في ال-31 من مارس آذار 1961 أُعتقل يسرائيل بار موظف مسؤول في وزارة الدفاع للاشتباه فيه بممارسة التجسس لحساب الاتحاد السوفياتي. وكان بار، ضابطاً سابقاً برتبة مقدَّم في جيش الدفاع، ومحللاً عسكرياً معروفاً وخبيراً في التأريخ العسكري وقد تم توظيفه كمستخدم مدني في وزارة الدفاع لغرض وضع كتاب حول تأريخ حرب الاستقلال.
وقد أدت إجراءات تعقّب هذا الشخص يوماً بعد يوم إلى الكشف عن اجتماعه يوم ال-29 من مارس آذار 1961 مع رجل مجهول في شمال تل أبيب، ثم تم تتبّع هذا المجهول وصولاً إلى شقة يملكها يسرائيل بار.
يسرائيل بار – خلفية
وُلد يسرائيل بار عام 1912 في النمسا لعائلة يهودية غير متديّنة انخرطت ثقافياً بمحيطها. وكان نشيطاً في الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي وتباهى بتخرّجه من دورة ضباط في أكاديمية الجيش النمساوي وبخدمته كضابط في هذا الجيش. وقد اعتاد بار على التفاخر بإنجازات كثيرة يجب التشكيك في صحتها ومنها حصوله على درجة الدكتوراة في الأدب المعاصر عن جامعة فيينا ومشاركته في القتال إلى جانب القوات الجمهورية الاشتراكية في الحرب الأهلية الإسبانية بصفة قائد لواء برتبة كولونيل (عقيد). فقد اكتسب بار المعلومات الواسعة والفهم العميق في القضايا العسكرية رغم قلة خبرته القتالية الحقيقية. ويشار إلى أن بطلان ادعاءاته لم يثبت إلا بعد اعتقاله والتحقيق معه. وقد قدم بار إلى البلاد عام 1938 والتحق بصفة طالب باحث في الجامعة العبرية في أورشليم القدس ثم تم ضمه إلى تنظيم "الهاغاناه" [القوات العسكرية اليهودية شبه النظامية في فترة الانتداب البريطاني] بفضل المقالات التي نشرها في قضايا عسكرية. وعند إنشاء جيش الدفاع تم تعيينه مساعداً لرئيس هيئة العمليات نائب رئيس الأركان العامة فضلاً عن توليه رئاسة شعبة التخطيط التابعة لهيئة العمليات برتبة مقدَّم. غير أنه طلب عام 1949 اعتزال مهام منصبه العسكري إذ لم تتم ترقيته ومنحه منصباً آخر في هيئة العمليات، ثم أصبح يعمل بعد استقالته رئيساً لقسم الشؤون الأمنية في حزب العمال الموحَّد (مبام). واهتم بار في هذا الإطار بجمع المعلومات الاستخبارية العسكرية حول ما يجري في جيش الدفاع وكان على اتصال وثيق مع قسم المعلومات التابع للحزب الذي انشغل بجمع المعلومات السياسية والاستخبارية غير العسكرية.
بار يشق طريقه إلى المعلومات السرية
وقد فاجأ بار الكثيرين عام 1954 بانضمامه إلى الحزب الحاكم "مباي" إذ أثار الانعطاف السياسي في ميوله ردود فعل متباينة. وصار بار يلقي محاضرات أمام دورات مختلفة في جيش الدفاع في قضايا التأريخ العسكري، كما أنه تعاقد مع وزارة الدفاع على وضع كتاب عن تأريخ حرب الاستقلال بصفة موظف مدني. وتمتع بار بفضل هذا العقد بمركز مرموق يعادل رتبة عقيد مما جعله أحد الموظفين الكبار في وزارة الدفاع حيث تم بين حين وآخر إطلاعه على مستجدات الأوضاع بما في ذلك القضايا السرية.
كما سلف فإن التحول السياسي في ميول بار السياسية أثار ردود فعل مختلفة حيث استغل بار مركزه الجديد في وزارة الدفاع لخلق الانطباع وكأنه على اتصال وثيق مع دافيد بن غوريون وينتمي إلى حلقة مقرَّبيه ومستشاريه. وكان العديد من الموظفين يثقون في بار، لا بل سلمه بعضهم وثائق سرية لمطالعتها بما في ذلك تقديرات استخبارية.
الشبهات والكشف
لقد بدأ بار في أواخر الخمسينيات ينمّي علاقاته في أوروبا وقام بعدة زيارات لألمانيا وفرنسا وبريطانيا ودول غربية أخرى. والتقى بار في إحدى زياراته لألمانيا رئيس جهاز المخابرات الألمانية الجنرال غاهلين – الذي كان هدفاً من الدرجة العليا للمخابرات السوفياتية – مخالفاً بذلك تعليمات صريحة أصدرها رئيس جهاز الموساد آنذاك إيسار هرئيل.
