دكتور محيي الدين عميمور
من الظلم أن يتصور بعض الأشقاء أنني أحمل أي ضغينة خاصة للرئيس أنور السادات،الذي أسجل له أنه منحني وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى في أول لقاء معه، لكنني ملتزم أساسا أمام أمتي ووطني قبل كل شيء، وأقدم، في كل ما أورده، شهادات موثقة، لا تمنعني من استعراضها عواطف البسطاء، ممن تجمدوا عند لقب “بطل الحرب والسلام”، أحيانا كانتقام من مرحلة الرئيس عبد الناصر وأحيانا نكاية في العرب الذين تناقضوا مع مسيرة الرئيس المؤمن، وغالبا بمفهوم ضيق عن الوطنية.
والحقائق عنيدة.
والوثائق تقول أن “كيسنجر”لم يخفِ عن القيادة الإسرائيلية مشاعره التي ولّدتها زيارته للقاهرة، فقد قال: “إنني مندهش من مسلك الرئيس المصري، الذي لا يبدو حتى الآن أنه مستعد لاستعمال قوته السياسية الكاملة التي تعطيها له حقائق موقفه، كما أنه لا يأخذ الموقف الدولي الجديد في اعتباراته وهو يتفاوض (..) وقد كان في استطاعته أن يستخدم ما لديه لتحقيق اتفاق كامل بانسحابكم على شروطه وإلى خطوط 4 يونيو 1967، وحتى إذا غامر بتجدد القتال فإن العالم كله سوف ينحى باللائمة على إسرائيل (..) والسبب في رأيي أنه وقع ضحية للضعف الإنساني، وهو في الحالة النفسية لسياسي يتشوق إلى أن يرى نفسه، وبسرعة، في موكب نصر في سيارة مكشوفة، وآلاف الناس على الجانبين يصفقون له كمنتصر”.
ويكون تحليل “موشي دايان”لنفس اللقاء أن “السادات يريد اتفاقا بأي ثمن لعدة أسباب، فهو قلق من الحالة النفسية لجيشه، وهو يتوجس شرا من الاتحاد السوفيتي، ويريد أن تكون يداه طليقتان لمواجهة المتشددين العرب” (وفي مقدمتهم بالطبع سوريا والجزائر والعراق، وربما آخرين من دونهم لا أعرفهم، الله يعرفهم !!)
ويروي كيسنجر أنه، عندما زار موشيه دايان في بيته على هامش زيارته إلى إسرائيل في ديسمبر 1973، التقط وزير الدفاع الإسرائيلي خريطة كانت هناك، ورسم عليها بالقلم الرصاص الخط الذي تقترحه إسرائيل لوقف إطلاق النار، وطلب منه أن يحملها إلى السادات، وقال الوزير الأمريكي أنه ليس متأكدا من إمكانية إقناعه بذلك، ولكن دايان ألح عليه بعرض الأمر على الرئيس المصري.
ويقول كيسنجر أن السادات قبل بهذا الخط، بشرط واحد، وهو الإعلان عنه باعتباره اقتراحا أمريكيا وليس اقتراحا إسرائيليا.
إلى هذه الدرجة وصلالخداع الذي كان يمارسهالرئيس المصريّ ضد شعبه وحلفائه، وبالتواطؤ مع خصومه وأعدائه، فالمهم ليس في التنازل عن الحق المصري، ولكن ألاّ يعرف أحد بأن “بطلُ الحرب” !!وراء التنازل.
وقد كان واضحا أن مخطط كيسنجر يهدف إلى تقزيم الصراع العربي الإسرائيلي ليكون مجرد حاجز نفسي،تعطي إزالته الحلَّالمطلوب، بدلا من حقيقته كصراع بين مجموعة غازية عدوانية وعنصرية، وشعوب آمنة مطمئنة تنتزع منها أرضها وتغتصب حقوقها المشروعة، وأولها الحق في الحياة.
وسينجح كيسنجر فيما بعد بفضل السادات في سرقة دماء أكتوبر العظيم.
فالوزير الأمريكي كان يريد أن يتعامل مع كل دولة عربية على حدة، هدفه الأول حماية أمن إسرائيل وضمان بقائها بوصفها القوة الأولى، وصاحبة الرأي الأول والأخير في المنطقة.
