يكشف أحمد قذاف الدم في هذه الحلقة، ضمن حديثه مع «الشرق الأوسط»، عن ملابسات تسليم ليبيا برنامجها النووي عام 2003 وتوقف بلاده عن برنامجها لصناعة الصواريخ العابرة للقارات، التي قال إنها كانت وصلت فيها إلى مراحل متقدمة، ويُرجع سبب كل ذلك للغرب «الذي كان يجهز لمؤامرة كبيرة ضد ليبيا»، ويكشف أيضا عن أن بلاده لم تسدد مستحقات ضحايا تفجير طائرة لوكيربي بالكامل حتى الآن، وأنها توقفت عن سداد الدفعة الثالثة لأسباب قانونية بعد تسليم الدفعة الأولى وجزء من الدفعة الثانية.
وبينما كانت بلاده تستقبل القرار الدولي بالحظر عام 1992، تسببت طائرة ياسر عرفات التي سقطت بالصحراء الليبية في ذلك الوقت، في زيارة الطين بلة.. فليبيا تعهدت للغرب بغلق معسكرات التدريب الفلسطينية، لكن عرفات بعد أن نجا من الحادثة «فضح كل شيء»، حين قال أمام وسائل الإعلام إن معسكرا فلسطينيا بجنوب ليبيا شارك في إنقاذه.. ويؤكد قذاف الدم أن القذافي كان مستَفَزا من الحصار الدولي، لكنه كان «يزداد حيوية ونشاطا وطاقة، في حالة وجود نوع من التحدي».
يقول إن قضية لوكيربي كانت مزورة وملفقة من أساسها، وتأتي في إطار محاولات محمومة لجر ليبيا إلى مواجهات تهدف إلى إسقاط النظام.. «نعم، لدينا صراع مع الغرب ولدينا عداء مع الغرب، لكن حتى هذه الساعة ثبت أنه لا علاقة لنا بـ(لوكيربي)».
لكن، لماذا دفعت ليبيا تعويضات لأسر الضحايا ما دامت متأكدة أنها لم تكن ضالعة في العملية؟ يجيب قذاف الدم عن هذا السؤال قائلا إن التعويضات جزء من الحرب.. وكذلك «الحوار والتفاوض جزء من الحرب أيضا. ليبيا وقعت تحت ضغوط كبيرة اقتصادية.. حصار وحظر ساهم فيه حتى بعض إخواننا العرب. وكان لا بد أن نجد مخارج سياسية لمواجهة لا نستطيع أن نقوم بها عسكريا. ومن ثم، حين جرى طرح حل ليكون مخرجا لهذه القصة وافقنا عليه، وكان يقضي بموضوع التعويضات في حال الإدانة».
ويضيف موضحا: «لعلك تفاجأ إذا قلت لك إننا لم ندفع المبلغ كله، لأنهم لم يلتزموا بعض البنود، ومن ثم توقفنا عن عملية الدفع بعد أن مضت المدة الزمنية، وسددنا دفعة أو دفعتين.. وفرضنا إتاوات على الشركات الأميركية المعنية بالقضية لإرجاع ضعف المبلغ إلى ليبيا، ومن ثم ما قدمناه باليد اليمنى نأخذه باليد اليسرى. وما دفع أقل من المبلغ المعلن، لأنه كانت هناك جدولة للدفع لم تجرِ، لأنهم لم يلتزموا الوقت المحدد». ويشير إلى أن موضوع الخلاف على سداد المبلغ «بدأ منذ بداية الاتفاقية. هذا جانب.. أما الجانب الآخر، فيتعلق بقيامنا بفرض إتاوات على الشركات الأميركية.. إذا أرادت أن تعمل في ليبيا، فعليها أن تسدد ما عليها من إتاوات، وهذه الإتاوات ضعف المبلغ الذي دفعناه، على أن يجري إغلاق الملفات كافة بيننا وبين بريطانيا وفرنسا وأميركا في قضيتي طائرة الـ(يو تي إيه) الفرنسية، وقضية لوكيربي. وانتهى هذا الملف وقفل نهائيا».
