. عندما كنت أقوم بتدريب الأَمنيين، كان أصدقائي من الجيش يقولون لي، وإذن، أنت تعمل الآن مع الكفار". وابتسم.
كان دور أبو خالد الرئيسي هو تدريب قوات الأمن المحلي للعمل في الخطوط الأمامية في بلدة الباب. وحدث ذلك في معسكر يبعد نحو خمسة كيلومترات إلى الشمال من البلدة؛ حيث كان بروتوكول العمل اليومي كثيفاً. كان الإنهاض يتم في الخامسة والنصف صباحاً. ويتجمع الجهاديون جميعاً للقيام بتمرين مدته ساعة واحدة. وكان أبو خالد يصل إلى الموقع في السابعة صباحاً ويعطي دروساً حتى الظهر. كان يدرِّس تكتيكات المعركة والوعي العملياتي: كيف يتم تأمين محيط ما أو شن غارة؟
ثم يُسمح للمقاتلين بعدئذٍ بالاستراحة لمدة ساعتين قبل استئناف التدريب مرة أخرى. وفي الخامسة والنصف مساءً، يُطلق المقاتلون، وإنما ليس إلى ثكنات في معسكر. "كان الرجال يعودون إلى الأماكن التي ينامون فيها لأن بقاءهم في المعسكر لم يكن آمناً"، كما قال.
***
كانوا يقيمون في مقر إقامة أبو محمد العدناني، الرجل المولود في حلب، وثاني أكثر الرجال سلطة في جيش الإرهاب هذا. وكان العدناني ذات مرة أحد ثقات أبو مصعب الزرقاوي، المؤسس الأردني لتنظيم القاعدة في العراق، سلف "داعش" الأصلي.
والعدناني، العضو الرفيع في مجلس شورى "داعش" -هيئة التنظيم الرئيسية لصنع القرار- مسؤول عن تعيين الوالي لكل واحدة من الولايات الأربع.
كما يُسمي العدناني أيضاً رؤساء الفروع الأربعة للأجهزة الأمنية، وكذلك رئيس هيئة الأركان في إدارة "داعش" العسكرية. وهو شخص زئبقي جداً. "إنني لا أظن حتى أنه يتشاور مع الخليفة بشأن استبدال الناس أو طردهم"، قال أبو خالد. (بدا ذلك مبالغاً فيه: إن مجلس الشورى الذي يرأسه أبو بكر البغدادي، يقوم على الأرجح بتفويض -أو يصادق على الأقل على اختيار الولاة أو عدم اختيارهم). "في كل زيارة، يضع (العدناني) أناساً في السجن، ويطرد آخرين. قبل أن آتي إلى بلدة الباب، عين العدناني هناك والياً من العراق، ورئيساً جديداً للأمن من العراق. الآن ليس لدينا في سورية أي سوريين كولاة. هناك أجانب من السعودية، وتونس والعراق -وإنما ليس سوريين. يجب أن تفتح تونس حقاً سفارتها في الرقة، وليس في دمشق. ذلك هو المكان حيث يوجد مواطنوها".
يقسم العدناني وقته بين الرقة والباب؛ حيث يزعم أبو خالد أنه يعرف كل أماكن إقامته هناك، بما فيها ذلك المقر الذي يستخدمه الجنود الذين دربهم أبو خالد. والعدناني شخص غامض إلى حد كبير، دائماً يتنقل في "سيارة قديمة" مع مرافقة أمنية لا تميل إلى الإعلان عن وجودها.
يقوم قادة "داعش"، كما يقول أبو خالد، بجولات منتظمة في مناطق خلافتهم، حيث يأتون متخفّين فعلياً، ويتفقدون ما إذا كانت "الدولة" تعمل كما ينبغي. وإذا لم تكن الأمور كذلك، فإن الرؤوس ستتدحرج -بالمعنى الحرفي والمجازي.
يقول أبو خالد إنه تقاسم ذات مرة موقعاً أمامياً مع البغدادي نفسه. "ذات مرة، كنا حول مطار كويرس"، الذي قال إنه مخفر أمامي معزول -حتى وقت قريب- لقوات النظام في منطقة "داعش" بالقرب من حلب. "وجاء البغدادي إلى هناك. لم نكن نعلم في ذلك الوقت، -عرفنا فقط بعد أن غادر. بعض الناس رأوه لكنهم لم يعرفوا أنه هو. عندما يتنقل قادة الدولة الإسلامية، فإنهم لا يأتون مع حراسة شخصية رفيعة. إنك حتى لا تعرف أنهم موجودون هناك".
