التالي هي شهادة الفريق اول الركن نزار عبد الكريم الخزرجي " رئيس اركان الجيش العراقي السابق " ويتكلم فيها عن مشاركته في حرب اكتوبر / تشرين الاول 1973 على الجبهة السوريه
حيث كان برتبه مقدم ركن قوات خاصه وكان بمنصب امر الفوج الثاني " قوات خاصه "
حرب تشرين التي فوجئنا باندلاعها في الساعة 14:55 من 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973، فتركت المستشفى فورًا، والتحقت بوحدتي على الرغم من تحذير الأطباء، وعدم موافقتهم على خروجي خشية عواقب عدم التئام جراح العملية بعد.
كانت الأجواء في غاية الحماسة، والمعنويات في أقصاها، وكان الجميع متلهفًا للاشتراك في المعارك الدائرة في الجبهتين المصرية والسورية، وتابعنا بفخر واعتزاز عبور القوات المصرية القناة، وسيطرتها على ضفتها الشرقية، وكنا ننتظر على أحر من الجمر اندفاعها إلى الاستيلاء على الممرات في سيناء بعد عبور القناة، وسحقها القوات الإسرائيلية في خطّ بارليف. وفي الجبهة الشرقية كان اكتساح السوريين الصاعق لدفاعات العدو الصهيوني في الجولان مبعث فخرِ واعتزازِ كلِ فرد في قواتنا المسلحة. وقبل بضعة أشهر استجابت القيادة السياسية لطلب الحكومة المصرية إرسال سرب طائرات الهوكر هنتر لتعزيز قواتها الجوية (20 طائرة)، فشاركت طائراتنا باقتدار وكفاية في الضربة الأولى، وعملت بفاعلية طوال أيام الحرب.
تحركت القيادة السياسية العراقية بسرعة فائقة على الرغم من عدم إشعارها أو معرفتها بالاتفاق المشترك بين القيادتين السياسيتين السورية والمصرية على شنّ الحرب على إسرائيل، واسترجاع أراضيهما المحتلة، فأرسلت على الفور جهدًا جويًا كبيرًا إلى الجبهة السورية، ووضعته بإمرة وتصرّف قيادة القوات الجوية السورية. وفي اليوم التالي حرّكت قواتها البرية إلى الجبهة السورية تتقدمها الفرقة المدرعة الثالثة، وحملت ناقلات الدبابات المتيسّرة اللواء المدرع 12، وتلتها بقية التشكيلات المدرعة والآلية ومدفعيتها الذاتية الحركة ( المدفع ذاتي الحركة يوضع على بدن عجلة مدرعة مجنزرة ) متنقلة على الطريق إلى سورية على السرف لعدم تيسر الناقلات لمسافة أكثر من 1000 كلم لجبهة القتال في الجولان. وبعد يومين من بداية الحرب (8 تشرين الأول/أكتوبر) وصل اللواء المدرع 12 الأراضي السورية فترجّلت دباباته عن ناقلاتها التي عادت لتنقل بقية القطعات التي تتحرّك على السرف ( سرفة الدبابة تعني جنزير الدبابة ) باتجاه الأراضي السورية، واندفع اللواء المدرّع على الفور إلى هضبة الجولان.
بعد التقدم السريع للتشكيلات المدرعة السورية لتحرير هضبة الجولان الذي أجبر العدو فيها على التراجع وإخلاء الهضبة، وتمكَّنت بعض الوحدات السورية من الوصول إلى منطقة قريبة من بحيرة طبرية ( بحيرة طبرية تقع في السهل الشمالي لفلسطين المحتلة ، وكانت الحدود السورية قبل احتلال الجولان في حرب عام 1967 في الحافات الشرقية للبحيرة ) وبعد تقدير العدو الإسرائيلي للموقف العسكري في الجبهتين الشمالية السورية، والجنوبية المصرية، كانت الأسبقية عنده لمواجهة الحالة الخطرة في الجولان التي في حالة تطورها ستُوصل إلى الأهداف الحيوية الإسرائيلية في قلب الكيان الصهيوني، فحشد معظم قطعاته المدرعة وتشكيلاته المقاتلة في القاطع الشمالي، وشن هجومًا مقابلًا شاملًا على القوات السورية التي تمكَّنت من إعادة سيطرتها على كامل الجولان، وأجّل معالجة تهديد القوات المصرية شرق القناة التي تفصلها صحراء سيناء والنقب عن مدنه وأهدافه الحيوية كأسبقية ثانية، وترك قوات محدودة لمواجهة التهديد في هذه الجبهة.