وتعود قضية الطائرة الفرنسية إلى عام 1989 حين انفجرت وسقطت في النيجر، أثناء رحلتها بين برازافيل وباريس عبر أنجمينا، مما أسفر عن مقتل 170، بينهم 54 فرنسيا. أما قضية لوكيربي، فتخص انفجار وسقوط طائرة ركاب أميركية أثناء تحليقها فوق قرية لوكيربي باسكوتلندا عام 1988، مما أدى إلى مقتل 259 هم جميع من كان على الطائرة و11 من سكان القرية التي سقطت فوقها.
وكان الاتفاق يقضي، وفقا لما جرى نشره في ذلك الوقت، بأن تدفع ليبيا 4 ملايين دولار لعائلة كل ضحية بعد رفع العقوبات المفروضة عليها منذ 1992، ثم تقوم بدفع 4 ملايين لعائلة كل ضحية بعد رفع العقوبات الثنائية التي فرضتها واشنطن على ليبيا عام 1986. كما تدفع مليوني دولار لعائلة كل ضحية بعد رفع اسم ليبيا من قائمة وزارة الخارجية الأميركية الخاصة بالدول التي تساند الإرهاب. ويبلغ إجمالي المبلغ نحو 2.7 مليار دولار، بخلاف التعويضات الخاصة بالطائرة الفرنسية.
وعن أسباب الاتهامات الغربية المتكررة لليبيين بالوقوف وراء تفجيرات وأعمال من هذا النوع، منها الاتهام بالوقوف وراء تفجير ملهى ليلي في برلين الغربية عام 1986؟ يقول قذاف الدم إن هذه الاتهامات تعود إلى «الصراع بيننا وبين الغرب الذي بدأ منذ طرد القواعد الأجنبية من ليبيا بعد ثورة 1969. وخسارة الغرب ليبيا كمجال عسكري، كما أن ليبيا ذات موقع مهم ومغرٍ، ولديها إمكانات هائلة، وكان لا بد أن يعودوا إليها بأي ثمن»، خاصة أن «مبادرات القذافي بشأن أفريقيا كانت دائما مقلقة للغرب إلى حد كبير، لا سيما بعد تبنيه مشروع الولايات المتحدة الأفريقية والحكومة الأفريقية الواحدة».
وبالإضافة إلى اتهام ليبيا من قبل دول غربية بارتكاب أعمال إرهابية حول العالم، شهدت مرحلة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي توترا كبيرا بين ليبيا والغرب، وقعت فيها الحرب مع فرنسا في تشاد والحرب مع الولايات المتحدة على سواحل ليبيا قبالة البحر المتوسط، إلى أن بدأ فرض الحصار الأميركي أولا ثم الدولي ثانيا. ويؤكد قذاف الدم أن «فرض الحصار على بلاده لم يكن بسبب لوكيربي فقط، ولكن كانت هناك موضوعات أخرى تخص أنشطة بلاده، مثل مشروع الطاقة الذرية الذي كانت تقوم به، إلى جانب مشروع أسلحة الدمار الشامل والصواريخ عابرة القارات، وغيرها من ذرائع».
ويوضح فيما يخص المفاعل النووي الليبي، الذي كان موقعه في منطقة تاجوراء قرب طرابلس، أن «عملاء الغرب أعطوا للدول الغربية كل وثائق الصواريخ والبرنامج النووي السلمي الليبي.. وحين جلسنا مع الأميركيين ومع الأطراف الغربية الأخرى، اكتشفنا أن كل المعلومات كانت لديهم، وأنهم كانوا جاهزين لتدمير ليبيا وسحقها.. لكن، بالحوار جرى تأجيل هذا العمل الذي قاموا به فيما بعد، أي في 2011. وكانت الخطة تستهدف تدمير كل هذه المنشآت منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وكانوا يريدون مبررا، وكان هذا المبرر القوي لديهم، على عكس المبررات الواهية التي استند إليها الغرب في غزو العراق».
