تعتبر أنظمة تحديد مصادر إطلاق نيران المدفعية من أكثر الأنظمة الميدانية أهمية في المعارك البرية، لأنها تتيح القدرة على التحديد الدقيق لهذه المصادر، ويمكن بالتالي إسكاتها بأسرع ما يمكن، ولعل التطور النوعي فى المدفعية، والذي لم يتم دفعة واحدة، قد لعب الدور الأساسي في تطوير الإجراءات المضادة التي استفادت إلى الحد الأقصى من التقنيات الحديثة في مجالات التوجيه والاتصال، مع أن تقنية الرصد كمعطى قتالي تعتبر قديمة العهد، ورافقت النشاط المدفعي منذ البداية.
تتصف أنظمة رصد مصادر نيران المدفعية بآليات معقدة على المستوى التقني، تعوض عنها سهولة الاستخدام، وترجع الحاجة إلى هذه الأنظمة نتيجة لزيادة الفعالية القتالية للمدفعية التقليدية، والتي لا تستند الآن فقط إلى أنظمة توجيه فائقة الدقة، وإلى مقذوفات "ذكية"، بل تضم أنظمة إطلاق أشبه ما تكون بالأنظمة الصاروخية، وفي مجال التحديث الذي شهده السلاح المدفعي بصورة مكثفة في السنوات الأخيرة، عملت الشركات الصناعية الكبرى على تطوير مفاهيم جديدة، بالغة المرونة من جهة، وعلى إنتاج مدفعية خفيفة الوزن، وذاتية الحركة من جهة ثانية، ولذلك فإنه ينبغي لأنظمة تحديد مصادر نيران هذه المدافع أن تتمتع- قدر الإمكان- بالدقة والمدى والأمان والحركية، تفاعلاً مع أحداث ساحة المعركة السريعة التغير، ولعل هذه الأنظمة هي العنصر المثالي لمراقبة تنفيذ اتفاقيات وقف إطلاق النار، وكذلك مهام حفظ السلام.
فكرة العمل
استعمل الرادار لتتبع مصادر نيران مدفعية العدو منذ ستينيات القرن العشرين، وفي البداية كان المشغل يتتبع يدوياً مسار المقذوفات، ويستخلص بالتالي مصادر إطلاقها، ثم أصبحت أجهزة الكمبيوتر تقوم بهذا العمل لمعرفة مصدر الإطلاق في غضون ثوان، وبالتالي المبادرة بإطلاق النيران المضادة.
وتستطيع أنظمة الرادار المسح في جميع الاتجاهات، أو المسح في قطاعات معينة، ويمكن أن تقوم بهذه المهمة عدة أنواع من الرادارات التي تتميز بالسرعة والدقة.
وتعتمد فكرة تحديد مصادر النيران المعادية بواسطة الرادار على تحديد مكان المقذوف في نقطتين إبان مساره في اللحظات الأولى من خروجه من ماسورة (سبطانة) المدفع المعادي، وبعد تحديد إحداثيات هاتين النقطتين يمكن تتبع المقذوف بيانياً في عكس اتجاه انطلاقه حتى يلامس المنحنى البياني الذي يرسم بهذه الطريقة مستوى الأرض، ويكون مكان المدفع هو نقطة تلاقي المنحنى مع الأرض، ويتم إرسال إحداثيات هذا المكان إلكترونياً إلى أنظمة إطلاق النيران المضادة الصديقة.
النظام Firefinder
يستخدم الجيش الأمريكي النظام Firefinder لتتبع مصادر النيران المختلفة من مدفعية وصواريخ، وأثناء عملية عاصفة الصحراء قام هذا النظام بتوفير معلومات دقيقة عن مواقع المدفعية العراقية ونقل هذه المعلومات إلى قاذفات الصواريخ المتعددة الفوهات MLRS التابعة للجيش الأمريكي وقوات التحالف، ويتكون النظام من الرادار TPQ-36 والرادار TPQ-37، ولا يحتاج أي منهما إلى أكثر من فرد واحد لتشغيله من خلال غرفة عمليات مدرعة محمولة على متن شاحنة صغيرة، والنظام بحد ذاته يمكن تحميله على الشاحنة وإنزاله ونقله في دقائق معدودة، وبطاقم محدود العدد، ويدمج الجيش الأمريكي الرادارين المذكورين مع بعضهما البعض ليشكلا معاً نظاماً سريع الحركة لتحديد مصادر النيران ومعالجتها، فالرادار المقطور متوسط المدى TPQ-36يمكن وضعه قريباً من ساحة المعركة،
بينما الرادار TPQ-37 يمكن وضعه في مكان أبعد داخل الأراضي الصديقة.