يكمن الخطأ الذي ارتكبته القيادة العسكرية السورية في أن قواتها في خضم تقدمها السريع على هضبة الجولان لم تشغل الأراضي التي تحرّرت بتشكيلات المشاة لتشكيل قواعد أمينة ودفاعية قوية تستند إليها قواتها المدرعة عند قيام العدو بهجومه المقابل المتوقع، ولذلك عند حصول الهجوم تراجعت الألوية المدرعة السورية من دون قاعدة تستند إليها، الأمر الذي أدى إلى تدمير دباباتها وإخلاء هضبة الجولان بالسرعة التي احتلوها بها فأضاعوا جميع مكاسبهم، وأصبحت سورية بأجمعها مكشوفة أمام القوات الإسرائيلية المتقدمة التي ناورت بمعظم تشكيلاتها المدرعة التي كانت قد حشدتها على الجبهة السورية ثم انتقلت إلى الجبهة المصرية في الجنوب بعد أن قضت على التهديد السوري في الشمال.
أما الخطأ الذي وقعت فيه القيادة العسكرية المصرية فكان في عدم استغلالها نجاح قواتها في عبور قناة السويس، وتدمير لواء المشاة الإسرائيلي المُدافِع عن الضفة الشرقية بجبهة طولها 110 كلم، وتدميرها اللواءين المدرعين الإسرائيليين ولواء الاحتياط الإسرائيلي في جبهة القناة للهجوم المقابل، في التقدم السريع، إذ كان يجب احتلال المضايق في سيناء ( المضايق تتوسط صحراء سيناء ، واحتلال الجيش المصري للمضايق يتيح له الاندفاع إلى مرحلة ثانية لتحرير شبه جزيرة سيناء ، ويحمي قواعد الجيش المصري على الضفة الشرقية لقناة السويس ) بعد السيطرة عليها بالقوات الخاصّة وكتائب الاستطلاع العميق بحجة عدم توافر الغطاء الجوي الكافي، وتخوفها من الخروج خارج مدى دفاعاتها الجوية في وقت كانت فيه هذه الجبهة شبه فارغة من القوات البرية الإسرائيلية، وكان الجزء الأكبر من قوتهم الجوية مشتبكًا بمعارك مريرة مع الطيران السوري والطيران العراقي الذي قاتل بشجاعة وإقدام.
في 9 تشرين الأول/أكتوبر كان العدو الإسرائيلي يتعقب بسرعة كبيرة على محور القنيطرة - الكسوة - دمشق ما تبقى من التشكيلات المدرعة السورية التي خسرت معظمها من 80 إلى 90 بالمئة من دباباتها التي كانت تتراجع من دون انتظام، بينما كان اللواء العراقي المدرع 12 يتقدم مسرعًا لتغطية تراجع القوات السورية، فاصطدم بالألوية المدرعة الإسرائيلية في معركةٍ تصادفيةٍ ( هي معارك تجري من دون تخطيط مسبق بين القوات المتصارعة غير مخطط لها )
في منطقة تل الشعار - تل العدسية - تل الحارة، فدارت معارك دبابات شديدة وتدخّل الطيران الإسرائيلي، وتكبَّد الجانبان خسائر كبيرة، فاضطرت القيادة العسكرية للجبهة الشمالية للعدو إلى التوقف وإعادة تقديرها للموقف بعد أن فوجئت بالقوات المدرعة العراقية وقتالها الشرس في معركة الدبابات. وتبيّن للعدو أن الدبابات والآليات العراقية تتحرك باتجاه دمشق من بغداد بأرتال أولها في دمشق وآخرها في بغداد.
في 8 تشرين الأول/أكتوبر أصدرت رئاسة أركان الجيش أوامرها بحركة القوات الخاصّة إلى الجبهة السورية، وكان فوجي أول من أقلع بالطائرات من قاعدة كركوك العسكرية إلى مناطق تحشُّدِنا الأمامية في القاعدة الجوية H3 قرب الحدود الغربية للعراق بانتظار عجلات الفوج التي أُرسلت لنقل الفوج الخامس قوات خاصّة الذي كان في دور التشكيل قبل اندلاع الحرب مباشرة في مدينة الناصرية جنوب العراق. وحال وصول عجلات الفوج تحركنا ليلة 11- 12، وكان الأمر الذي استلمته ينص على أن نكون بإمرة الفرقة العراقية الثالثة المدرعة التي كانت تشكيلاتها المدرعة والآلية مشتبكة بالقتال مع العدو في جبهة الجولان.