ويضيف: «في مرات كثيرة، حضرت نقاشات مع الأخ معمر حول كيفية الخروج من أزمة الحصار»، مشيرا إلى أن «العقيد رأى أنه لا بد في تلك المرحلة الخطرة من تاريخ ليبيا أن يتخذ قرارات جريئة، لكن بعض المقربين منه لم يكن متحمسا. على أي حال، كان الوضع كالآتي.. أنت لا تستطيع أن تكمل المشروع، وفي الوقت نفسه تريد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتفويت الفرصة على العدو من أن يدمر بلدك. فقامت ليبيا بخطوة جريئة وتخلصت من هذه الأسلحة مقابل رفع الحظر ومجموعة أخرى من الاتفاقيات التي كانت منصفة لنا إلى حد كبير في تلك الظروف العصيبة، وهذا ما كان».
ويتابع قذاف الدم موضحا أنه «قبل التخلص من المفاعل النووي، كان العمل فيه يسير على ما يرام.. كان لدينا علماء ليبيون أكفاء، وكان معنا علماء عرب أيضا.. كما أن عددا من علماء العلوم النووية الليبيين، للأسف، تعرضوا للاختطاف، وقتل منهم كثيرون عبر سنوات.. واختفت منهم مجموعات بأكملها. وكان هذا بطبيعة الحال شغل مخابرات دولية تقاوم المضي قدما في البرنامج النووي الليبي، خاصة أن معدات المشروع كان جرى تجميعها من مناطق مختلفة من العالم. وكان هناك تعاون كبير بين ليبيا وباكستان منذ بداية المشروع.. ولا تنس أننا كنا دفعنا أيضا أموالا كبيرة من أجل البرنامج النووي الباكستاني. كنا متحمسين وكانت ليبيا متحمسة. وكنا نبحث عن القنبلة النووية الإسلامية، من باب الردع، والرغبة في الدفاع عن النفس».
ويقول بالنسبة إلى برنامج تصنيع الصواريخ العابرة للقارات، «لقد وصلنا إلى أرقام هائلة في هذه التقنية.. وأنت تعرف أنك حين تصل إلى رقم معين في مسافة الكيلومترات التي يقطعها الصاروخ، فأنت تستطيع بعد ذلك أن تصل لأي رقم من المسافات التي تريدها». أما فيما يتعلق بـ«السيئات الأخرى» التي تسبب فيها الحصار الدولي الذي استمر نحو 10 سنوات على ليبيا، فقد جرى تحريم استيراد ليبيا الأسلحة العسكرية للدفاع الجوي، ويقول: «ومن ثم، لم يكن لدينا أي دفاع جوي، بعد أن انتهى العمر الافتراضي لسلاح الدفاع الجوي الذي كان لدينا. وكان لدينا بعض أسلحة أصبحت من جيل قديم ولا بد من تحديثها. واجهنا عقبات كثيرة على الصعيدين العسكري والاقتصادي أيضا».
«وفي المناقشات التي كنت أحضرها في وجود القذافي حول المشاكل الدولية التي نواجهها وفي القلب منها الحصار بما فيه من حظر للطيران، كنت دائما في أقصى اليمين، ولا أزيد على معمر.. وأنا، في الوقت نفسه، أزعم أنني أعرف هذا العالم، وأننا لا نستطيع أن نتحدى هذه الدول الكبرى أو نقف في وجهها، لأنه في النهاية نتيجة المعركة ستكون لمصلحتها، مهما كنا على حق ومهما كانت لدينا القدرة على الصمود، وكنت أرى أن علينا أن ننحني للعاصفة، وأن نعبر ببلدنا ونناور. لكن، في نفسه الوقت نفسه.. كان هناك جناح عكس هذا الكلام تماما، جناح من المقربين من القذافي يسعى للتحدي، ولا أريد أن أذكر أسماء لأن بعضهم في الأسر وبعضهم في المعارضة وبعضهم مع وبعضهم ضد».