وأنا أشدد أنه لا يجب أخذ تصريحات الأمريكيين والإسرائيليين وآرائهم واستنتاجاتهم كقضية مسلم بها بشكل مطلق، ولكن باعتبارها جانبا موثقا من صورة حقيقة عشناها، وضرورة لفهم ما حدث وما يحدث وما سوف يحدث، بالمقارنة والتكامل مع شهادات شخصيات عربية، وطنيتها فوق كل الشبهات.
ولقد حققت زيارة كيسنجر الأولى لمصر أهدافا لعلها لم تكن كلها في أحلامه، وأولها وأهمها أن الرئيس، الذي انتصر جيشه في حرب مجيدة، أصبح خاتما في أصبعه يُحركه كيف شاء، وكان من أهم ما توصل إليه، كما سبق أن قلت، أن عودة القوات الإسرائيلية إلى خطوط 22 أكتوبر انتهى أمرها، لأنها أصبحت مجرد جزء من اتفاق أوسع لفك الارتباط، وبالتالي فقد دخلت إسرائيل إلى مرحلة التفاوض وهي في أكثر الأوضاع ملائمة لها، بالإضافة إلى أنه نجح في استعمال الرئيس المصري نفسه لتخريب التضامن العربي، حيث التزم السادات ببذل مساعيه لنزعِ سلاح البترول من الصراع العربي الإسرائيلي، واقتنع بإرجاء إشراك الفلسطينيين إلى مرحلة أخرى.
ويتجه كيسنجر إلى ملاقاة السادات للمرة الثانية في 13 ديسمبر وهو يشعر بنوع من القلق إثر مقال صدر في صحيفة الأهرام، التي كانت تعتبر، نظرا لوجود هيكل على رأسها، صوت النظام المؤثر، وجاء في المقال أن : “حل أزمة الشرق الأوسط لا يكمن في العثور على صياغات ديبلوماسية مغلفة بمعاني مزدوجة تتيح لكل طرف أن يُفسّرها على النحو الذي يخدم أهدافه”.
لكن قلق الوزير الأمريكي يزول عندما يستقبله السادات معانقا ومقبلا، ويقول له أمام الجميع بأنه يعتبره أكثر من صديق، يعتبره أخا، ويكتبُ كيسنجر فيما بعد في مذكراته أن كثرة من قبّلوه في مصر من الرجال جعلته يشك في جنسه !!.
ويقول هيكل (عواصف الحرب والسلام – ص 192) : “إن تصور كيسنجر لمؤتمر السلام هو أن يكون مجرد “مظلة” للقاء سياسيّ بين مصر وإسرائيل، يتم عقده تحت “اسم” الأمم المتحدة في جنيف ولكن بدون رعايتها، وتُدعى له كل الأطراف المحيطة بإسرائيل، لكن على مصر أن تتعهد بحضوره حتى وإن امتنعت عن الحضور بقية الأطراف (والمقصود سوريا أساسا) ولن يُدعى الفلسطينيون للمؤتمر، ولكن ما يَسْمح به كيسنجر هو أن يقال بأن المؤتمر سوف يبحث في مرحلة لاحقة موضوع إشراك الفلسطينيين في أعماله، وسوف يُدعى الاتحاد السوفيتي، لكن يجب إفراغ حضوره من كل مضمون، وتلك مسؤولية مصر(!!!) حتى لا يؤدي الأمر إلى خلاف بين موسكو وواشنطون (..) وعلى الأطراف المعنيين بالمؤتمر ألا يتركوا ثغرة لتداخلات أوربية”.
وأكثر من ذلك، قبِل السادات التوقيت الذي فرضه كيسنجر لعقد المؤتمر في 18 ديسمبر، أي قبل الانتخابات الإسرائيلية (31 ديسمبر) في حين أن مستشاري السادات، ووزير الخارجية إسماعيل فهمي على وجه الخصوص، كانوا ينصحون بتأجيل المؤتمر إلى ما بعد الانتخابات، أو التلويح بذلك على الأقل لانتزاع أكبر مكاسب ممكنة من الحكومة الإسرائيلية، التي تريد توظيف عقد المؤتمر لضمان دعم شعبي أكثر لمرشحي “غولدامائير” ضد “مناحم بيغين”.