وعندما علم هرئيل بهذا اللقاء اعتبره مؤشراً آخر مثيراً للشبهة زاد من حدة شبهاته السابقة في بار. ولم تسمح هذه الشبهات بحرمان بار من تولي منصبه في وزارة الدفاع. وبدأ جهاز الأمن العام (الشاباك) بمتابعة بار ومراقبة خطواته دون التوصل إلى نتائج قاطعة.
وقد لوحظ في شهر يناير كانون الثاني 1961 نشاط سري يمارسه رجل المخابرات السوفياتية فلاديمير سوكولوف في شمال تل أبيب. وقد أدت إجراءات تعقّب هذا الشخص يوماً بعد يوم إلى الكشف عن اجتماعه يوم ال-29 من مارس آذار 1961 مع رجل مجهول في شمال تل أبيب ، ثم تم تتبّع هذا المجهول وصولاً إلى شقة يملكها يسرائيل بار. وفي اليوم التالي تم رصد لقاء آخر عقده بار مع سوكولوف حيث سلمه وثائق سرية. وتم التحقيق مع بار في ذات الليلة فضلاً عن إجراء تفتيش دقيق في منزله تم خلاله ضبط مستندات سرية مما أدى إلى اعتقاله.
التحقيق ونتائجه
وقد استدل من التحقيق أن عملية تجنيد بار في خدمة الاتحاد السوفياتي قد بدأت عام 1956 عندما تعرف في منزل صحفي إسرائيلي على ممثل وكالة "تاس" السوفياتية للأنباء سرغي لوسييف الذي كان قد تم تشخيصه كرجل مخابرات. وأثار لوسييف أمام بار الصعوبات في عمله الصحفي: نقص مصادر المعلومات والتنديد بالاتحاد السوفياتي في الصحافة الإسرائيلية ورفض إسرائيل شرح وجهة نظرها للجانب السوفياتي. وبالتالي دعا لوسييف بار إلى القيام بدور "رجل الإعلام الإسرائيلي" حيث تم الاتفاق بينهما على عقد لقاءات متكررة. وأطلع بار المستويات المسؤولة في وزارة الدفاع على هذا التعارف، وكان إيسار هرئيل من المطّلعين على الأمر حيث أنه نبّه بار إلى أن الصحفي السوفياتي هو في الحقيقة رجل مخابرات يضمر نوايا غير بريئة.
وقد تجاهل بار هذه التحذيرات وواصل مقابلة لوسييف الذي عرّفه إلى رجلَين آخرَين يعملان لحساب المخابرات السوفياتية أحدهما فلاديمير سوكولوف الذي أنجز في شهر يناير كانون الثاني 1958 إجراءات تجنيد بار وأخذ يشغّله بصفة عميل. وقد ازدادت مطالب سوكولوف بصورة تدريجية إلحاحاً وتهديداً إذ طالب بار بمنحه معلومات حول الطاقات النووية الإسرائيلية. وادعى بار لدى التحقيق معه بأن الصدمة انتابته في تلك المرحلة ليبدأ بالتفكير في طبيعة علاقته مع الجانب السوفياتي التي بدأت حسب كلامه على خلفية سياسية لكنها تحولت إلى "أداء لعميل مخابرات بكل معنى الكلمة". وأضاف أنه فكر أيضاً بمراجعة جهاز الأمن العام بالأمر لكنه تحاشى القيام بذلك بداعي موقف إيسار هرئيل المعادي له والجدل الشديد الذي أثارته قضية لقائه المذكور بالجنرال غاهلين. وقد سلم بار رجل المخابرات السوفياتية الذي شغله – رضوخاً لضغوطه – خطط مشروع بناء قاعدة عسكرية أميركية في تركيا قامت شركة "سوليل بونيه" الإسرائيلية بإنجازه. وقد غادر سوكولوف البلاد عقب نشر خبر اعتقال بار.
وادعى بار لدى التحقيق معه بأنه أقدم على فعلته رغبةً منه في تغيير الموقف السوفياتي مما يجري في الشرق الأوسط لصالح إسرائيل. وقد أُدين بار وحُكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات. واستأنف بار الحكم الصادر بحقه إلى المحكمة العليا لكنها شددت من هذه العقوبة وجعلتها السجن لمدة 15 عاماً. وقد توفي بار خلال قضائه هذه المحكومية في شهر مايو أيار 1966.