ويقول: «بعد تدخل بعض زعماء الدول الصديقة والشقيقة، بدأنا محاولات حثيثة لفتح صفحة جديدة مع الغرب وطي كل الملفات العالقة بأي وسيلة. وبدأت الأمور تتجه إلى الأفضل حين قرر القذافي تحسين أوضاع الليبيين وظهور مشروع (ليبيا الغد) الإصلاحي بقيادة سيف الإسلام.. ومع ذلك، لم تفارق الأخ معمر بساطته ولا عاداته التي أعرفها.. ورغم شعوره بحال الليبيين الذين كانوا مستاءين من موقف العرب خلال أيام الحصار، ورغبتهم في الاهتمام بأفريقيا، فإن معمر كان يغضب على ما آلت إليه الأمور في الأمة العربية. وكان، على سبيل المثال، كلما خرج من قمة عربية وتوجه لركوب السيارة يأخذ في التمتمة مع نفسه بكلمات يقول من خلالها إن هذه أمة جاء أجلها! كان يرددها وحده هكذا كمن يكلم روحه. وأنت تعرف ما يظهر للناس في لقاءات القمة العربية، ما هو إلا قشور للوضع البائس الذي يعيشه العرب.. السطحية والتناقضات وعدم الجدية. شيء مؤلم».
«وأتذكر حين كنت في اجتماع بالجامعة العربية في شهر أبريل (نيسان) عام 1992 لمناقشة موضوع لوكيربي، جاءتني برقية في الاجتماع تقول إن طائرة عرفات فقدت في الأجواء الليبية بالجنوب.. طبعا، نحن كانت لنا علاقة بالرئيس عرفات وكل قيادات المقاومة الفلسطينية. كانوا يأتون إلينا في ليبيا ويقيمون معنا ولديهم معسكراتهم التي يتدربون فيها.. إلا أنه في ذلك الوقت، أي حين جاءت برقية عن فقد طائرة عرفات، كانت علاقتنا به متوترة، ولذلك فقد كان الأمر خطيرا، خاصة أننا كنا نناقش موضوع يتهم ليبيا بتفجير طائرة (بان أميركان) في اسكوتلندا. وكان الدكتور عصمت عبد المجيد، الأمين العام للجامعة، هو رئيس الجلسة، وبدا أن الكل يتأهب للدفاع عن ليبيا. ومضى من الاجتماع نحو ربع الساعة، ولم يكن هناك مبرر لرفع الجلسة، لكن لم يكن أمامي أي خيارات.. كتبت رسالة بشكل سريع وأرسلتها إلى عبد المجيد ورجوته فيها أن نرفع الجلسة لدقائق، لأمر مهم».
وكان المتوقع أن يستاء غالبية ممثلي الدول العربية من رفع الجلسة مبكرا، إلا أن قذاف الدم يقول: «للأسف، فرح معظم الموجودين بإنهاء الاجتماع مثل تلاميذ المدرسة الذين كانوا ينتظرون انتهاء الحصة مبكرا.. وتقدمت من عصمت عبد المجيد، فبادرني بالسؤال وقد بدا عليه القلق: ماذا هناك؟ بينما كان عمرو موسى، وزير الخارجية المصري وقتها، اقترب وعلى وجهه علامات الاستفهام. فقلت للدكتور عبد المجيد: موضوع خاص أريدك فيه أنت والسيد عمرو موسى».
«وأبلغتهما الخبر عن طائرة عرفات، حيث انتشر النبأ بين ممثلي الدول العربية. وسادت حالة من الانزعاج والتساؤل عما يمكن أن يكون حدث، والتداعيات المتوقعة. وسألني عبد المجيد: ما إمكانية أن يكون عرفات ما زال على قيد الحياة؟ فقلت له: الإمكانية 5 في المائة، لأنه سقط في منطقة نائية، وإذا نجا من اصطدام الطائرة بالأرض، فمن الصعب إنقاذه حيث توجد عاصفة رملية في تلك المنطقة المعزولة».
