ينظر أحمد قذاف الدم إلى المشهد المأساوي الذي ظهر فيه معمر القذافي في سرت مضرجا بالدماء بين أيدي مسلحين غاضبين، بأنه بمثابة عملية الاغتيال التي وقعت بالفعل، بعد سلسلة عمليات فاشلة، حاول فيها خصومه من الداخل والخارج قتله منذ مطلع السبعينات مرورا بالسنوات التالية حتى مقتله في مسقط رأسه في سرت في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 2011. وتعد الواقعة ثاني عملية كبرى تنفذها قوات غربية ضد الرجل بعد القصف المباشر لبيته بمعسكر باب العزيزية، أي مقر الحكم، في طرابلس الغرب، على أيدي قوات أميركية، في عام 1986.
وقبل التطرق إلى تفاصيل عدد من محاولات الاغتيال التي تعرض لها القذافي، لا بد من الإشارة هنا إلى أن أحمد قذاف الدم سيتطرق، في هذه الحلقة العاشرة والأخيرة في روايته لذكرياته لـ«الشرق الأوسط»، إلى ملابسات خروجه من ليبيا بعد 3 أيام فقط من اندلاع الانتفاضة المسلحة في البلاد في 17 فبراير (شباط) 2011، وتلقيه عرضا، من وفد من الاتحاد الأوروبي زاره في بيته بالقاهرة، من أجل أن يترأس المجلس الانتقالي الذي تشكل بعد ذلك بأيام في بنغازي، برئاسة مصطفى عبد الجليل، وغيرها من التفاصيل، بما فيها أسلوب القذافي في إدارة الدولة وعدم التزامه بـ«التراتب الوظيفي أو ما يعرف بالتسلسل القيادي»، وعلاقته بالشعر والسينما.
يكشف قذاف الدم لـ«الشرق الأوسط» في هذه الحلقة، العاشرة والأخيرة عن «الضغوط الكثيرة والمضايقات» التي تعرض لها هو نفسه من قِبل بعض أعضاء القيادة. ويقول إن محاولات اغتيال القذافي أخذت أشكالا مختلفة، ففي البداية كانت تستهدفه في الطرق العامة، لأنه في سنوات الحكم الأولى كان يفضل التجول بسيارته في الشوارع دون حراسة، ثم استهدفته في بعض الاحتفالات، وأحيانا كانت تستهدف موكبه، وكانت هناك محاولة لضرب طائرته في الجو، كما أن عدة أحداث بشأن استهداف القذافي كان يجري الإعلان عنها في وسائل الإعلام دون أن تكون حقيقية، و«كنا نسمع عنها من الإذاعات، ونسخر مما يتردد حولها».
ويضيف موضحا: الأخ معمر تعرض لعدة محاولات اغتيال منذ بداية الثورة في 1969.. كان ذلك في طرابلس، لكن المحاولة جرى إجهاضها في حينه، عندما أبلغ بها بعض الليبيين السلطات. في ذلك الوقت، تقريبا في سنة 1970، كان معمر يتجول بسيارته وحيدا في شوارع المدينة، وأحيانا كان ينزل ويتمشى في الطريق، ورأى بعض العملاء ممن تساعدهم المخابرات الأجنبية أنه هدف سهل. كان المكلفون بتنفيذ عملية إطلاق النار على القذافي فريق يتكون من رجل فرنسي مع عدد من الإيطاليين وبعض الليبيين. وجرى القبض على عدد من أعضاء هذه المجموعة، بينما هرب عدد آخر من ليبيا. وكانت تقف وراء العملية استخبارات عالمية وليست دولة بعينها.
وحدثت محاولات عديدة غيرها، ويتذكر قذاف الدم قائلا: «في إحدى المرات زرع بعض العملاء ألغاما في طريق سيارات معمر حين كانت متوجهة به لحضور إحدى المناسبات، وتصادف أن قام الحرس بتبديل الطريق، وجرت محاولة أخرى في حفل شعبي حضره القذافي في منطقة براك الشاطئ جنوب العاصمة طرابلس عام 1996». ويقول قذاف الدم: «كان وراء هذه العملية المخابرات البريطانية في التسعينات وكانت أثناء الحظر الدولي على ليبيا وكان وراءها عميل للمخابرات البريطانية، فرَّ إلى فرنسا بعد العملية، حيث اعترف بقيامه بتجنيد بعض الليبيين وإعطائهم بعض الأموال لكي يغتالوا معمر، وألقيت قنبلة يدوية، على القذافي وسط الحفل وبين الجماهير، فسقطت وتدحرجت حتى استقرت بين قدميه، وهنا ضربها برجله بعيدا عنه وعن الجمهور، ولحسن الحظ أنها لم تنفجر، ولم تصب أحدا».