ويمتاز الرادار TPQ-36 بسرعة تحديد مصادر النيران المعادية، وبصغر حجمه، وقدرته العالية على الحركة، وإمكانية نقله جواً لإسناد قوات الانتشار السريع والقتال المباشر مع وحدات الخطوط الأمامية، إذ يستطيع أن يحدد مصادر المدفعية أو الصواريخ أو مدافع الهاون على بعد حتى 24 كلم بصورة آلية كاملة، كما يستطيع أن يحدد في وقت واحد مواقع مصادر النيران من أسلحة متعددة، من أول طلقة، ويمكنه أيضاً تتبع مقذوفات المدفعية التي تطلقها القوات الصديقة، مما يساعد على تصحيح إحداثيات الضرب لتحقيق الإصابة بشكل دقيق.
وتعتمد فكرة عمل الرادار TPQ-36 على إرسال مجموعة من حزم الرادار الشعاعية، وعندما يخترق شيء ما هذه الأشعة الرادارية، فإن النظام يصدر فوراً شعاعاً تأكيدياً، وبمجرد اكتشاف المقذوف المخترق، فإن النظام يرسل سلسلة متوالية سريعة من إشعاعات التتبع، لاستنباط خط سير المقذوف، ويحدد من ذلك موقع الإطلاق، وغالباً ما يتم وضع مقطورة الهوائي في موقع يوفر تغطية رادارية فوق القوات المعادية، أما ملجأ مراقبة العمليات، الذي يحتاج تشغيله إلى أفراد، فيوضع على مسافة أقصاها 50 متراً، ويمكن تجهيز النظام للعمل خلال 15 دقيقة، وللتحرك خلال 5 دقائق فقط بواسطة طاقم مكون من خمسة أفراد.
ويستخدم الرادار TPQ-37 المقطور لكشف مصادر نيران المدفعية بعيدة المدى، وبإمكانه تحديد عشرة مصادر مختلفة في غضون ثوان، وتتبعها حتى مدى يصل إلى 50 كلم، كما يستطيع أن يحدد مواقع الصواريخ سطح/ سطح، وفي هذه الحالة يمسح الرادار نطاقاً عرضه 60 درجة، المتوقع منه التهديد، ويحدد بدقة إحداثيات هذه المصادر، ثم يقوم بعرضها على عامل تشغيل الرادار الذي يقوم بدوره بنقلها إلى مركز توجيه النيران.
ومقطورة معدات هوائي الرادار مركبة على عجلات قابلة للفك، وعادة تجر بشاحنة وزنها خمسة أطنان تحمل مولدات كهربائية، ويحمل ملجأ عامل التشغيل على مركبة زنه 1.5 طن، ويتمتع الرادار TPQ-37 بميزة التخلص من تشويش الأهداف الأرضية، مع الاحتفاظ بإمكانية أداء عالية لالتقاط الأهداف الحقيقية، ويستطيع أن يتتبع نيران الأسلحة الصديقة، مما يسمح بانجاز عمليات التصحيح، وأقصى مدى لعمل الرادار 50 كلم، ودرجة الدقة للإحداثيات المستخرجة 50 متراً (على أقصى مسافة)، ويمكنه اكتشاف حتى 10 أهداف في وقت واحد، مع إمكانية تخزين إحداثيات حتى 99 هدفاً، وسهولة الرجوع لأي إحداثيات.
وسوف تعمل التحسينات التي أدخلت على النظام Firefinder على زيادة اعتماديته، إلى جانب السماح للرادار بمواكبة التهديدات المتغيرة والنشاطات المتزايدة للتدابير المعاكسة، وتشمل التحسينات زيادة قابلية التحرك في الرمال والوحل مع جنازير مطاطية جديدة، وتخفيض معدل الإنذارات الكاذبة، ومدى أطول يتجاوز 100 كلم، للسماح باكتشاف إطلاق الصواريخ الباليستية في مسرح العمليات، وقابلية التحميل على متن طائرات C-130، ويجري استبدال النظام TPQ-37 بنظام TPQ-47 Phoenix الذي يبلغ مداه لغاية 300 كلم.