فجر 12 تشرين الأول/أكتوبر وصلنا إلى قرب القاعدة الجوية جنوب دمشق وتوقفنا هناك، تركت الفوج بإمرة معاون آمر الفوج، وتحركتُ مع فصيل الاستطلاع إلى دمشق، وفي منطقة الغوطة قبل دمشق شاهدت عددًا كبيرًا من الدبابات الحديثة من نوع T62 المنتشرة على امتداد الطريق تحت ستر أشجار الغوطة. كان ذلك غريبًا، إذ يجب أن تكون هذه الدبابات الحديثة والمتفوقة في جبهة القتال بعد أن أصبح موقف الجيش السوري على الجبهة حرجًا، وفقدت تشكيلاته المدرعة كلَّ دباباتها أو معظمها، ولم يكن لدينا مثل هذه الدبابات آنذاك، إذ كان السوفيات يقدِّمون للسوريين أسلحة أحدث مقابل التسهيلات لأسطولهم في ميناءي اللاذقية وطرطوس، وكانت هذه الدبابات تعود إلى سرايا الدفاع المسؤولة عن حماية الرئيس السوري التي يقودها رفعت الأسد شقيق الرئيس، والظاهر أنها قد أُرسلت لمراقبة القوات العراقية المتدفقة على الجبهة خوفًا من قيامها بانقلاب على النظام السوري.
ذهبت إلى مقرّ آمرية الشرطة العسكرية لأستدل على مكان الفرقة المدرعة العراقية الثالثة، وبعد أخذ ورد وسلسلة طويلة من الاتصالات أخبرونا بأن مقر الفرقة العراقية موجود في أحد المعسكرات في حرجلة، فانطلقت وفصيل الاستطلاع إليها، وفي طريقي إلى هناك كنا نشاهد مجموعات من أفراد الجيش السوري تعود من الجبهة، ومعظمها من دون أسلحتها أو تجهيزاتها. وصلت حرجلة ضحى ذلك اليوم وقدّمت نفسي لقائد الفرقة العميد الركن محمد فتحي ((( العميد الركن محمد فتحي أعرفه جيدًا منذ أن كنت مرافقًا لقائد الفرقة الثانية، وكان آمرًا لأحد أفواج اللواء الرابع الذي أبلى بلاءً حسنًا في معارك بنجوين آنذاك ))) وأخبرته بوصول فوجي وباقي القوات الخاصّة التي ستصل تباعًا، وأننا قد وُضِعنا بإمرته، وأعدت فصيل الاستطلاع إلى الفوج ليدلّه على قاطع الفرقة.
أوجز لي قائد الفرقة الموقف القتالي للفرقة واللواء المدرع 12 الذي كان يقاتل تحت ضغطٍ معادٍ شديدٍ، والمشتبك منذ الصباح مع العدو في تل عنتر على الذيول الجنوبية الشرقية لهضبة الجولان وقال إن الاتصال معه قد انقطع منذ بضع ساعات، وأبدى انزعاجه من آمر اللواء لعدم الاتصال به لبيان موقف اللواء، وليس لديه صورة واضحة حاليًا عما يجري هناك، فاستأذنته في الذهاب إلى اللواء فلدي وقت كافٍ حتى وصول فوجي إلى قاطع الفرقة فوافق، وأرسل معي دليلًا من ضباط الفرقة. انطلقنا إلى قصبة كفر شمس وهي بلدة صغيرة تقع شرق تل عنتر ببضعة كيلومترات حيث مقرّ اللواء الرئيس، وأشار دليلي إلى عدد من ناقلات الأشخاص المدرعة وبعض العجلات المنتشرة بأنه مقرّ اللواء 12 فترجلنا من العجلة، وجاء أحد الضباط برتبة ملازم فسألته عن الضابط المسؤول فقال مقدّم اللواء، وهو في ناقلة الأشخاص المدرعة تلك، وأشار إليها فذهبت، وطرقت على جُدُرها فلم يردّ عليّ أحد فصعدت إلى أعلى الناقلة، وطرقت بشدّة مرات عديدة على الفتحة العلوية للناقلة، وأخيرًا أخرج ضابط ركن برتبة رائد رأسه منها، فسألته «أين آمر اللواء؟»، فأشار بيده «هناك في تل عنتر»، ثم «غطس» ثانية في الناقلة وأغلق فتحتها العلوية.