وينظر قذاف الدم إلى الهجوم الأميركي على بيت القذافي في باب العزيزية، الذي جرى الحديث عنه في حلقة سابقة هنا، على أنه من ضمن محاولات الاغتيال، لكنه يكشف أيضا عما قال إنها «محاولة قام بها الأميركيون لإسقاط طائرة معمر ومرافقيه وهو عائد من زيارة ليوغوسلافيا، فوق الأجواء الإيطالية في الثمانينات.. أخطأوا طائرته، وضربوا طائرة ركاب أخرى كانت تسير في نفس الخط، وأعتقد كانت تسير أيضا في نفس التوقيت، لأننا كنا قد غيرنا خط سيرنا بناء على معلومات استخباراتية».
ويضيف أنه «كانت هناك بعض القوى من العملاء الليبيين التي تعمل مع المخابرات الأميركية أو البريطانية أو الفرنسية، ممن كانوا يقدمون وعودا لتلك الأجهزة بأنهم قادرون على تنفيذ عمليات ضد القذافي، وعندما لا يستطيعون فعل ذلك، يعلنون أنهم أجروا محاولات هنا وهناك إلا أنها لم تنجح. كان هذا بسبب ضغوطات غربية عليهم فيعلنون عن القيام بأعمال وهمية.. وفي كثير من المرات أكون مع الأخ معمر ونسمع في وسائل الإعلام أنه كانت هناك محاولة اغتيال له أثناء مروره من المكان الفلاني، بينما نحن لم نمر أصلا من المكان المذكور والذي أعلن عن وقوع محاولة اغتيال فيه». ويضرب قذاف الدم مثلا بعملية باب العزيزية الشهيرة التي جرت وقائعها في منتصف ثمانينات القرن الماضي، قائلا إنه رغم تسميتها بهذا الاسم و«إيهام الرأي العام أنها وقعت في معسكر باب العزيزية حيث يقيم القذافي، فإن الحقيقة غير ذلك تماما».
ويوضح قائلا عن منفذي العملية: «هؤلاء مجموعة جندت في الولايات المتحدة الأميركية، وأرسلت للسودان للتدرب هناك تحت عين المخابرات الأميركية في عهد الرئيس نميري، وتسللوا لليبيا بدعم من المخابرات الفرنسية عبر الحدود التونسية.. وعندما وصلوا لطرابلس لم يتمكنوا من القيام بأي عمل، وجاء اثنان منهم وأبلغا السلطات الليبية، وجرى مداهمة الشقة التي كانت تختبئ فيها تلك المجموعة التي كان عددها يتراوح بين 10 و12 شخصا، وكان مقر الشقة بعيدا عن باب العزيزية بكيلومترات»، وأنه «عندما جاءت الشرطة لمداهمة الشقة، جرى تبادل لإطلاق النار، وقتل البعض منهم في هذه العملية، كما جرى القبض على البعض الآخر بينما تمكن اثنان منهم من الفرار».
ولم يكن القذافي بشكل عام يهتم بمتابعة الصحف والمصادر الإخبارية العامة بشكل مباشر إلا فيما ندر. ويقول قذاف الدم إن اطلاع «الأخ معمر» على الأخبار كان يقتصر على ما يرد من المكتب الإعلامي للقيادة.. أما بالنسبة للراديو فكان يستمع أحيانا إلى إذاعة «بي بي سي». ومع ذلك.. «كان معمر دائما ما يعلق على الإذاعات الأجنبية بقوله لنا إنها تتبع المخابرات الغربية، والمستمع إليها لا بد أن يكون حذرا، رغم أنه كان يقول لنا أيضا إن لدى تلك الإذاعات مصداقية كبيرة في نقل الأخبار من خلال ما لديهم من مهنية واحترافية».
