ساحة المعركة:
الحدود الجنوبية الكويتية السعودية. و بالحديد الشريط الحدود المستقيم من البحر لغاية اقصى غرب الحدود (تسمى نقطة المراقبة 4، و فيها مركز قيادة القوة الحدودية مع 30 جندي امريكي و بعض افراد الجيش السعودي لاحظ الخارطة في الاسفل). قررت القيادة العراقية التقدم على محورين: جنوبي شمالي على الساحل لدخول مدينة الخفجي الحدودية، و شمالي جنوبي اقصى غرب الحدود لاحتلال النقطة 4.
انتشرت قوة من 1200 من المارينز لتغطية المنطقة كاملة حول النقطة 4 لتكون ستار حماية لفرقة المارينز الاولى المتمركزة في منطقة كبريت على بعد 50 كم جنوبا.
كانت مهمة القوات الامريكية مراقبة العراقيين و توجيه ضربات التحالف الجوية لو لزم الامر. و باستثناء حادث دهس قتل فيه 3 جنود من الطرف الامريكي، لم يشهد اول اسبوعين من الحرب الكثير من الخسائر للطرف الامريكي، لكنه كان عامرا بالاشتباكات المدفعية و القصف الجوي. حيث بدأ المارينز يدخلون بما يشبه كمائن قصف متحركة، حيث تتقدم قوات حماية لداخل الكويت، تتبعها المدفعية الامريكية (التي كان مداها اقصر من مدى المدافع العراقية الثقيلة) و تقوم بالقصف بشكل سريع و تنسحب خلال اقل من 13 دقيقة، و ذلك قبل ان يكون للعراقيين فرصة الرد و التسجيل و تصحيح الرمي. و في تلك الاثناء كانت راجمات الصواريخ (و التي كان لها مدى رمي اكبر من المدفعية الامريكية) تراقب الموقف للتدخل في حال الضرورة. اما العراقيين فكانوا يردون بقصف الخفجي نهارا (و كانت تتم الساعة 8 تقريبا كل يوما و سماها المارينز "احمد الساعة 8". و قد قرر الامريكان اخلاء المدينة و ابقاء قوات رصد بسيطة على اطرافها.
يوم 26 يناير بدأ العراقيون بالتشويش على اللاسلكي الامريكي، شمل التشويش موجات UHF , VHF و HF. و بالتالي انعزلت كتبيتي الحراسة باستثناء نظام SINCGARS الذي يقوم بتغيير ذبذبات الارسال بسرعة حتى لا يتم التشويش عليه. تم انذار القوات و حاول المقدم Cliff Myers الاتصال بالقيادة العليا بدون اي نجاح. و ماهي الا دقائق حتى نبهتهم وحدات اخرى الى حركة القوات العراقية على الجانب الكويتي. و تم تنبيه العقيد الى تقدم حوالي 50 اليه عراقية الى موقعه. و قام الخط الامامي - 7 جنود مع رشاشات و بضعة صواريخ TOW - بتحضير مواضع دفاعية و انتظروا العراقيين.
انتظر الامريكان حتى وصلت القافلة العراقية لمسافة 100 متر قبل بدء الاطلاق. تم اصابة دبابة T-55 و تعطل التقدم العراقي قليلا، و اطلق الخط الدفاعي الاول اشارة ضوئية للاستغاثة. لمح المقدم الاشارة من مركز القيادة و ارسل كامل السرية نحو الخط الدفاعي (كانت الاليات تبعد 5 كم غرب النقطة). و اصبح للامريكان 7 مدرعات مسلحة بتاو حراري مع مناظير ليلية و 13 مدرعة مسلحة برشاشات 25 مم بدون قدرات رؤية ليلية. و عليه تم ابقاء مدرعات الرشاشات في الخلف. و اطلق اول 3 صواريخ تاو بدون اي اصابات عراقية، بل ان الصاروخ الثالث ضرب مدرعة امريكية مواجهة للعراقيين و قتل 4 امريكان.
نتوقف لحظة لدراسة هذا التحرك العسكري العراقي:
هدف التحرك: حسب كتاب (قبل ان يغادرنا التاريخ) للفريق الحمداني، فقد زار الرئيس صدام حسين الفيلق الثالث بقيادة اللواء صلاح عبود. و طلب منه شن هجوم بمستوى فرقة لاحتلال الخفجي لجر العدو للحرب البرية، و تم اختيار الفرقة الالية الخامسة بقيادة العميد ياسين المعيني و اسناد الفرقة المدرعة الاولى (العميد حسين زيدان) و الفرقة الالية الاولى (العميد حسين حسن) (مصادر اخرى تذكر انها كانت الفرقة الالية الثالثة و الخارطة توضح دور الفرقتين في الهجوم واحدة للجنوب و الاخرى للغرب).