ربما تكون القصة المذكورة صحيحة، أو ربما تكون جزءا من عقيدة عبادة للشخصية يتم تعهدها بعناية، والتي لا يمكن من دونها أن يعيش أي شكل من المُطلقات أو الاستبداد، أو الإدامة الذاتية.
تذكر الحكايات عن هذه الزيارات السرية بتلك التي تروى عن هارون الرشيد؛ الخليفة العباسي الخامس لبغداد عندما كانت في أوجها في القرن الثامن. ومع أن الرشيد كان حقيقياً، فإن صورته لدى الأجيال التالية كانت مستنيرة أكثر بأدواره المتكررة وصورته الأسطورية في حكايات ألف ليلة وليلة.
في بعض الأحيان، بدا أبو خالد أشبه بشهرزاد غير عارفة بشيء، والذي يقوم بتهريب إشاعات وثرثرات منقولة من لسان إلى آخر وأكاذيب عن الخلافة، أكثر من كون ما يصفه أشياء شاهدها بنفسه. ومع ذلك، حتى هذه القصص توفر بعض الضوء، بما أنها تبين العناية التي يسوق بها "داعش" أسطورته الخاصة داخلياً.
ثمة حكاية أخرى عن البغدادي، على سبيل المثال، والتي تبدو بشكل شبه مؤكد فبركة وضعها تقنيون سياسيون أذكياء من أجل نشرها بطريقة متعمدة فيكرمة الجهاديين.
يقال إن البغدادي سافر ذات مرة إلى منبج؛ المدينة الرئيسية الثانية التي يسيطر عليها "داعش" في حلب، حيث تعرض لحادث سيارة. وغضب الرجل الذي ضرب البغدادي سيارته وشرع في الصراخ على الخليفة، الذي لم يكن يعرف هويته، هناك مباشرة في الشارع وأمام المارة.
"سوف آخذك إلى المحكمة!" صرخ الرجل بالبغدادي. وأجابه البغدادي: "هيا، لنذهب". وذهب الرجلان إلى محكمة الشريعة في منبج. وأمام رجل دين قاضٍ تعرف إلى هوية المدعى عليه حتى مع أن المدعي لم يفعل، اعترف البغدادي بأن الاصطدام كان في الحقيقة غلطته. وأمر القاضي الخليفة بدفع غرامة.
"إنهم يقدمون أنفسهم للمحاسبة، مثل أي أحد آخر"، قال لي أبو خالد. "هذا النوع من الأشياء، صدِّقني، هم جيدون جداً فيه".
يعزو أبو خالد الفضل لهذا المفهوم عن "المساواة أمام القانون" باعتباره من الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها برنامج "داعش" الشعبوي. ويقول إنه اختبر ذلك مباشرة وبنفسه.
قال إن جماعة أمن الدولة صادروا ذات مرة جهاز حاسوبه الشخصي، حتى يدققوا في وجود أي علامة على عدم الولاء أو الخيانة. وضاع الجهاز. ذهب ضحية للبيروقراطية الجهادية. "وهكذا، كان علي أن آخذهم إلى المحكمة. أقسم بالله العظيم، القاضي، التقط الهاتف: حسناً، لديكم 24 ساعة. أريد حاسوبه. أو سيكون عليكم تعويضه عن الحاسوب. وإلا سأضعكم في الساحة وأجلدكم أمام الجميع". يمكنك أن تكون لا أحد، وأن تسعى مع ذلك إلى العدالة. هذا أحد الأسباب التي تجعل الناس الذين يكرهون داعش يحترمونهم مع ذلك".
ولكن "داعش"، بطبيعة الحال، لا يقوم بفرض إرادته من خلال الاحترام فقط، كما لاحظ أبو خالد. عندما يفشل هذا النداء، يتحول "داعش" إلى أسلوب مكمِّل للسيطرة على سكانه: الخوف. ثم أخبرني أبو خالد عن القفص.
http://alghad.com/articles/905108