ويضيف أنه لهذا السبب كان القذافي يطالب باستقطاب العناصر العربية التي تعمل في المحطات الأجنبية، سواء إذاعة أو تلفزيون، على أساس أنها «عقول عربية لا يجب أن تخدم في الطرف الآخر». ويتابع قائلا إن.. «الأخ معمر لم يكن لديه قنوات تلفزيونية معينة يهتم بمتابعتها.. كان يمر على القنوات بشكل عام، دون أن يتوقف عند قناة محددة. إذا جذبته قناة يتوقف عندها، وإذا لم تعجبه يتجاوزها إلى قناة أخرى». ويضيف أن الرجل «كان يحب شعر الفصحى والشعر البدوي كثيرا، ويهتم بالتراث العربي، ولم يكن له مطرب معين يحب الاستماع له.. أي أنه لم يكن من هذا النوع من الشخصيات»، مشيرا إلى أن القذافي استمتع كثيرا بما سمعه من الشعر البدوي خلال الرحلة البرية التي قام بها في سنة 2000 إلى الأردن وسوريا وغيرها، عبر شبه جزيرة سيناء.
لكن القذافي كان له موقف معاد للموسيقى الغربية بدأ منذ ثمانينات القرن الماضي، حين اتجه قطاع من الفنانين الشباب في بلاده لاستلهام أعمال غنائية من أميركا وأوروبا، بالإضافة إلى أعمال مصرية كانت قد تأثرت أيضا بتجارب مطربين غربيين وملأت القاهرة وعدة عواصم عربية حينها. ورد معمر باتخاذه إجراءات صارمة ضد الآلات الغربية التي كانت قد بدأت تنتشر بين الليبيين.
ويعلق قذاف الدم على هذا قائلا: «معمر كان يشمئز من الموسيقى الغربية حين تدخل في تراثنا، وهو منع آلة الغيتار، وغيرها من الآلات الغربية، وقال عنها إنها أدوات لتغريب شبابنا، وكانت هناك دعوة لتحطيم الآلات الموسيقية الأجنبية حين غزت ليبيا في الثمانينات. وهو حاول أن يوقف هذه الموجة، وهاجم هذه الموسيقى وهذه الآلات».
ومع أنه كان وراء إنتاج فيلم «عمر المختار» الشهير الذي قام ببطولته أنتوني كوين، وأخرجه المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد، فإن القذافي لم يكن لديه اهتمام بمشاهدة الأفلام بشكل عام.
ويقول قذاف الدم: «نعم.. لم يكن معمر مهتما بمشاهدة الأفلام التي تعرض في التلفزيون أو السينما، رغم أنه كان حريصا على أن تتولى ليبيا إنتاج مجموعة من الأفلام السينمائية الهادفة، كفيلم (الرسالة) وفيلم (عمر المختار)، وغيرها، كما كان يُعد لإنتاج فيلم آخر يتحدث عن معاناة الليبيين أثناء الحرب مع إيطاليا في النصف الأول من القرن الماضي، وكان يفترض أن يخرج الفيلم المخرج السوري نجدت أنزور، المتمكن في الأفلام التاريخية، وكانت القصة من تأليف معمر نفسه، إلا أن هذا العمل توقف نتيجة لاعتذار إيطاليا لليبيا عن فترة الاحتلال وتقديمها تعويضا لليبيين في عهد رئيس الوزراء الإيطالي، سلفيو برلسكوني».
وعن مدة عمله إلى جوار القذافي، يقول قذاف الدم إنه تعرض لضغوط كثيرة وبعض المضايقات من قبل بعض أعضاء القيادة المحيطين بمعمر. ويوضح: «أحيانا تقع خلافات لأنه، في بعض الظروف، لا يروق لهم ما أقوم به من مهام خاصة بتكليف مباشر من الأخ معمر، فتعرضت لكثير من المضايقات، وحين يحدث ذلك فبالتأكيد أنا أدفع الثمن، وحدث هذا أكثر من مرة، وذلك بنقلي بقرارات من معمر، في أماكن بعيدة، خاصة في فترة عملي بالقوات المسلحة، مرة إلى طبرق، وأخرى إلى البيضاء، ومرة إلى الجنوب».