«وكان عرفات يستقل طائرة روسية قديمة، وفي طريقه من العاصمة السودانية (الخرطوم) إلى تونس. وكان خط سير الرحلة يتضمن هبوط الطائرة في مطار بشرق ليبيا للتزود بالوقود، إلا أن العواصف الرملية أجبرتها على الهبوط في تلك المنطقة. وبعد ساعات طويلة من الانتظار والقلق في الجامعة العربية، أي قرب الفجر، جاءت برقية جديدة تقول إنه نجا بأعجوبة وبمعجزة إلهية، وأن الاستطلاع الليبي وصل إليه ووجده حيا، والحمد لله».
ويضيف أن «ليبيا كانت في ذلك الوقت متهمة بالإرهاب، بسبب معسكرات الفلسطينيين وغير ذلك، وكنا أكدنا للدول الغربية في مذكرة رسمية أننا قطعنا علاقتنا تماما بموضوع معسكرات الفلسطينيين في ليبيا، وكنا بطبيعة الحال نخفي بعض المعسكرات للإخوة الفلسطينيين التي تعمل بعيدا عن الأنظار في الصحراء. لكن تصادف أن المنطقة التي سقطت فيها طائرة عرفات كانت قريبة من أحد هذه المعسكرات السرية التي علمت من الاستطلاع الليبي بنجاة عرفات، فتوجهوا إليه لتهنئته في مكان الحادثة والمستشفى الميداني الذي وصل للموقع، وكان في منطقة الصارة قرب واحة الكفرة».
ويضيف قذاف الدم أن «عرفات يبدو أنه لم يكن يعلم بموضوع سرية وضع المعسكرات الفلسطينية لدينا أمام الغرب، أو أنه نسي بسبب الحادثة، وأراد أن يتفاخر بأن أبناءه الفلسطينيين في كل مكان، فقال وهو يتحدث لوسائل الإعلام، عقب نقله للمستشفى وزيارة الأخ العقيد له: الحمد لله، وجدت أبنائي الفلسطينيين في معسكر هناك، وساهموا في إنقاذي». ويشير قذاف الدم إلى هذه الواقعة بقوله: «طبعا بالنسبة لنا كانت مشكلة، لأننا كنا أكدنا للغرب أنه لا توجد معسكرات فلسطينية على أراضينا، لكن الموضوع مر دون أن يعلق أحد، لأن الغرب كان يعرف، ولهذا لم يرفع الحظر ولا الحصار عن ليبيا».
لكن في ذلك الوقت، أي عقب توقيع اتفاقية أوسلو (اتفاقية بين إسرائيل والفلسطينيين بشأن الحكم الذاتي عام 1993)، جرى طرد الفلسطينيين من ليبيا، مما أدى إلى انتقادات للقذافي. ما حقيقة هذه الأزمة؟ ويجيب قذاف الدم قائلا: «الأخ معمر بعد أن قالت اتفاقية أوسلو إن الفلسطينيين أصبحت لهم دولة، أحب أن يرسل رسالة يقول فيها إنه إذا كان هذا الاتفاق صحيحا فليرجع الفلسطينيون إلى دولتهم.. هو لم يطرد الفلسطينيين، وإنما طلب منهم العودة إلى أرضهم.. وكان عملا إعلاميا أكثر منه عملا واقعيا على الأرض. وكان بذلك يرد على الادعاءات التي كانت تقول إن فلسطين تحررت، فقال الأخ معمر: خلاص.. أصبحت لهم دولة.. وما دام الأمر كذلك فليعودوا إلى دولتهم». وهو أراد أن يبين للعالم أن هذا الاتفاق لم يكن إلا مسلسلا من معاناة الفلسطينيين المستمرة.
