تحظى حرب الأيام الستة 5/11 يونيو بالكثير من الملفات الغريبة على العين و المثيرة للتساؤلات فليس هناك حرب في تاريخ الشرق الأوسط إمتلأت بهذا الكم من العلامات المحيرة أبداً ، لعل السبب الرئيسي أن الحرب كانت تحالفاً إسرائيلياً أمريكياً في الواقع لكن كل طرف له هدف و كل طرف يتصور الآخر عائقاً محتملاً في أي لحظة لإختلاف رؤاهم و أهدافهم.
من أهم ملفات حرب الأيام الستة ملف السفينة ليبرتي و هو ملف -و إن تمت حالياً مراجعته و إعلان كل حقائقه- يظل غامضاً لدينا بالمنطقة العربية و قد حدثني رجل كبير في السن بالأمس ببعض الخرافات من نوعية انها شوشت الاشارات المصرية و أعطت أمر بالانسحاب من سيناء بدلاً من المشير عامر !
لذا وجدت أنه من الواجب أن أذكر طبيعة السفينة و مهمتها ثم أشرح كيفية الاعتداء عليها و ما تم لاحقاً و أسبابه راجياً في هذا أن يكون القارئ العزيز على علم بحقيقة مسئولية جمال عبد الناصر و عبد الحكيم عامر عن هزيمة حرب 1967 و ليست سفينة أعطت أمر ما مزيفاً فهي حتى لو كانت قد فعلتها فالانسحاب كان نتيجة مؤكدة بعد سلسلة العمليات العسكرية التي دمرت مطارات مدنية و عسكرية بسينا و خارجها بشكل جعل الانسحاب و الهزيمة على الارض مسألة وقت ، أرجو من القارئ العزيز فهم هذا جيداً فنحن هُزمنا بقيادتنا و لم نُهزم بخدعة إلكترونية.
و الآن ننتقل للمقال..
*ما هي السفينة ليبرتي؟
كانت السفينة ليبرتي واحدة من سفينتين تمتلكهما البحرية الأمريكية بالتعاون مع وكالة الأمن القومي (N.S.A) -الثانية هي سفينة بويبلو صاحبة الفضيحة الشهيرة حين أسرتها كوريا الشمالية عام 1968- مصنوعة و مدشنة في 23 فبراير 1965 و عملت بالخطوط التجارية بالمحيط الهادئ حتى فبراير 1963 حين إنتقلت للخدمة العسكرية ثم لقبها (الحرية) في 1964 بعد تجهيزها من وكاة الأمن القومي و يقتصر تسليحها على 4 مدافع رشاشة (M2.BROWNING) ، يعمل عليها 179 بحار بصفة أساسية مقسمين بين بحارين و خبراء تصنت و إشارات إذ كانت مهمتها الوحيدة دوماً التصنت و إلتقاط الإشارات و كسر الشفرات و لم يكن فيها أي قسم مخصص للتشويش و لم يكن بها خبراء لإعاقة الاشارات كما هو سائد لدى بعض الناصريين لسبب مجهول ، علمت ليبرتي في وزارة الدفاع بقيادة ضابط دائم كبير الرتبة يقود فريق عمليات من الضباط و كان ربان السفينة في البحر وقتها هو الكوماندور ويليام ماكجونجيل .
*مهمة ليبرتي:
في مايو 1967 كان ليبرتي تقوم بمهمة تجسس قرب نيجيريا -الولايات المتحدة أرسلتها لتتجسس على الحرب الاهلية لصالح متمردي بيافرا ضد الحكومة و لتتابع مسار السلاح الامريكي المهرب للإنفصاليين- و حين أعلن غلق خليج العقبة أرسل للسفينة في يوم 23 مايو أمر بالابحار فوراً لميناء روتا الاسباني لتنتظر تكليف جديد ، و في 29 مايو كانت في ميناء روتا و قد إنضم إليها خبير في الأمن القومي متخصص بحل الشفرات الاسرائيلية إسمه آلان بلو ، و تلقت ليبرتي يوم 2 مايو الامر بالابحار لنقطة بين العريش/القدس لتقترب من خطوط الامداد الرئيسية الاسرائيلية مع بيان تبعتيها في تلك العملية لقيادة الاسطول السادس و بالفعل في حراسة الغواص النووية آندرو جاكسون وصلت لنقطتها المفترضة وسط صمت تام و أمر مباشر بعد فتح الاجهزة إلا ساعة الأمر حتى لا تلتقطها الآذان الاسرائيلية .