ويتابع موضحا: «أيضا كان هناك بعض الحساسيات الطبيعية.. الأخ معمر لم يكن يأخذ بالتراتبية في التعامل مع الأشخاص. فأحيانا يأتي بشخص مغمور، من آخر نقطة في ليبيا، ويجلس معه ويسمعه ويناقشه. حدث هذا على كافة المستويات.. ولم يكن يتلقى التقارير من جهاز المخابرات فقط أو أجهزة الدولة فقط».
وأين كان أحمد قذاف الدم يوم 17 فبراير 2011، وهو يوم انطلاق الانتفاضة التي تحولت سريعا لأعمال مسلحة ضد حكم القذافي؟ يجيب قائلا: «كنت في طرابلس». حسنا. وهل توقعت أن هذا اليوم سيكون بداية مماثلة لما جرى في تونس ومصر من أحداث أطاحت بالرئيسين بن علي ومبارك؟ يصمت قليلا ويجيب: «لا.. كنا نرى أنه من الطبيعي أن يخرج بعض الناس.. بعض الشباب.. هذا جيل جديد له حلمه ومطالبه، ولو ترك الأمر هكذا بين الليبيين، لانتهت القصة، وحتى لو أسقطوا معمر القذافي لكان هذا حقهم. من حق الليبيين الخروج ضد معمر وإسقاطه، لكن الخلاف كان حول الاستعانة بالقوى الأجنبية».
وتطرق في هذا الصدد إلى العديد من الأحداث التي قال إنها تبرهن على النية المبيتة للتدخل الأجنبي مبكرا في ليبيا، سواء من خلال نزول عناصر إنجليزية قبل يوم 20 فبراير إلى ميناء بنغازي، أو الاتصالات التي جرت مع السفير الأميركي ودخوله بواسطة زوارق إلى بنغازي أيضا، إضافة إلى تدفق مجموعات من أفغانستان عبر الحدود البرية، بالتزامن مع التحرك القطري، وكذا رسو البارجة الفرنسية قبالة سواحل بنغازي، واجتماع الجامعة العربية ومنعها للمندوب الليبي من المشاركة في الاجتماع، ودعوة الجامعة للعالم بالتدخل في ليبيا، حتى قبل أن ترسل لجنة تقصي حقائق لمعرفة ما يجري على الأرض، ثم يأتي قرار مجلس الأمن ويقوم الحلف الأطلسي بقصف ليبيا ومعسكرات الجيش، رغم أن القرار ينص فقط على حماية المدنيين.
ويضيف: «نحن فوجئنا بالمجموعات التي تحمل أسلحة وتهاجم معسكرات القوات المسلحة وتزحف (من بنغازي إلى الغرب) ناحية حقول النفط في مناطق البريقة وراس لانوف، وتهاجم بعض القرى، مما اضطر القوات المسلحة الليبية لأن تستنكر هذه العمليات وأن تأتي لمواجهتها، رغم أن عددا ممن قفزوا من السفينة وانشقوا وانضموا إلى المسلحين، كانوا يعارضون أي اتجاه للوقوف ضد أولئك المسلحين. حدث ذلك في اجتماع حضره عدد من الوزراء كان من بينهم وزير العدل، عبد الجليل، الذي انشق وتولى رئاسة المجلس الانتقالي».
ويزيد قائلا إن التعليمات التي أصدرها معمر القذافي لهؤلاء الوزراء، وهو ما أقر به أحدهم علانية فيما بعد.. «كانت تنص على عدم مواجهة الناس، وقال لهم هذا بلد الليبيين وهم أحرار إذا أرادوا أن يحرقوها فليحرقوها.. السلطة عند الناس، ويفعلون فيها ما يريدون»، لكن قذاف الدم يضيف موضحا أن أحدا «لم يكن يتوقع أن الناس تتجرأ على المعسكرات أو أن تهاجمها أو تأخذ منها الأسلحة. ثم تدفق كميات ضخمة من الأعلام التابعة للنظام القديم التي تعود لمرحلة ما قبل 1969.. ثم الحملة الإعلامية المصاحبة لهذا العمل والحرب النفسية التي شنت على ليبيا.. كان العمل مبرمجا سلفا وكان التدخل الغربي لتخريب ليبيا معدا مسبقا».