ويرسل كيسنجر إلى حافظ إسماعيل ليبلغه بأن إسرائيل، وللسماح بمرور بعض المواد غير العسكرية بالمرور إلى مدينة السويس الواقعة غرب قناة السويس، تشترط قيام الحكومة المصرية بإطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي “باروخمزراحي”، الذي قبض عليه منذ سنوات في قضية تجسس لا علاقة لها بحرب أكتوبر، ويخرج هنري كيسنجر من اجتماعين عقدهما مع السادات يومي 13 و 14 ديسمبر وقد حصل على كل ما أراده، فسِحْره لا يقاوم.
ومرة أخرى تبدو هنا أهمية مواجهة المواقف الدولية الحاسمة عبر مجموعة عمل تدرس وتحلل وترسم كل الاحتمالات وتعد كل البدائل، وهو ما يتناقض، كما سبق أن أشرت، مع اللقاءات المنفردة (tête à tête) التي يتصرف فيها المسؤول العربي السامي بأسلوب فرعون : “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد- (سورة غافر -29)
ومن حق أي إنسان أن يغلي غضبا من إهدار الرئيس لسيادة مصر وإجهاضه لتضحيات أبنائها بهذه البساطة وبدون تقطيبة غضب، وهو ما يؤكد من جديد أن تعبير بطل الحرب الذي أصبح يسبق اسم السادات كان انتحالا، وإذا كنت توقفت عند هذا اللقب فلأن الأمة كلها عانت من آثاره، بالإضافة إلى ما عاناه شعب مصر من حكم الرئيس السادات، وإن كان هذا أمرا ليس من حقي أن أخوض في تفاصيله، لأنه شأن مصري داخلي.
كان السادات تواقا لأن يُوقع أي أوراق مع الأمريكيين ولهذا فقدَ أهم أوراقه (ص -99) ويروي إسماعيل فهمي في مذكراته قصة تظهر أسلوب تعامل كيسنجر في تمرير الطلبات الإسرائيلية، فقد قدم للرئيس المصري صيغة إسرائيلية تبدو بريئة ومنطقية تماما للنظرة الأولى، لكنها تجسّدُ في الواقع إنهاء لحالة الحرب بدون اتفاق سياسي واضح ومحدد، ويضمّ الاقتراح الإسرائيلي جملا صيغت بعناية وباختيار دقيق للكلمات، ونجح الإسرائيليون في خمسة سطور وفي خمسة مواقع على الأقل في استخدام تعبيرات مختلفة تحقق هدفهم، وكالمعتاد نظر السادات إلى ما قدمه له كيسنجر ومنحه موافقته، ثم أعطاه لوزيره (كان المفروض أن يحدث العكس)
ويقول فهمي : “عندما لفتّ نظره للأمر تراجع قائلا لكيسنجر شاكيا : هنري، كنت أعتقد أنك صديقي”.
ويستعرض فهمي السطور التي كان هدفها إنهاء حالة الحرب بشكل ضمني، فيقول أنه :”كان من بين المقترحات:
– التوقف عن التصويت ضد إسرائيل في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
– إنهاء الحملة ضد إسرائيل في وسائل الإعلام المصرية.
– إغلاق محطة إذاعة صوت فلسطين من القاهرة.
– الموافقة على معاملة الخطوط الجوية الإسرائيلية مثل كل الخطوط الأجنبية في مصر.
– تتوقف مصر عن مقاطعتها الاقتصادية لإسرائيل وللشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل”.
ويتراجع وزير الخارجية الأمريكي أمام “بكائية” السادات قائلا أنها كانت صياغة تلقاها من الإسرائيليين، قام بإعدادها “موردخاي غازيت”، المدير العام لمكتب رئيس الوزراء، وطلبوا منه “مجرد نقلها إلينا”، ويجيب إسماعيل فهمي العظيم قائلا : “بل هي صياغة “مائير روزن”، المستشار في وزارة الخارجية”، ويجادل الوزير الأمريكي في البداية وأمام الرئيس، ولكنه يعترف في أسوان بعد ذلك بأن فهمي كان على حق.