كانت مهمة ليبرتي ببساطة مراقبة الاتصالات و الشفرات الاسرائيلية لضمان إمداد واشنطن بالبيانات المحددة لسير العمليات المفترضة و ضمان ألا تمتد إسرائيل لخارج الاطار المتفق عليه -سيناء فقط- و لشكوك الرئيس الامريكي في نية إسرائيل بضم الضفة الغربية التي تطالب بها منذ ما قبل حرب السويس 1956 ، فكانت مهمة ليبرتي التصنت على إسرائيل و إبلاغ الامريكيين بنيتها الحقيقية أثناء العمليات لأن الولايات المتحدة كان هدفها ضرب ناصر و سلاحه السوفيتي بينما كان هدف إسرائيل الأهم ضم الضفة الغربية و القدس فمصر هدف ضروري لكن الأكثر أهمية ضم تلك الضفة الضرورية لأرض إسرائيل و حتى سوريا غير أساسية بالنسبة للخطة فالمهم الضفة لإسرائيل بينما الولايات المتحدة لا توافق على هذا لمصالحها مع الاردن و السعودية و أعطت ضمانات صريحة للملك حسين في منتصف مايو 1967 بعدم المساس بالضفة.
*تدمير ليبرتي:
رصدت ليبرتي الكثير من الإشارات الصريحة من إسرائيل بتوجيه عسكري يشمل تشويش الاتصالات المصرية الاردنية و إرسال لبيانات كاذبة تدفع الاردن للإشتباك مع إسرائيل و كذلك رصدت تجهيزات و أوامر تشمل التقدم للأردن و أرسلت كل شئ تباعاً لواشنطن التي وجدت مخاوفها حقيقية لترسل واشنطن في نهايو يوم 5 يونيو لمدير الموساد ووزير الدفاع ديان شكوكها و تحذر من التعدي على الضفة ، هنا إنتبهت إسرائيل لوجود تسريب و بدأت البحث داخلياً و على السواحل لترصد مساء الخامس من يونيو وجود ليبرتي لأول مرة ، هنا و في نفس الوقت بدأ ماكجونجيل يشعر بالتوتر و القلق على سلامية السفينة المعزولة بعد رحيل الغواصة النووية فأرسل نداء إلى قيادة الاسطول السادس لطلب الحماية إحترازياً لكن قائد الاسطولالمنشغل بالحرب و القلق من تورط يتحمل مسئوليته رفض إرسال أي قطعة بحرية دون أمر من الرئيس مباشرة و طلب من ليبرتي رفع العلامات الامريكية لتكون واضحة !!
بدأ ديان العمل للتخلص من السفينة و أرسل مسبقاً أبا إيبان وزير الخارجية لواشنطن لكي يغطي الأزمة حين تقع ، مع توالي الاشارات من ليبرتي بحشود إسرائيلية تتجه للضفة سارعت الولايات المتحدة في مساء 6 يونيو بإقناع الاردن بإعلان وقف إطلاق النار لتجبر إسرائيل على التسمر مكانها و بالفعل تكرر الاعلان و أقرته الامم المتحدة و أعلنت الولايات المتحدة عن أنه لا شئ يبرر أي عمل عسكري إسرائيلي لكن إسرائيل -بدافع مصالحها- أكملت العمليات و تمددت للضفة لأسباب شكلية تتعلق بموقف مصر التي لم توقف اطلاق النار ، ووسط إعتراضات من مجموعة الحرب الاسرائيلية أصر ديان على الاستمرار فالسفينة تمثل خرق صريح لكل الخطط الاسرائيلية لتبدأ عملية الصيد وسط تحذيرات (N.S.A) الى ليبرتي بأن هناك هجوم وشيك عليها و عليها الابتعاد سريعا عن الشواطئ الاسرائيلية و الاقتراب من الغواصة النووية آندرو جاكسون .