كانت المنطقة تتعرض لقصف معادٍ متقطّعٍ فترجلنا من العجلة، وتقدّمنا راجلين إلى النهاية الجنوبية لتل عنتر، وكانت في أسفل التل حفرة مستطيلة واسعة ولمحنا بضعة أشخاص ممتدين في تلك الحفرة، فتقدمنا نحوهم والتفت أحدهم وشاهدنا مقبلين عليهم فأشار بيده أن نخفض رؤوسنا، كانوا خمسة أو ستة، ولمحت من بينهم المقدم الركن سليم شاكر الأماميّ، آمر اللواء المدرع 12. كان الأماميّ من دورتي في الكلية العسكرية ومن فصيلي، وكنا نسكن القاعة نفسها في سنوات الدراسة الثلاث في الكلية، وبعد أن تخرجنا انتمينا معًا إلى الصنف المدرع، ودخلنا كلية الأركان معًا، وكان من البعثيين القدامى. كان عاري الرأس يلف رقبته بكوفية حمراء، وإلى جانبه تمتد مجموعة صغيرة من المخابرين مع أجهزتهم، وقد خفضوا الأسلاك الهوائية لأجهزتهم كي لا يرصدها العدو، وقد يكون هذا سبب انقطاع اتصالاتهم بمقرّ الفرقة، وعلى بعد خطوات منهم يمتد ضابطان سوريان برتبة عقيد.
فحييته بحرارة فقال: «من الذي أتى بك إلى هنا؟»،
فأجبته مازحًا: «هل تعتقد أن الحرب يمكن أن تنتهي من دوني؟»،
فسألني وعلامات القلق على وجهه: «ما الذي يقولونه عني هناك؟»، وأشار إلى الخلف
فقلت متعمدًا كي أرفع معنوياته: «يقولون إنك تقوم بعمل جيد»،
فاختفت علامات القلق عن وجهه وانطلقت أساريره بشرًا. وقال: «نزار انظر (وأشار إلى العقيدين السوريين) هذان العقيدان يعملان بإمرتي»، وكان يبدو سعيدًا بذلك.
قلت: «سليم أريد أن تشرح لي الموقف»،
قال: «نقاتل في تل عنتر بعد أن اضطرّرنا إلى الانسحاب لتفوّق العدو الكبير. إلى اليمين من تل عنتر كتيبة قتيبة، وقد انقطع اتصالي بآمرها الرائد الركن هادي الراوي، وسأحاسبه على ذلك (كانت دبابة الرائد الراوي قد دمّرت واستشهد فيها)، وإلى اليسار من تل عنتر كتيبة المعتصم، وآمرها الرائد الركن زهير قاسم شكري، وقد انقطع اتصالي به وسأحاسبه أيضًا (كانت دبابة القيادة التي فيها آمر الكتيبة الرائد زهير قد دمُرت فانتقل إلى دبابة أخرى للقتال ولم يكن فيها اتصال باللواء)». وأضاف: «إلى اليسار أيضًا، أترى ناقلات المشاة المدرعة تلك؟ (وأشار إليها). هي ما تبقى من الفوج الآلي للواء، ولا أعرف مصير آمر الفوج المقدّم الركن حازم الجنابي». كان مقرّ الفوج الآلي قد حُوصر من دبابات العدو في فجر ذلك اليوم، واستطاعوا أسر ناقلات مقرّ الفوج، وكان المقدّم الركن حازم من ضمن الأسرى، وفي الليل تعرضت المجموعة الإسرائيلية التي تحرس أسرى الفوج الآلي لقصف مدفعي كثيف فاستتروا من شدّة القصف فانتهز المقدّم الركن حازم ومجموعة من ضباط الصف والجنود هذا الموقف، وتمكنوا من التملص من العدو والعودة إلى قطعاتنا صباح اليوم التالي.
سألت سليم: «وأين هو العدو الآن؟»،
فأشار بيده، وقال: «هناك على تلك المرتفعات المشرفة على تل عنتر»، وسمّاها لي إلى اليمين تل المال، وفي الوسط تل لا أذكر اسمه، وإلى اليسار تل قرين.
كان قصف العدو متقطعًا على مقرّ اللواء سليم الأماميّ ومجموعته وقنابله تئز وهي تمرّ من فوق رؤوسنا لتنفجر بعيدًا منا، وكنت أخفض رأسي لاإراديًا عند مرورها فوق رؤوسنا،
فقال: «نزار، لا تخفض رأسك عند سماع أزيزها فالقنبلة التي تقتلك لن تسمعها»، وكان محقًا بقوله ذلك.