النظام CYMBELINE
يتكون النظام البريطاني CYMBELINE من جهاز رادار سنتيمتري وجهاز حاسب محمولين على مقطورة تجرها مركبة "لاندروفر"، ويستخدم في تحديد مواقع هاونات العدو، واكتشاف التحركات الأرضية، والقيام بالأعمال المساحية السريعة، وتصحيح نيران المدفعية الصديقة، ومراقبة وتوجيه الطائرات العمودية، وهو يتعامل مع المقذوفات ذات خط المرور العالي، وتقل دقة نتائجه كلما قل ارتفاع خط مرور المقذوف.
وهناك ثلاثة أنواع من رادارات CYMBELINE لتحديد أماكن الهاون وهي: الرادار طراز MKI المقطور، وطراز MKII المثبت على ناقلة جند مدرعة، وطراز MKIII الذي ينتج إما مقطوراً أو مثبتاً على مركبة مدرعة، ويزن الطراز MKI 980 كلج، وهو مثبت على مقطورته، ويمكن نقله بسهولة بالطائرات العمودية، ويبلغ المدى الأقصى للطرازين MKI وMKII حوالي 20 كلم، إلا أن ذلك يتوقف على عيار الهاون، وبالتالي حجم المقذوف، فبالنسبة إلى العيارين 81 ملم، و82 ملم، مثلاً، لا يتعدى المدى الأقصى 20 كلم، ولكنه يرتفع إلى ما بين 12 و14 كلم للعيار 120 ملم، وفعالية النظام ودقته لا تتأثران بحالة الطقس، فهو لا يحتاج إلى معلومات عن الحالة الجوية، وفي الطراز MKIII يمكن وضع شاشات العرض على مسافة 30 متراً من الرادار.
ومن أحدث التعديلات التي أدخلت على النظام CYMBELINE في الآونة الأخيرة، وأكثرها أهمية، توفير قدرة إضافية في الكشف عن موقع مصدر متحرك لإطلاق النيران، علاوة عن التزود بوسائل فعالة لمقاومة الضجيج الآتي من مصادر خارجية، وأخرى لمواجهة الإجراءات الإلكترونية المضادة.
النظام COBRA
بدأت الجيوش البريطانية والفرنسية والألمانية استخدام النظام الراداري COBRA، الذي يستطيع العمل في كافة الأحوال الجوية ليلاً ونهاراً، ويستخدم تقنيات معقدة لمقاومة الحرب الإلكترونية المعادية، ويحمل على شاحنة 6×6، ومن ميزاته سهولة تشغيله وصيانته، وهو يتضمن هوائياً نشطاً، يحتوي على 3000 مستشعر منخفض الطاقة، ويتميز هذا الرادار بسرعة تتبع الأهداف وتحديد مصادرها، وتعيين الأسلحة المناسبة للتعامل معها، مع سهولة التشغيل والصيانة، ويستطيع أن يكشف ويتعقب نيران مدفعية العدو حتى 100 ميل.
ويعتبر نظام COBRA أحدث أنظمة الرادار، المصممة لتحديد مصادر إطلاق نيران المدافع، ويزعم أنه أكثر الرادارات من نوعه تقدماً، ويعد بقدرات فعالة ستحسن أداء الجيوش التي تستخدمه، ويمكن تشغيل النظام خلال 15 دقيقة، وهو يراقب مصادر إطلاق النيران من المدى البعيد، بسرعة ودقة، حيث يحسب مسار الطلقة، ويكشف هدفها المنشود، فيشكل بالتالي نظام إنذار سريع، في حال توفرت شبكة اتصالات تكتيكية متطورة، ويقوم النظام بتصنيف الأسلحة المعادية، سواء أكانت مدفعية، أم راجمات صواريخ، وتساعد هذه المعطيات على ضبط رماية نيران القوات الصديقة، وتحديد أولوية أهدافها.
ويتميز نظام "كوبرا" بالحركية العالية، من خلال دمج النظام بكامله في مركبة واحدة من فئة 10 أطنان، صالحة للأراضي الوعرة، ويستخدم النظام مركزاً للمشغل، محمي من الأسلحة الخفيفة وشظايا انفجارات المدفعية وأسلحة الدمار الشامل، أما نظام الرصد، فهو عبارة عن رادار يعمل على النطاق الترددي C-band، ويصعب كشفه بسبب استخدام فترات بث مقتضبة جداً، إضافة إلى المرونة في استخدام الإجراءات الإلكترونية المضادة المدمجة فيه، مما يكفل حماية للنظام تعززها حركية المركبة.