ويصل كيسنجر إلى اليقين بأن وزير الخارجية المصري يمكن أن يُفسد عليه مخططاته، فيعمل على تجاوزه في اتصالاته مع الرئيس، ويعود إلى التعامل مع السادات، بموافقته طبعا، عبر القناة السرية التي كان يتولاها حافظ إسماعيل، ويتولى ضبط الاتصال معه “يوجين ترون”، ممثل المخابرات المركزية الأمريكية آنذاك، ويقول في رسالة لإسماعيل، يعرف أنها ستعرض على السادات : “إننا نعلق أهمية كبيرة على الاحتفاظ بهذا الخط الرئاسي (..) وأستعمل هذا الخط لأعبر لك عن مدى تأثري بلقاء الرئيس السادات، وبرؤيته الثاقبة للأمور البعيدة التي نتعامل معها في الوقت الحاضر (..) ولقد فكرت في اقتراح وزير خارجيتكم بتأجيل مؤتمر السلام حتى يتأكد نجاح محادثات فك الارتباط، ورأيي أن ذلك خطأ، ومن الأفضل أن يكون فك الارتباط هو الموضوع الأول الذي يجري بحثه في المؤتمر”.
وهذا كله يعني أن ما هو “عسكري” أصبح يجري التعامل معه كأمر “سياسي”، وهو ما يعني “عزل” القيادات العسكرية المصرية عن معطيات اتخاذ القرار.
ويعلق هيكل على رسالة كيسنجر قائلا : “كان هنري كيسنجر قد اكتشف ومارس وأتقن سياسة دغدغة أعصاب الرئيس السادات عن طريق الإفراط في مدحه”، وبعد أن أحكم سيطرته على الموقف المصري وأصبح يتحكم في كل التصرفات المصرية راح يحاول استعمال مصر لانتزاع مكاسب من السوريين، فيرسل للرئيس السادات، عبر حافظ إسماعيل وقناة المخابرات دائما، رسالة يقول فيها بأن : “الإسرائيليين يريدون قائمة بأسماء أسراهم لدى السوريين، ويطلبون السماح للصليب الأحمر بزيارتهم (..) وبصراحة، أنا لا أضمن حضور إسرائيل واشتراكها في جلسة افتتاح المؤتمر إلا إذا حصلت عل القائمة قبل انعقاده (..و) أعبر لك عن استمرار إعجابي بك كرجل دولة قادر على المضي في الطريق الذي رسمه”.
وهكذا يتحول كيسنجر من التلميح إلى التصريح ومن الملاطفة إلى التهديد المباشر، مع جرعة من “مَسْح الجوخ” الديبلوماسي المألوفمن كيسنجر.
وتتزايد مناورات الوزير الأمريكي وتتزايد معها مراهنة السادات على الولايات المتحدة الأمريكية،حيث خصص استقبالا رائعا للرئيس ريتشارد نيكسون في يونيو 1974، ربما ليخفف عنه من وطأة فضيحة “ووتر غيت”، وعُلقت لافتات كبرى بعرْض الشوارع التي سيمر بها الموكب الرئاسي، كتبت عليها عبارة : “نيكسون نحن نثق بك Nixon, we trust you”، ويبدو أن من أمر باختيار هذه العبارة اقتبسها من العبارة المكتوبة على الدولار الأمريكي وهي (In Godwe trust) أي بالله نثق، ومأساةٌ أن يثق الشعب الأمريكي بالله وأن تكون صورة الشعب المصري التي تقدمها السلطة هي أنه يثق في نيكسون، وكان من الممكن اختيار عبارة ترحيب أخرى، ولكن منظمي الاستقبال من سدنة النظام كانوا تطبيقا لقول فرعون : فاستخف قومه فأطاعوه.
وكان للشعبالمصري يومها رأي آخر، حيث أبدع أحمد فؤاد نجم وهو يُنشد:
* – شرفت يا نيكسون بابا – يابتاع″الووترغيت”.
* – عملوا لك قيمة وسيما – سلاطين الفولوالزيت.
* – فرشوا لك أوْسع سكة – من “راس التين” على “مكة”.
* – وهناك تنفذ على”عكا” – ويقولوا عليك حجيت.
* – ما هو مولد سايرْدايرْ–شي الله يا صْحابالبيت.
* – جواسيسك يوم تشريفك–عملولك زفة وزار.
* – تتقصّع فيه المُومس …والقارح …والمندار.
* – ما هو مولدْ سايرْدايرْ- شي الله يا صحابالبيت.
وأكدت القصيدة أن الشعب المصري، رغم كل ما كان يبدو على سطح الحياة آنذاك من مسايرة للنظام وهتاف لقائده لم يكن ساذجا، وكان نجمُ تعبيرا دائما عن فكره وعن إرادته.
http://www.raialyoum.com/?p=329726