ويقول قذاف الدم إنه قابل القذافي في أول يوم من تفجر الأحداث.. «ذهبت له منذ اليوم الأول.. يوم 17 فبراير. كان يستقبل وفودا من كل القبائل الليبية من الجنوب والغرب والشرق.. يتقدمون بمبايعة للأخ العقيد، وما كان أحد يتوقع أن تذهب الأمور بهذا الشكل الذي ذهبت إليه.. ومعمر إنسان جماهيري وشعبي، وكان يمكن للمشكلة أن تنتهي في المهد. وجرى إرسال وفود للتفاوض مع هؤلاء (المسلحين) ومعرفة ما يجري، لكن الأحداث كان فيها إصرار على تسريع وتيرة العمل لإرباك المشهد الليبي ولجرنا إلى مواجهة مع الغرب.. وقد يكون لي هنا، في هذه المرحلة، أن أقول إنه ما كان لنا أن ننجر لها».
وفيما يتعلق بملابسات خطاب معمر القذافي الذي ظهر فيه، في الليل، في بدية أحداث فبراير، يوضح قذاف الدم قائلا إن معمر في ذلك اليوم جرى استفزازه.. وذلك حين ظهر وزير خارجية بريطانيا، الدولة العظمى، وأعلن أن معمر هرب إلى فنزويلا. كان ذلك ضمن حملة الحرب النفسية الغربية على الليبيين. وأنت تعرف بالطبع أن رجلا مثل القذافي يستفز كثيرا حين يقال عنه إنه هرب. وبدأ يستشعر أن الغرب بدأ يدخل على الخط بشكل مباشر.. وتساءل: هل لا يعرف وزير خارجية بريطانيا أن طائرة لم تخرج من ليبيا إلى فنزويلا.. هو وزير خارجية بريطانيا، ويعلم أن هذا غير صحيح، لكنه شارك في هذه الحرب النفسية».
وعن قول القذافي في خطابه للجماهير «من أنتم؟»، يعلق قذاف الدم بقوله إن كلامه كان موجها لدولة قطر.. «كان حديثه موجها لقطر وقال لها من أنتم.. وستندمون يوم لا ينفع الندم. أنا أعلم أن هذا كان يقصد به قطر وليس الليبيين كما أشيع حينها، لأنه في ذلك الوقت بدأت قناة (الجزيرة) القطرية تشارك في هذه الحرب، وبدأت الأمور تأخذ ملامح أخرى خارجية وليست محلية. وأصبح هناك إحساس بأنه، بحكم المعلومات والخلفية التي لديه، ومعرفته بما قد يجري، أراد أن يستنهض الليبيين وأراد أن يستفزهم ضد التدخل الخارجي، وتحول الموضوع سريعا أمام القذافي بأن هناك مجموعة من العملاء يريدون أن يمهدوا لعمل تخريبي غربي في ليبيا، وأراد أن يقطع الطريق على هؤلاء».
ويؤكد قذاف الدم أن الخطابات التي كان يلقيها القذافي كان يتولاها بنفسه، ولم يكن أحد يكتب له هذه الخطابات بما فيها الخطاب المثير للجدل الذي ألقاه معمر في الأمم المتحدة، وما جاء بعدها من سلسلة خطابات أثناء الانتفاضة المسلحة بعد ذلك. ويقول إن «الأخ معمر كان يحرص على أن يتكلم مع الناس بعفوية ووضوح، وفعل هذا حتى في القمم والاجتماعات. ونقول عن معمر إنه (حافظ درسه) أي يعرف ما يريد أن يقوله.. رجل صاحب قضية، وملتزم بها، وبالتالي لم يكن يرى أن هناك حاجة لكلمات مكتوبة مسبقة. لم يكن دبلوماسيا حتى يتملق أحدا كما قد يفعل بعض الدبلوماسيين عادة».
وحين تفجرت الانتفاضة المسلحة كان القذافي يقيم مع أسرته في باب العزيزية بطرابلس. وعما إذا كان قد استشعر أن هناك آراء من أقاربه أو أولاده بأنه أصبح يوجد خطر على وجود القذافي هناك، يقول قذاف الدم: لا.. لا أحد يتدخل في قرارات معمر التي تخص الدولة. رغم كل شيء كان يتصرف مع شؤون الدولة بمعزل عن العائلة.. لم أر أي خلط بين هذا وذاك، وكان الأقرب إليه هم العسكريون، مثل أبو بكر جابر يونس طبعا (وزير الدفاع)، وباقي القيادات؛ كلٌ في مجاله.
