في الفترة بين 3 و8 أيار/مايو، استضافت العاصمة الأمريكية واشنطن وفداً رفيع المستوى من «حكومة إقليم كردستان» بزعامة الرئيس مسعود بارزاني. وشمل الوفد من بين وزراء ومسؤولين آخرين من «حكومة الإقليم»، نائب رئيس الوزراء قوباد طالباني، ومستشار الأمن القومي مسرور بارزاني، ووزير البيشمركة مصطفى سيد قادر.
وقد تغيّرت أمور كثيرة في السنوات الثلاث الماضية منذ الزيارة الأخيرة التي قام بها بارزاني إلى البيت الأبيض. ففي ذلك الوقت كان العراق - بعد مرور ستة أشهر فقط من انسحاب القوات الأمريكية - ذكرى سيئة ترغب إدارة أوباما في نسيانها. إلا أن العراق هو اليوم المسرح الرئيسي للحرب ضد التنظيم الذي يُطلق على نفسه اسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية».
وبنفس القدر من الأهمية، توترت العلاقات الأمريكية الكردية بشدّة منذ زيارة بارزاني في حزيران/ يونيو 2012. وكانت واشنطن قد رفضت تأييد محاولة متعددة الطوائف تزعّمها بارزاني في مايو/أيار 2012 للإطاحة برئيس الوزراء نوري المالكي.
وفي أعقاب ذلك بدأ رئيس الوزراء العراقي بإرسال قوات عسكرية اتحادية مجهزة [بأسلحة] أمريكية إلى حدود كردستان، حتى أنه قال لجنرالاته بأنهم قد يزحفون إلى أربيل ذات يوم، ولكن فقط بعد أن يتمّ تسليم طائرات أمريكية الصنع من طراز "أف-16" للعراق.
وستهبط أول دفعة من هذه الطائرات من طراز "أف-16" في العراق في منتصف تموز/يوليو، وستبدأ بالعمل في الأجواء العراقية بحلول خريف هذا العام.
المخاوف الكردية حول نقل الأسلحة
في خضمّ هذه الأجواء، شهدت الأشهر التسعة الماضية استياءً متزايداً بين القيادات الكردية بسبب مستوى الدعم العسكري الأمريكي لقوات البيشمركة، القوة القتالية في كردستان.
وعلى وجه الخصوص، شكا الأكراد من أنّ واشنطن قد خصّصت نسبةً قليلة جداً من "صندوق تدريب وتجهيز العراق" الذي تبلغ قيمته 1.6 مليار دولار كمساعدة إلى كردستان.
وتشمل شكاوى محددة كمية المعدات المخصصة لكردستان، والأكثر معروفاً في هذا المجال نقل 25 مركبة فقط من المركبات المدرعة "المقاومة للألغام المحمية من الكمائن" إلى الأكراد من أصل 250 مركبة خصصتها الولايات المتحدة للعراق.
ويشكل التسليم البطيء وغير المباشر لأنظمة الأسلحة الأمريكية مصدر قلق ذو صلة أيضاً. فقد اختارت واشنطن توجيه معظم شحنات الأسلحة عبر وزارة الدفاع الاتحادية العراقية، وهي الجهة الوحيدة المخوّلة لتوقيع شهادات المستخدم النهائي للأسلحة بموجب القانون الأمريكي.
ويعتقد الأكراد أنّ الحكومة الاتحادية تتعمّد التباطؤ في نقل هذه المركبات المنقذة للحياة من بغداد إلى أربيل، حتى أنّ المسؤولين الأكراد يشكون سراً من أنّ المركبات المدرعة "المقاومة للألغام المحمية من الكمائن" التي تمّ إرسالها إلى «حكومة إقليم كردستان» تعرّضت للتخريب أثناء عملية النقل.
وكرد فعل على هذه الآراء، أدخلت "لجنة الخدمات المسلحة" في مجلس النواب الأمريكي أحكاماً في "قانون إقرار الدفاع الوطني" السنوي - ميزانية وزارة الدفاع - في محاولة منها لحماية حصة الأكراد العادلة من الأسلحة الأمريكية.
وتم تعديل مشروع "قانون إقرار الدفاع الوطني" المُشهّر للسنة المالية 2016، والذي هو نسخة مبكرة وغير مصادق عليها من القانون النهائي، لإدراج فقرة (البند 1223) تصف البيشمركة بأنها مجموعة من عدد من قوات الأمن التي يحقّ لها جماعياً بالحصول على "ما لا يقل عن 25 في المائة" من الدعم الأمريكي السنوي البالغ 715 مليون دولار.