بعد قليل جاءت مجموعة أخرى من الضباط يتقدّمهم آمر اللواء السادس المدرع الرائد الركن غازي العمر التكريتي من عائلة الرئيس البكر، الذي تولّى آمرية لواء مدرع من دون أن يكون مؤهلًا لهذا المنصب، فجعله خاملًا وغير فاعل، ومعه عدد من ضباطه للاستطلاع. ولتكاثر أعدادنا في أسفل الوادي كثف العدو قصفه علينا فسارع آمر اللواء المدرع وضباطه بالمغادرة بعد أن قال: «لقد رأينا ما يكفي». بعد ذهابهم التفتُّ إلى آمر اللواء وقلت له: «سليم، سنقوم هذه الليلة بمهاجمة أولئك الأوغاد على تلك التلال».
كان فوجي قد وصل حرجلة عندما وصلتُ مقرّ الفرقة، فاختير معسكر اللواء السبعين المدرّع السوري مكانًا لنا. وقال لي معاون آمر الفوج الذي قاده في تنقله إلى حرجلة إن العميد الركن إسماعيل تايه النعيمي ((( العميد الركن إسماعيل تايه النعيمي، والعميد الركن عبد المنعم لفتة الريفيّ كلاهما عمل في الفرقة الثانية في عهد قيادة اللواء إبراهيم الأنصاريّ، وكان إسماعيل آمرًا للواء الرابع، وعبد المنعم لفتة ضابط الركن الأول في مقرّ الفرقة، وتقلد إسماعيل تايه مناصب متعددة في ما بعد منها قيادة فرقة. وفي أثناء الحرب العراقية - الإيرانية تولى قيادة فيلق، وصار معاونًا لرئيس أركان الجيش أما اللواء الركن عبد المنعم لفتة، فقد أحيل على التقاعد برتبة لواء ركن في منتصف السبعينيات ))) والعميد الركن منعم لفتة من ضباط الارتباط بين الأركان العامة العراقية والقيادة السورية التقياه عند تنقله إلى هنا، وطلبا منه تغيير اتجاه تنقله إلى جهة أخرى لتكليفه بواجب طارئ، لكنه رفض بعد أن أخبرهما بأن الأوامر لديه بأن يكون بإمرة الفرقة المدرعة الثالثة، وأراهما الأمر الصادر بذلك فتركاه يواصل تنقله إلى حرجلة، الأمر الذي يدل على الإرباك في المعلومات والارتجال في عمل الركن.
جمعت ضباط الفوج، وأوجزت لهم الموقف على الجبهة، وقلت: «أعلم أنكم متعبون لكنها الحرب، وسنهاجم العدو هذه الليلة»،
ذهبت إلى مقرّ قيادة الفرقة، وأخبرت القائد أن فوجي سيهاجم العدو على المرتفعات الشمالية المشرفة والمسيطرة على تل عنتر هذه الليلة فوافق على ذلك. واستدعى ضابط ركن الاستخبارات وطلب منه مَدِّي بالمعلومات الضرورية لتنفيذنا الواجب فذهبت معه وكانت معلوماته جيدة. ولمّا سألته عن ذلك أخبرني أن الخبراء الروس في الأركان العامة السورية يزوّدون السوريين بالمعلومات التي تصل إليهم من مصادرهم، والفرقة تتلقّى معلوماتها من الاستخبارات العسكرية السورية. كانت الأقمار التجسسية الروسية تحصل على معلومات دقيقة عن أعداد العدو وأماكن وجوده، وفاعلياته يوميًا، ويزوّد الروس السوريين بما يعتقدون أنهم بحاجة إليه. فأخذتُ المعلومات وتعداد القوة المعادية في المرتفعات الشمالية لتل عنتر ثم التقيت ضابط ركن المدفعية للفرقة لرسم الخطة النارية، والجهد الناري المطلوب لإسناد العملية، فأمّن لنا ضابطَ مدفعية مع شبكته اللاسلكية، وعدنا إلى مقرّ الفوج وأوجزت لهم الحالة مع خرائط مؤشرة.
كانت الخطة بسيطة ومباشرة، ثلاث مجموعات اقتحام تنطلق من القاعدة في تل عنتر إلى أهدافها في التلال الثلاث بهجوم صامت، وبكلمة رمزية مني تضرب العدو فيها، وتنسحب تحت ستار نيران مدفعيتنا، وطلبت منهم إكمال متطلبات العملية وأخذ قسط من الراحة.