وظل قذاف الدم في طرابلس حتى يوم 19 فبراير، أي حتى اليوم الثالث من الأحداث، ثم غادر البلاد ولم يرجع إليها مرة أخرى، فهل خرج بترتيب معين، أم من أجل تصحيح الصورة في الخارج مثلا؟
يجيب الرجل قائلا: «لا.. ليبيا كانت قوية حينها، ولم يكن هناك أي حاجة لطلب عون من الخارج.. لكن عندما تدخل الناتو وقرر قصف ليبيا، فأنا هنا أصبح جنديا لبلدي ولمعمر. تدخُل الناتو كان قائما بشكل عملي قبل أن يعلن عن تدخله بشكل رسمي.. الفرنسيون كانوا قد رسوا على شواطئ بنغازي، وكانت هناك 4 أساطيل غربية أخرى.. الطائرات الحربية كانت تحوم، وطائرات الاستطلاع في السماء، و17 من الأقمار الصناعية مسلطة على ليبيا.. وجرى قصف البلاد بـ30 ألف غارة، إضافة للضرب بالصواريخ من البحر، إلى جانب مشاركة الطائرات الإسرائيلية في عمليات الاستطلاع على ليبيا مع حلف الناتو.. هذا إضافة إلى مشاركة آلاف مؤلفة من الجنود الإيطاليين والفرنسيين والأميركيين والقطريين في الحرب على ليبيا.
ولا يحبذ قذاف الدم الخوض في التفاصيل الخاصة بخروجه من ليبيا في ذلك الوقت، ويكتفي بالقول إنه «كانت هناك خلافات خاصة. في البداية.. اختلفنا على طريقة المعالجة.. كان لدي رأي مختلف وفضلت أن أبتعد حتى لا أكون (سببا في أي مشاكل).. إلا أنه حين بدأت الأمور تأخذ منحى آخر، بالتدخل الأجنبي، طبعا أنا جندي لبلادي، وحتى لو لم يكن معمر موجودا، لكنت سأتخذ نفس الموقف دفاعا عن بلدي. هذه مسألة وطنية».
وتزامن مع خروج قذاف الدم من ليبيا أقاويل منها أنه هرب لسوريا ثم لمصر، وقيل أيضا إنه يرتب لجيش من القبائل لدخول ليبيا من ناحية الشرق. لكنه يجيب موضحا أن كل ذلك كان.. «مجرد أقاويل وجزء من الحرب الإعلامية.. معمر لم يكن في حاجة إلى رجال، حتى نأتي بجيش من الخارج.. معمر حتى هذه الساعة لديه من الرجال، ومن المقاتلين العسكريين، ورجال القبائل، ما يكفي.. وقاتل معه الليبيون والليبيات 8 أشهر ضد 40 دولة، وهذه ملحمة بطولية سيقف التاريخ أمامها طويلا».
ومع أنه انتقل إلى خارج ليبيا بسبب «رأيه المختلف في معالجة الأزمة»، إلا أن قذاف الدم، وبعد تدخل حلف الناتو، بدأ اتصالاته مع العالم، بحكم علاقاته مع الدول الغربية، ويقول إنه فعل ذلك «بعد أن بدأت ملامح المؤامرة تتضح.. وتواصلت أيضا مع إخواننا في بنغازي؛ بعض الشباب وبعض الشخصيات التي كنت أعرفها. وحاولنا أن نجد حلولا ومخارج لهذه القصة، لكن للأسف غُلبوا على أمرهم، واختطفت أحلام شبابنا وتطلعاتهم، ودخلنا في هذا المنزلق الذي نعاني منه حتى هذه الساعة». وفي ظل تلك المعمعة، جاءت وفود أجنبية سريعا لمقابلته وعرضت عليه رئاسة المجلس الانتقالي، وهو المجلس الذي ترأسه بعد ذلك مصطفى عبد الجليل.