أمّا النقطة الأكثر إثارة للجدل، فهي أنّ التعديل يسمح لـ «حكومة إقليم كردستان» كـ "دولة" بـ "تلقي المساعدة مباشرة من الولايات المتحدة" إذا تخلّفت بغداد عن احترام الشرط الآنف الذكر، وقد تسبّب هذا البند بتهديدات أمنية من قادة الميليشيات الشيعية ضدّ المدربين الأمريكيين في العراق.
تراجع الأكراد عن حافة الهاوية
ربما أصبحت الزيارة إلى واشنطن العاصمة في بداية أيار/مايو مجرد معركة أخرى في الصراع الآخذ في التفاقم بين واشنطن وأربيل، ولكنّ الأكراد اعتمدوا نهجاً مختلفاً. فمن خلال قراءة صحيحة للإشارات من العاصمة الأمريكية، تراجعت أربيل بذكاء عن حافة الهاوية من هجوم مدمّر موجّه نحو السياسة الداخلية الأمريكية.
وربما حظي التعديل المؤيد للأكراد لمشروع "قانون إقرار الدفاع الوطني" باهتمام واشنطن، ولكن لو تمّ دفعه إلى أقصى الحدود، لكان سيلحق الضرر بالقضية الكردية في النهاية.
وقد احتجت بغداد على لغة هذا القانون، وأشار نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في إحدى الأيام قبل وصول الوفد الكردي إلى أنّ "جميع المساعدات العسكرية الأمريكية في الحرب ضدّ تنظيم «الدولة الإسلامية» تأتي بناءً على طلب من الحكومة العراقية، ويجب تنسيقها عن طريق الحكومة العراقية".
لقد واجه البند 1223 من "قانون إقرار الدفاع الوطني" إدارةً أمريكية كانت ستدافع بشدة عن صلاحياتها بشأن المسائل العسكرية العملياتية، وربما كان مقدراً لهذا البند أن يُحارب من أجله ويتم حذفه في النهاية قبل عرض مشروع القانون على مجلس الشيوخ الأمريكي لتصديقه.
ولكن بدلاً من أن يحاول بارزاني إجبار البيت الأبيض على دعم كردستان من خلال سياسة الضغط، يبدو أنه قد اعتمد رؤية طويلة الأمد في تعامله مع الولايات المتحدة في مجال الدفاع.
وهذه خطوة ذكية من قبله؛ لأنّ البند 1223 لم يمنح الأكراد الكثير - حيث تقاسموا ربع المواد الأمريكية بشكل جماعي مع المستفيدين من القوات شبه العسكرية من العرب السُنة - ولكنه كان سيتسبّب قيام توتر كبير في العلاقات مع إدارة أوباما في وقت حرج.
يمكن اصطياد المزيد من الذباب بالعسل
وصل أكراد العراق إلى واشنطن العاصمة مع نيّة واضحة لتعزيز علاقاتهم مع السلطة التنفيذية الأمريكية، وليس لإعادة تقديم المظالم الماضية أو فتح معارك جديدة. وكانت هذه المقاربة منتظرة منذ فترة طويلة.
وكانت نبرة الزيارة الكردية إيجابية في جميع النواحي: فقد استغل بارزاني كلّ فرصة ليشكر الحكومة الأمريكية والجيش والشعب الأمريكي على تأثيرهم الحاسم على الضربات الجوية والدعم العسكري الآخر ضد غزو «داعش» لـ «حكومة إقليم كردستان» في آب/أغسطس 2014.
وفيما يتعلّق بالأسلحة، تجنّب بارزاني بدهاء [الانخراط في] القضية الخلافية لمشروع "قانون إقرار الدفاع الوطني" من خلال قبول الضمانات الأمريكية بأنّ الولايات المتحدة وشركاءها سيوفرون "الأسلحة اللازمة" دون السعي لوضع صيغة إلزامية على البيت الأبيض.
وربما كانت هذه المرونة هي التي حوّلت "المقابلة القصيرة" للرئيس الأمريكي باراك أوباما، التي كان من المقرر أن تستمر لمدة خمس دقائق في قاعة روزفلت بالبيت الأبيض، إلى نقاش لمدة ساعة مع بارزاني بشأن العلاقة بين الولايات المتحدة والأكراد.
واستمع الأكراد بإمعان أيضاً لإحاطات أمريكية متعمّقة بشأن شحنات الأسلحة المخصصة لإثبات أنّ واشنطن كانت - من خلال معاييرها البطيئة باعترافها - تتحرك بأسرع ما يمكن لتوصيل المساعدات العسكرية للأكراد.