النظام ARTHUR
طورت السويد النظام الراداري المتحرك ARTHUR، وهو قادر على العمل في أجواء إجراءات الكترونية مكثفة، ودون دعم من معدات خارجية، ويتم تحميل الرادار وأجهزة الاتصال والأنظمة التابعة له على مركبة مجنزرة مكونة من مقصورتين، وقادرة على السير في أصعب الأراضي، وتنقل جميع معلومات الرادار آلياً إلى مركز القيادة، مما يزيد من سرعة ودقة الرمي وإسكات أسلحة العدو، وهو قادر على تحديد مواقع 100 هدف خلال دقيقة واحدة، وإعطاء إحداثيات ثمانية أهداف في وقت واحد، ومن الميزات الخاصة بهذا الرادار قدرته على تمييز الهاونات عن المدافع حتى مسافة 20 كلم، وتحديد مصادر الراجمات حتى 30 كلم.
استعملت القوات البريطانية هذا النظام في أفغانستان والعراق باسم الرادار "الجوال لمراقبة المدفعية وميدان المعركة" MAMBA، ويستطيع فريق مدرب تجهيزه للخدمة في غضون 5 دقائق، كما يسهل نقله في طائرة C-130، ويعمل الرادار على النطاق الترددي C-band من خلال الهوائي الشبكي.
الأنظمة الصوتية
مازالت المستشعرات الصوتية ذات الالكترونيات المتقدمة، المستخدمة لتحديد مواقع المدافع تجد لها مكاناً في ساحة المعركة الحديثة، ويعتمد تحديد مصادر نيران المدافع بالصوت الـلاسلكي Gun Sound Ranging: GSR على التقاط الموجات الصوتية الناشئة من صوت خروج الطلقة من المدفع بواسطة قواعد ميكروفونية، ثم يتم تحديد الأشعة الواصلة بين منتصف قواعد الميكروفونات ومصدر الصوت، وتلتقي هذه الأشعة في مصدر الصوت.
ويستخدم الجيش البريطاني نظام HALO المؤتمت بالكامل، وهو عبارة عن نظام سمعي سلبي، خفيف الوزن نقال، سهل النشر، وجيد للاستعمال ضد الأهداف المتحركة مثل الدبابات والمدفعية ذاتية الحركة، فهو يوفر معلومات دقيقة عن مصادر إطلاق نيران المدفعية، ضمن مدى يتراوح بين 30 متراً و15 كيلومتراً، ويسجل بيانات المصادر تلقائياً، ويجري عليها تحليلات سريعة تتعلق بانتشارها، ويسجل الوقت الحقيقي لوصول الأصوات إلى المستشعرات، ثم يحسب الفرق بين موعد إطلاق المقذوف وموعد وصوله إلى هدفه، وبذلك يمكنه تحديد إحداثيات موقع الإطلاق.
اتجاهات التطوير والتحديث
تتمثل أهم إتجاهات تطوير وتحديث أنظمة رصد مصادر نيران المدفعية في خفض أوزان الرادارات وهوائياتها، وأحجامها، والاستفادة من تقنيات الالكترونيات الدقيقة، وتحسين ظروف العمل على المشغل عبر وضعها في مستوعب خفيف الوزن، متعدد الأغراض، يؤمن فسحة تشغيل أوسع، ويحسن قدرة المعالجة الكمبيوترية، وقد تتوفر حماية النظام الراداري عبر تركيبه على المركبة الملائمة، ولزيادة حماية المشغل يمكن تركيب الهوائي في مكان مناسب على بعد 100 متر من الرادار واستخدام شاشة طرفية للتحكم، ويشغل النظام من بعد، وبهذا ينأى الرادار والمشغل عن النيران المعادية التي قد تستهدفه، ويمكن تحميل الرادار فوق مركبة تغير موقعها بسهولة، ويمكن نشر الهوائي فوق أرض مرتفعة مجاورة يستطيع الرادار منها أن يحقق تغطية واسعة دون تعريض المشغلين للخطر.