مع حلول الظلام انطلقنا بالعجلات بتعتيم كامل إلى كفر ناسج، وترجّلنا فيها للتنقل إلى منطقة انطلاقنا في تل عنتر وفق الخطة، فأخبرنا ضابط من اللواء المدرع 12 أن التل قد أصبح في أيدي الإسرائيليين بعد انسحاب وحدات اللواء منه، وكان أمامي خياران: أن أُلغي العملية؛ أو أن أغيّر خطة الهجوم في ضوء الموقف الجديد، فقرّرت تغيير خطة الهجوم وأجريت تعديلًا لأماكن انطلاق مجموعات القتال ومواقيت تنفيذ الهجوم، واستغرق ذلك وقتًا ليس بالقليل، فاضطررت إلى تحديد الساعة 4.00 موعدًا لسحب المجموعات سواء أوصلت إلى أهدافها أم لم تصل. وفعلًا لم تستطع المجموعتان اليمنى والوسطى من الوصول إلى أهدافهما قبل الساعة 4.00 فسحبتهما من دون أن تنفذا هجوميهما، وتمكَّنت المجموعة اليسرى من مهاجمة العدو في تل قرين ضمن التوقيت، وانسحبت من دون أن نتمكَّن من تحديد خسائر العدو.
في اليوم التالي، وصلت آمرية القوات وباقي الأفواج واستقر الجميع في معسكرات اللواء المدرع السبعين، وكانت التشكيلات المدرعة والآلية العراقية تصل تباعًا إلى مناطق تحشُّدها جنوب الجولان، وكنا نتنقل بين مقرّ قيادة الفرقة للحصول على المعلومات والجبهة لتدقيقها على الأرض ومتابعة فاعليات العدو.
أوقفت قوات العدو الإسرائيلي تقدّمها وتحولت إلى الدفاع، وشرعت في العمل على تحصين مواضعها الدفاعية وتحسينها، بعد أن حصلت على المعلومات عن تتابع وصول القوات العراقية إلى الجبهة السورية وحشدها. كان الأميركيون من خلال قدراتهم التجسسية بالأقمار الصناعية والوسائل الأخرى يزوّدون الإسرائيليين بالمعلومات التي يحصلون عليها.
من المعلومات التي تحصل عليها قيادة الفرقة الثالثة المدرعة من القيادة السورية عن العدو يوميًا، التي أكدتها الاستطلاعات الدقيقة التي قمنا بها ومتابعتنا المستمرة لفاعليات العدو، استطعنا تحديد قوة العدو، وتوزيع قطعاته في مناطق وجوده في تل عنتر والمرتفعات الشمالية المشرفة التي كان يحتلها بلواء مدرع معززٍ بالمشاة الآلي، يشغل التلال الشمالية الثلاث بمجموعات قتال «درع/مشاة آلي» بتعداد سريّة لكل منها. أما قوة اللواء الرئيسة فكانت في تل عنتر، وتل أحمد المجاور، والوادي الواقع بينهما، واقتصرت فاعلياته نهارًا على مشاغلتنا بنيران مدفعيته ودباباته من معلومات مراصده الأمامية، فيما تقتصر أعماله ليلًا على تحكيم مواضعه الدفاعية وإدامة عجلاته ودباباته في منطقة الوادي بين تل عنتر وتل أحمد.
كان اللواء المدرّع الإسرائيلي في تل عنتر هدف الهجوم الذي سنقوم به، وبُني تصميم العملية على تنفيذ غارة خاطفة ومفاجأة للعدو في منطقة وجوده الرئيسة في تل عنتر والوادي، وعلى حجز ومشاغلة مجموعاته القتالية المتمركزة في التلال الشمالية ومقرّه ومدفعيته، ومنعها من التدخّل والتأثير في قوتنا المهاجمة. وبناءً عليه ركّزت الخطة على خطة نارية محكمة وهجوم مباغت، كما يلي:
الخطة النارية:
تشمل نيران حجز ومشاغلة للعدو المتمركز في التلال الشمالية المشرفة وعلى مقرّاته ومدفعيته في العمق:
- نيرانًا لضرب أهداف العملية الرئيسة بعد إكمال المجموعات القتالية صولتها على العدو مباشرة.
- إبقاء العدو تحت تأثير نيران مدفعيتنا لحين انسحاب المجموعات القتالية إلى مسافات ملائمة بعد تنفيذ واجباتها.
خطة الهجوم:
وهي التسلّل ليلًا إلى المنطقة الكائنة شرق تل عنتر ثم الاستدارة غربًا باتجاه التل، والتقرب منه.
تكون مثابةُ مقرّ الفوج لقيادة العملية في النقطة التي تستدير منها مجموعات القتال (((هي عبارة عن مجموعة القتال قوة تنظم ضمن الفوج من اشخاص واسلحة لتلائم الواجب ، وأي الهدف التي تهاجمهُ باتجاه أهدافها )))
- تتقرب مجموعات القتال من أهدافها وتكمن في خطوط صولاتها.