سواء في هذا الموضوع أو غيره، مما جاء في السنوات التالية، بشأن القضية الفلسطينية، كان اسم قذاف الدم يتردد في بعض الأوساط مقترنا باسم رئيس المخابرات المصري الراحل عمر سليمان الذي تولى موقع نائب الرئيس في آخر عهد مبارك. ويقول قذاف الدم: «نعم.. تعاملت كثيرا ولمدة طويلة مع عمر سليمان.. وهو رجل عسكري نبيل.. كان بيننا تعاون منذ كان في الجيش، ثم استمر هذا التعاون بعد أن انتقل إلى المخابرات العامة، وكان هو من الجانب المصري مسؤولا عن الملف الليبي، وأنا مسؤول من الجانب الليبي، عن الملف المصري».
ويضيف: «كان الراحل سليمان رجلا صعيديا، بسيطا وواضحا، ورزينا، وواثقا بنفسه، وأمينا ومخلصا للرئيس مبارك، وبقي على هذا.. وكان مخلصا للقضية الفلسطينية أيضا، وكان يكره الغرب والعدو الصهيوني. هو رجل وطني يحمل في داخله مشاعر قومية.. كان مدركا كل ما تواجهه الأمة من مخاطر، ويحذر كثيرا مما يحدث في المنطقة.. كما كنا نذلل كل الصعاب في العلاقات، وتجاوزنا كل الخلافات، وتعاونا في مجالات كثيرة في أفريقيا وفيما يخص القضية الفلسطينية، وفي موضوع العلاقات مع سوريا ومع بعض الدول الأخرى».
على أي حال، وفيما يتعلق بحادثة طائرة الرئيس الفلسطيني، فإنه لو كان عرفات لقي مصرعه في تلك العاصفة، لأصبحت ليبيا متهمة بتدبير العملية.. فبالإضافة إلى الاتهامات الغربية بشأن الإرهاب، كانت الشبهات تدور حول طرابلس في قضية اختفاء الإمام الشيعي اللبناني، موسى الصدر، عام 1978.
ويقول أحمد قذاف الدم عن اختفاء الإمام الصدر: «والله، هذا لغز حصل فيه لغط كثير.. وأعتقد أن ليبيا كانت مستهدفة في ذلك الوقت، لأنه لم يكن بيننا وبين الإمام أي خلاف.. نحن من أصول شيعية.. جد معمر القذافي، وجدنا، هو الإمام موسى الكاظم، ومحسوبون أقرب إلى الشيعة من المذاهب الأخرى. إذن، لم يكن هناك خلاف. نحن ضد العدو الصهيوني ومع المقاومة، وليست هناك مبررات للخلاف بيننا وبين موسى الصدر، ولو كان هناك خلاف ما كان زار ليبيا أصلا».
وعن المكان الذي كان يوجد فيه أثناء توجه الصدر إلى ليبيا، يقول قذاف الدم: «كنت في تلك الفترة أدرس خارج ليبيا، ولم أكن مطلعا على ملابسات القضية. وكل ما لدينا من معلومات أن الإمام الصدر غادر إلى روما، واختفى هناك.. ثم علمت بالرواية التي تقول بأن تلك كانت مسرحية استخباراتية. وطوال سنوات، كان كثير من القيادات الفلسطينية واللبنانية تحاول أن تتواصل من أجل إزالة هذا الغموض.. وعلى ما أذكر في أواخر التسعينات، وكان ذلك بعد لقاء مع السيد أبطحي المقرب من الرئيس خاتمي والرئيس بشار».
ويضيف: «زارنا الأخ أبطحي والتقى الأخ معمر، وزرت أنا بعد ذلك طهران والتقيت الرئيس خاتمي، وبعد أن مدح طويلا دور القذافي وثورة الفاتح في دعم الثورة الإيرانية، قال لي: نحن حريصون على علاقات متميزة مع ليبيا، وما زال موضوع الإمام يلقي بظلاله على دور ليبيا الفاعل في لبنان، ونظرا إلى علاقتي مع عائلة الصدر أريد أن أساهم في إزالة هذا الغموض، وأقترح تشكيل لجنة لفتح التحقيق مرة أخرى».