ويعود قذاف الدم إلى تلك الأيام، ويتذكر قائلا: «جاءت إلي بعض الوفود الغربية هنا، في بيتي بالقاهرة.. جاءت من أوروبا، ودعتني لمقابلة بعض الرؤساء في أوروبا، لكنني رفضت، وقلت لهم نحن لا نقبل التدخل الأجنبي في بلادنا، وأن هذه مسألة ليبية بحتة اتفقنا أو اختلفنا، مع معمر القذافي».
وبينما كانت شاشات التلفزيون تنقل الاشتباكات المسلحة والفوضى الجارية في بداية الانتفاضة، جلس مندوب من الاتحاد الأوروبي في بهو منزل قذاف الدم بالعاصمة المصرية، فسأله: ماذا تشرب؟ فطلب فنجانا من القهوة. وحين شعر المندوب برفض قذاف الدم للمقترحات التي يقدمها له، سواء برئاسة المجلس الانتقالي أو السفر لـ«التفاهم مع عدد من قادة الاتحاد الأوروبي»، قال له: «رفضك هذا، يا سيد أحمد، سينتهي بك في المحكمة الجنائية الدولية». ويقول قذاف الدم إنه شعر بالاستفزاز من مندوب الاتحاد الأوروبي، فقام بطرده من بيته، دون أن يكون قد شرب أي رشفة من فنجان القهوة. وبعد عدة أسابيع طلب مسؤول من الاتحاد الأوروبي أيضا مقابلته، لكنه كان أعلى رتبة من المندوب السابق، وحضر بالفعل إلى منزل قذاف الدم، واعتذر عما بدر من سلفه، وقال إنه حدث سوء فهم بشأن المحكمة الجنائية وأنه لم يقصد توجيه تهديد من أي نوع. ويضيف أنه فهم من خلال كل الاتصالات والمحادثات أن «الغرب كان مصرا، في البداية، على أن يغادر معمر القذافي ليبيا، وبعدها طلبوا أن يستسلم، وكما قلت لك اقترحت مجموعة من الحلول أو المشروعات لإيجاد حل في ليبيا، لكن الغرب كان مصرا على أن يذعن معمر القذافي أو أن يستسلم، ومعمر رفض، وقرر ألا يستسلم، وألا يترك ليبيا، وأن يموت فيها، وهذا قدره».
وظل قذاف الدم على تواصل مع القذافي في أحلك الظروف. ويقول عن ملابسات مغادرته باب العزيزية في طرابلس إلى مدينة سرت، إن «معمر فضَّل أن يغادر طرابلس حين رأى أن الغرب مصر على الاستمرار في الغارات والدمار، وطلب من القيادات الليبية العسكرية والشعبية أن تخرج من العاصمة، لأن قصف الناتو لن يتوقف طالما نحن في المدينة.. وقال معمر إن أهل طرابلس خرجوا عن بكرة أبيهم في شهر يوليو (تموز) 2011، يهتفون لنا ووقفوا معنا، وبعد كل هذا لا يجب أن نكون سببا في مزيد من الدمار، خاصة ما يخص المطارات ومحطات الكهرباء والمصرف المركزي.. وقال أيضا: يجب الحفاظ على طرابلس كعاصمة حتى لا تنهار الدولة.. كان الأمر واضحا بالنسبة له، وهو أن الغرب مصر على مطاردته وقتله، وأراد أن يستشهد في مسقط رأسه في سرت».
ويشير قذاف الدم إلى أن عملية خروج القذافي من طرابلس إلى سرت جرت وفقا لخطة عسكرية محكمة. ويقول إن القذافي طلب من وزير دفاعه، أبو بكر يونس، الرحيل عن ليبيا، وعدم مرافقته إلى سرت، و.. «تلقيت أنا اتصالات وطُلب مني، بناء على تعليمات الأخ معمر، التواصل مع الإخوة في مصر وفي الجزائر وفي تشاد وغيرها، لاستقبال وزير الدفاع لدى خروجه من ليبيا، لكن فوجئنا به يذهب إلى سرت بعائلته وأولاده.. وقال لن أغادر ليبيا، وسأستشهد مع أخي معمر. وهذا ما حدث. واستشهد بالفعل يوم معركة سرت مع القذافي. هذا وفاء نادر سيظل محفورا في تاريخ ليبيا».