- بالكلمة الرمزية المحددة تهجم المجموعات القتالية وتباغت العدو بضرباتٍ قويةٍ وسريعةٍ وفاعلةٍ.
- حال شروع المجموعات القتالية في صولتها تفتح المدفعية نيرانها لحجز ومشاغلة مدفعية العدو ومقراته ومجموعات قتاله الموجودة في التلال الشمالية المشرفة، ومنعها من التدخّل في أثناء التنفيذ.
- بعد إكمال مجموعات القتال أهدافها تنسحب فورًا، وتشرع مدفعية الإسناد المباشر في ضرب الأهداف التي هوجمت بالدخان لإعمائها، وستر انسحاب مجموعاتنا القتالية.
- بعد انسحاب مجموعاتنا القتالية إلى مسافة أمينة وبأمر من مقرنا تضرب مدفعية الإسناد المباشر الأهداف الرئيسة في تل عنتر والوادي بنيران كثيفة لتدمير أكبر ما يمكن من قطعات العدو ومعداته.
- تعود مجموعات القتال ومقرّ الفوج إلى أماكن انطلاقهما في كفر شمس.
قوة الهجوم:
- 120 مقاتلًا و4 ضباط بأسلحة خفيفة وقاذفات مضادة للدبابات (RBG). مقسمه على 3 مجموعات قتال.
- المجموعة الرئيسة بقوة 60 مقاتلًا وضابطين، واجبها مهاجمة العدو في منطقة إدامته في الوادي بين تل عنتر، وتل أحمد.
- مجموعتان بقوة 30 مقاتلًا وضابط لكلٍّ منها، واجبها مهاجمة العدو على تل عنتر ومرصديه الشمالي والجنوبي.
وتم تخصيص الجهد المدفعي كما يلي:
- كتيبة إسناد مباشر عراقية لتغطية مجموعات القتال بعد إكمال واجباتها، برمي الدخان لستر انسحابها.
- 3 كتائب إسناد سورية لضرب الأهداف الرئيسة في تل عنتر والوادي بعد انسحاب المجموعات القتالية.
- كتيبتا صواريخ سورية لحجز ومشاغلة مدفعية العدو ومقراته ومجموعاته.
- 3 كتائب مدفعية (((كتيبة المدفعية تتألف من 3 بطاريات مدفعية تتألف كل منها من ثلاثة رعائل مدفعية، ويتحدد عدد المدافع وفق نوع الكتيبة ومهماتها ووفق عيار المدفع، لكن عدد 18 - 24 مدفعًا لكل كتيبة هو المقياس المعمول به عمومًا، وتخصص عادة كتيبة مدفعية ميدان واحدة لإسناد لواء المشاة )) سورية للقتال في التلال الشمالية المشرفة.
كان نجاح العملية يعتمد على المباغتة والسرعة في التنفيذ وخطة نارية محكمة. بعد الانتهاء من إعداد الخطة واختيار المقاتلين والضباط للمجموعات الثلاث، شرعت المجموعات باستطلاعاتها وتهيئة متطلباتها وتأمينها.
ذهبت إلى قيادة الفرقة، وأوجزت للقائد مجمل الخطة فأرسل معي ضابط ارتباط من مقر الفرقة إلى الآمر المدفعي السوري لتأمين الجهد الناري، وفق الخطة النارية لعملية الهجوم. كان الآمر المدفعي السوري في كفر ناسج فبحثنا عنه طويلًا حتى عثرنا عليه نائمًا في غرفة صغيرة لدار سكنية اتخذها مقرًا لمدفعية القاطع، وكان يرقد على سريرٍ حديديٍّ، وعليه حشية قذرة.
عندما دخلنا عليه وقدّمت له نفسي: «المقدّم الركن قوات خاصّة نزار الخزرجيّ آمر الفوج الثاني قوات خاصّة العراقية»، فرك عينيه الحمراوين وكان وجهه النحيف متعبًا يبدو عليه الإرهاق، ولم يكن قد حلق لحيته من أيام عدة. ابتسم، وقال: «أهلين بالقوات الخاصّة العراقية»، وطلب لنا شايًا. نهض عن سريره، وأشار إليّ لأجلس إلى المنضدة الخشبية الصغيرة في زاوية الغرفة وجلس قبالتي.
قلت: «سأهاجم بفوجي قوات العدو في تل عنتر»،
ظهر الاهتمام على وجهه، وفرش الخريطة على المنضدة فعرضت عليه قائمة الأهداف المطلوب ضربها ومعالجتها. وسألني: «ومتى ستهاجمون؟».