ويقول قذاف الدم: «وبعد طهران، وصلت إلى بيروت والتقيت هناك الرئيس لحود، والرئيس الحريري، وعرضت الموضوع ثم ذهبت للقاء الرئيس الأسد.. وفعلا، اتفقنا على تشكيل اللجنة، مثلت أنا فيها ليبيا.. وأبطحي مثل إيران.. وأبو وائل مثل سوريا، وكلف الرئيس لحود مدير الأمن اللبناني تمثيله». ويتابع موضحا: «جرى إحضار الملفات اللبنانية وكل ما يتعلق بهذا الموضوع، وطلب الجانب الإيطالي إنابة قضائية لمحققين طليان، لاستجواب الأطراف الليبية المعنية.. أكدت الرواية الليبية، وجرى الطعن فيها من السيد نبيه بري، واتهم ليبيا بشراء القضاة».
ويقول قذاف الدم: «وقد قمنا بعدها بعقد اجتماعات في بيروت وطرابلس (الغرب) ودمشق، ووصلنا إلى طريق مسدود، وكذلك حاول سيف الإسلام القذافي - فك الله أسره، ولم يصل إلى نتيجة للأسف.. وبعد تدخل الحلف الأطلسي واستشهاد القذافي، لم يعد هناك مبرر لعدم معرفة هذا اللغز.. وهذا ما يزيد علامات الاستفهام عن المستفيد. وندعو الله أن يأتي يوم قريب يماط فيه اللثام عن الحقيقة التي نحرص عليها جميعا».
ويضيف قذاف الدم قائلا: «الحقيقة.. يفترض الآن أن تكون الوثائق متاحة وموجودة كلها وأن يكون الشهود موجودين، وأعتقد أنه لو كانت القضية طبيعية لكان ظهرت تفاصيل.. لكن، أظن أن هذه القضية جزء من المؤامرة علينا وعلى الإمام. هذا تقديري.. إلا أنه، للأسف، ليست هناك أي معلومات، ومن المؤلم أن يستمر الغموض كل هذا الوقت».
وهل هذا الغموض ما زال قائما بشأن اختفاء وزير الخارجية الليبي الأسبق، منصور الكيخيا في تسعينات القرن الماضي من القاهرة، خاصة أنه جرى العثور على جثته في طرابلس عقب سقوط نظام القذافي؟ يجيب قذاف الدم، ويقول: «حسب الروايات التي تروى الآن، قالوا إنهم وجدوا جثته، ومن ثم هذا لم يعد لغزا.. هو كان في القاهرة واختفى في القاهرة، ومن ثم، وبالتأكيد هناك عملية حدثت، لكن من وراءها؟ فبالتأكيد التحقيقات ستثبت ذلك. والكيخيا لم يكن رجلا شريرا ولم يكن معارضا عدائيا. وحسب ما يقال من بعض زملائه، وهو أمر جرى الحديث عنه بعد سقوط ثورة الفاتح (بعد 2011)، أنه كان هناك اجتماع في دولة عربية أثناء أزمة لوكيربي، وأنه جرى تكليف الكيخيا تجميع كل المعارضين الليبيين وأن يوضع هو على رأس هذا التجمع. وأعتقد أنه لهذا السبب استهدِف.. أما كيف؟ وأين؟ فهذا في الحقيقة يجب على التحقيقات الآن أن تخرج هذه الحقائق. وأنا للأسف في تلك الفترة كنت في طبرق. ولم أكن في مصر».
وهل يخشى قذاف الدم من أن يتعرض لعملية اختطاف من خصومه وهو في القاهرة؟ يرد قائلا إنه «بالفعل جرت محاولات من هذا النوع منذ العام الماضي وخلال الشهور الماضية. وقبل موضوع الهجوم على شقتي في الزمالك في 2013.. حاولوا اختطافي في مصر عن طريق شركات، أو بالأحرى عصابات دولية، من تلك الشركات التي تعمل في هذا المجال.. وعرضت مبالغ مالية.. وشارك في هذا كثير من المسؤولين الليبيين، ولدينا الكثير من الحقائق التي سيأتي وقت لمقاضاتهم بها».