وبالمثل، أظهرت وزارة الدفاع الأمريكية بشكل قاطع للأكراد أنّ بعض الادعاءات - مثل نزع السلطات الاتحادية العراقية للدروع من المركبات "المقاومة للألغام المحمية من الكمائن" المتجهة الى «حكومة إقليم كردستان» - لم تكن صحيحة على الإطلاق.
كما أن بارزاني كان إيجابياً باستمرار تجاه نظيره في حكومة العراق الاتحادية رئيس الوزراء حيدر العبادي.
وقال بارزاني للحضور في مركز بحوث في واشنطن: "سنواصل مساعدته"، مخفياً شكوك الأكراد العميقة حول نيّة العبادي وقدرته على الوفاء بالوعود المالية وتقاسم السلطة.
وقد تحققت هذه الشكوك بالفعل من خلال الدفعة الشهرية للأكراد التي كانت أقلّ من المتوقع وبلغت 445 مليون دولار، والتي تمّ الكشف عنها أثناء تواجد الأكراد في واشنطن، ولكنّهم اختاروا بحكمة عدم توجيه أي انتقادات علنية إلى حين انتهاء الزيارة.
وبشأن العملية المستقبلية لتحرير الموصل - التي وصفها بارزاني بأنها السبيل الوحيد لتحقيق "الهزيمة الاستراتيجية" لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» - وعد الأكراد "بالقيام بكلّ ما يُطلب منّا"، باستثناء احتلال المناطق العربية.
وكانت هذه أيضاً وسيلة ذكية لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، في الوقت الذي ما زالت فيه واشنطن تعتبر معركة الموصل حيوية؛ وقد جاء ذلك عندما تراجع القادة العراقيون الاتحاديون تدريجياً عن الاهتمام بالمدينة الشمالية لصالح شن عمليات في الأنبار وصلاح الدين التي تأتي بفائدة وقائية مباشرة أكبر إلى الشيعة في وسط العراق.
لعبة النفس الطويل
اتسم الأداء الكردي في واشنطن بالجماعية. وكان النهج الصَبور لبارزاني ممكناً - ويعود ذلك جزئياً لأنه أكبر صناع القرار من بين الأكراد العراقيين، وليس مسؤولاً تابعاً لسلطة أعلى في مكان آخر.
وقد أشار بارزاني إلى الهدف الفعلي للزيارة عندما قال: " تشكل محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» الأولوية في الوقت الراهن، لكن عملية تقرير المصير ستستمر".
ومن وجهة النظر الكردية، وفّرت هذه الزيارة "فحص طبي لموضوع الإستقلال" وفقاً لوصف السفير العراقي في واشنطن لقمان الفيلي، أي فرصة للبحث مع الأمريكيين وجهة نظرهم بشأن حقّ الأكراد في تقرير مصيرهم في منتصف الولاية الرئاسية [في الولايات المتحدة].
ويبدو أنّ الأكراد تلقوا ردّاً محايداً من الأمريكيين فيما يتعلق بـ "عملية تقرير المصير"، وسيعتبرون ذلك بمثابة ضوء أخضر لمواصلة التحرك تدريجياً وسلمياً نحو الاستقلال الاقتصادي والاعتراف الشرعي بدولتهم في وقت لاحق.
وتحظى «حكومة إقليم كردستان» بدعم قوي من الكونغرس الأمريكي ومن غير المرجح أن تفقده طالما لا تستنزف نفوذها أو تستنفد حماس أنصارها في مرحلة مبكرة جداً.
كما يحظى الأكراد بدعم حازم ومتزايد من وزارة الدفاع الأمريكية، شريكتهم في القتال ضد تنظيم «داعش»، والمشغلة الأساسية للقاعدة الأمريكية الجديدة المتوسطة الأجل في مطار البشير في حرير، كردستان.
أما العقبات المتبقية فهي البيت الأبيض و"مجلس الأمن القومي" - وكلاهما سيضمّان رئيساً جديداً وأعضاء جدد في "المجلس" في أوائل عام 2017 - ووزارة الخارجية الأمريكية التي تميل إلى دعم السلطات في بغداد.
ومن خلال تسهيل عبء الإدارة الأمريكية في العراق على المدى القريب، يبدو أنّ الأكراد قد بدؤوا بمحاولة اجتذاب الحلفاء المتبقين للضغط من أجل الاستقلال والاعتراف الدولي.
---------------------
الكاتب : مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن ومقره في بوسطن.