فأجبته: «هذه الليلة».
قال: «ليس هناك أي مشكلة سأؤمن لكم ما تطلبونه»، وبدأ يدقق قائمة الأهداف بإمعان، ويسجل الجهد المدفعي المطلوب إزاء كل منها. كان يقرأ الأهداف، ويتمتم «نعم هذا جيد، ممتاز ليست هناك أي مشكلة. لدينا كل ما تحتاجونه، وأكثر».
قلت: «أنا شاكر لك كثيرًا، والآن أرجو أن تأمر أحد ضباطكم ليرافقني، ويدير نيران الكتائب التي تفضلتم بتخصيصها لنا في أثناء تنفيذ الهجوم».
قال: «نعم، نعم بالطبع»، ونادى أحد رجاله فقدِم ضابط برتبة نقيب وأدى التحية. قال له: «هذا آمر فوج قوات خاصّة عراقية، وسيهاجم العدو الصهيوني هذه الليلة، وقد خصصنا له جهدًا مدفعيًا لإسناد هجومه، وأريدك أن تذهب معه لإدارة نيران الكتائب التي خصصناها لإسناده».
فأجابه النقيب باستهانة: «لا أستطيع الذهاب سيدي».
فاستفسر العقيد: «لماذا؟»،
أجاب النقيب: «عندي شغل سيدي».
هز العقيد رأسه، وقال: «حسنًا، أرسل لي الملازم الأول فلانًا»،
ولما جاء الملازم الأول أخبره العقيد آمر المدفعية بالواجب، فاعتذر هو الآخر بأنه لا يستطيع الذهاب لأن لديه عملًا. فصاح العقيد بغضب: «ولك روح امشي»، ونظر نحوي معتذرًا. كدتُ ألّا أصدق ما أراه أمامي، إذ كيف يعتذر المادون عن تنفيذ أمر آمره؟ وأين؟ في الحرب وفي ساحة العمليات وبمواجهة العدو ولا يُقدّم إلى محكمة ميدانية فورية؟! هل هكذا هو الضبط والربط في الجيش السوري؟ أم أنه بسبب الإرهاق والظروف الصعبة التي يمرون بها؟ لكن ألا تتدرب القطعات للعمل في مثل هذه الأوضاع؟ وهل يُفسر ذلك سرعة انهيار الجيش السوري بعد بضعة أيام من القتال؟
عند الباب كان يقف ضابط الارتباط العراقي الذي جاء معي وهو يتابع ما يجري، وإلى جانبه يقف ضابط سوري قصير القامة ضئيلها وغامق السمرة بشكل يسترعي النظر، وكان برتبة ملازم ثانٍ. اندفع هذا الملازم داخل الغرفة وأدى التحية بنشاط، وصاح بصوت عالٍ: «أنا أذهب لأموت مع القوات الخاصّة العراقية سيدي».
تهلل وجه العقيد آمر المدفعية السوري وردّ بانفعال وبلهجته السورية المحببة: «ولك هدول قوات خاصّة عراقية. هدول ما بيموتوا. هدول بيموّتوا. يالله توكل على الله، وروح معاهم».
أدى الملازم الثاني التحية بنشاط والفرح يغمر وجهه الغامق السمرة وخرج. وعندما تركت العقيد وخرجت ربتُّ على كتفه مشجعًا، وسألته: «ما اسمك؟ ومن أي منطقة أنت؟»
فأجاب بفخر واعتزاز: «اسمي أحمد، وأصلي عراقي شمّري (من عشيرة شمّر المشهورة التي تقيم في المنطقة الشمالية الغربية من العراق وتمتد إلى الداخل السوري، ورجالها مشهورون بالشجاعة والإقدام) وأنا من منطقة البوكمال الحدودية مع العراق».
بعد عودتنا إلى معسكرنا التقيت بضباط قوة الواجب والمراتب فيها، وكان الجميع في أعلى درجات الثقة والاستعداد النفسي والإصرار على إنجاز واجبهم على أكمل وجه. وحضر اللقاء الرائد الركن وضاح عبد الستار آمر الفوج الأول قوات خاصّة وهو من ضباط القوات الخاصّة الجيدين، وطلب مرافقتي في هذه العملية. وتولّى الرائد وضاح قيادة فرقة مشاة في الحرب العراقية - الإيرانية، وأصبح آمرًا للقوات الخاصّة في حرب الخليج الثانية ثم أحيل على التقاعد، قُتل برصاصة في رأسه في حادثة سير مفتعلة أعقبها شجار في عام 1994..
ترقبوا الجزء الثاني قريبا ان شاء الله ......