في 8:50 من صباح 8 يونيو طافت طائرة نفاثة اسرائيلية للرصد فوقها .
في 10:56 دارت طائرتين حربيتين إسرائيليتين فوقها للرصد.
في 11:26 عادت الطائرتين بصحبة طائرة ثالثة وداروا عدة دورات حول السفينة و إختفوا لتعلن لبيرتي حالة الطوارئ .
في 13:52 أرسلت السفينة نداء إستغاثة للأسطول السادس بأنها إنكشفت و قد تتعرض لهجوم بين لحظة و أخرى دون رد .
في 13:54 أصيبت ليبرتي بصواريخ ثلاث طائرات ميراج هاجمتها ثلاث مرات.
في 14:24 قوارب طوربيد إسرائيلية تقترب و ليبرتي تعلن هويتها وسط صمت القوارب.
في 14:35 القوارب تقصف ليبرتي و موت مندوب (N.S.A) .
كان مركز الاستطلاع البحري المصري بالكامل يتابع الاحداث و هو لا يفهم أي شئ..كيف تتقاتل سفينة بحرية أمريكية و قطع جوية و بحرية إسرائيلية؟
أما الاسطول الامريكي السادس فقد هرعت حاملة طائراته ساراتوجا لنجدة ليبرتي لكن في منتصف الطريق صدرت الاوامر بعودتها بلا سبب معروف ! !
مع الاعتذارات الاسرائيلية الفورية لأمريكا كانت طائرة هليكوبتر إسرائيلية تحوم حو ل بقايا ليبرتي و البحارة يطلقون الرصاص من أسلحتهم الخاصة عليها بينما هي تلقي ثقل من الرصاص يعرف الطائرة بأنها تقل الملحق العسكري الامريكي و تسأل عن الخسائر ! !
لاحقاً وصلت مدمرة سوفيتية (مذهولة) إلى الموقع و رفض باقي الطاقم ماعدتها خوفاً من دخول السوفييت للسفينة السرية .
*لاحقاً:
عاد الضحايا و القتلى للولايات المتحدة ليهدوا مباراة مؤلمة بين فريقين ، الفريق الأول الجيش الذي عمم عليهم تعليمات بأن لا يدلوا بأي تصريح بخلاف أن الحادث عرضي ! !
الفريق الثاني سيناتورات الولايات المتحدة الذين تباروا في الدفاع عن إسرائيل بإعتبار الحادث غير مقصود و أنهم لم يروا العلامات الامريكية !!
رفض قبطان السفينة كل هذا و في شهادته أصر على أنهم أعلنوا هويتهم و أن الحادث متعمد بينما قال مارشال كارتر مدير (N.S.A) أن الهجوم متعمد من قبل إسرائيل و لا مجال للخطأ و أيده نائبه توريس تورديل الذي وصف الحادث بأنه جريمة هدفها تدمير سفينة تصورت إسرائيل أنها تتجسس عليها.
و إنتهى الأمر بالتراضي و إغلاق الملف !
---------
صوره لإحتجاجات في واشنطن عام 2007 في ذكرى الحادث
إنني من هذه التدوينة أهدف للتالي:
-1- ألا نعلق على ليبرتي بالكذب قرار الانسحاب الذي كان ناتج عن هلع المشير بعد الهزيمة في معركة معركة أبو عجيلة.
-2- فهم كيفية التعامل بين القوى الدولية و حتمية الصدام بين الحلفاء و أنه لا مكان للمشاعر وقت الحرب.
-3- إستيعاب درس ليبرتي لفهم كيفية إدارة الأمور في واشنطن و طبيعة حساسية المسألة الاسرائيلية.
-4- دراسة تأثير اللوبي الاسرائيلي على قرار الكونجرس الذي يتغاضى عن الحادث في مقابل المصالح الامريكية الاسرائيلية بشكل هائل.
كانت تلك قصة ليبرتي.
-----------