و كانت هذه الفرق من افضل فرق الجيش العراقي، و شاركت بشكل مهم في سلسلة الهجمات في اخر سنتين من الحرب العراقية الايرانية. و كانت الخطة ان تتقدم الفرقة الالية على طول الحدود و تشتبك مع العدو بحثا عن نقطة ضعف. و الاشتباك مع القوات العربية المسؤولة عن الدفاع عن القاطع، و بينما تكون قوات المشاة بتثبيت القوات المدافعة، تقوم الفرقة الالية بالهجوم عليها من الجهة الغربية لحصر القوات المدافعة بين المشاة الالية العراقية شمالا و الفرقة المدرعة العراقية من الغرب و شاطيء البحر من الشمال. و بعدها يتم الانسحاب.
هذا عن التصور العراقي لشكل الدفاعات العراقية. و هو تعامل يشابه تعامل العراقيين مع الجيش الايراني في اخر سنتين من الحرب بينهما. حيث توجد قوات دفاع بشكل كبير على الجبهة على شكل انساق. و لكن الامريكان كانوا يخوضون معركة من نوع اخر. فلم توجد بالكاد اي قوات امام القوات العراقية على الحدود. فالوجود في الصحراء يعني انه يمكنك مبادلة الارض مقابل الافضلية التكتيكية. و كانت خطة الجيش الامريكي الدفاعية هي ترك العراقيين يتقدمون و لم توجد امامهم غير عربات مدولبة (سرعة الحركة تصل 90 كم للساعة) مع صواريخ تاو تقوم بالدفاع المتحرك و المشاغلة و التراجع القتالي. و خلف هذه التشكيلات توجد منطقة قتل بعمق 30 كم تكون فيها القوات العراقية وليمة للطيران و المدفعية الامريكية. و بعدها كانت توجد الدروع الامريكية. و هذا الترتيب جنب الدروع الامريكية التعرض للمدفعية العراقية طويلة المدى.
و نتابع مع الهجوم العراقي الرئيسي، حيث تقع مدينة الخفجي جنوب الكويت بحوالي 10 كم، و كانت مدينة حدودية صغيرة يسكنها 15 الف نسمة. غادروها اول ايام الحرب بسبب القصف العراقيى. و كانت توجد قوة نخبة امريكيى عدد 20 للرصد و تحديد مواضع قصف الطيران. و تقع قوة اكبر على بعد 50 كم جنوبا. و امضى كلا الطرفين اول اسبوعين من الحرب بضرب الصواريخ و استدعاء الطيران و التحرش النيراني. و كانت اكبر ضربة جوية امريكية ادت لمقتل العشرات من الجنود العراقيين يوم 26 يناير.
بعدها بثلاثة ايام بدأ فريق الرصد يتابع نشاطا عراقيا مكثفا. و شملت الحركة - على غير العادة تحريك دبابات و شاحنات في وضح النهار في مساحة مشجرة تدعى غابات الوفرة. و تم استدعاء طائرات A-10 و طائرات الهاريير. و لا حظ الامريكان العراقيين كانوا حريصين على ازالة اي حطام مدمر عن الطرق الحدودي. و استسلم 3 جنود للامريكان و اخبروهم عند الاستجواب ان الضباط الكبار في الفرقة قد هربوا شمالا (و على الارجح كان الامر مدبرا لخداع الامريكان). و بالتالي استبعد الامريكان اي هجوم على المدى القريب.
عند المساء استمر الامريكان في الرصد بالمناظير الحرارية. و تم رصد تحرك اكثر من 100 عربة عراقية تتقدم تجاه الحدود. طلبت القوات الامريكية دعما جويا، لكن كل الطائرات المتوفرة كانت مشغولة بالتعامل مع الهجوم العراقي المموه من الجهة الغربية (النقطة 4 و الهجوم الغربي). و خلال ساعة عبرت طليعة القوات العراقية الحدود و انسحب الجنود الامريكان من الموقع. في موقع اخر مجاور استطاع الامريكان توجيه عدة غارات من طائرات الكوبرا المروحية قبل ان ينسحبوا بدورهم.
و توالت التحذيرات و الانسحابات من القوات الامريكي و القوات السعودية من النقاط الحدودية و شمال ووسط المدينة و تم التجمع على حدودها الجنوبية عند محطة تحلية المياه التي تحوي برجا مرتفعا، حيث يمكن رصد الاربع طرق الرئيسية المؤدية للمدينة. و من الجدير بالذكر، ان الامريكان تركوا بعض معداتهم و خرائط عسكرية! و لم ينتبه العراقيون او لم يتح لهم الوقت لتفتيش المقار و الحصول على هذه المكاسب بدليل ان الامريكان وجدوا كل شيء على حاله عندما عادوا بعد بضعة ايام! و بعد تقدير حجم القوة العراقية تم الانسحاب لمدينة المشعاب جنوبا. لقد نجح العراق في احتلال مدينة الخفجي السعودية. الجدير بالذكر انه بقي للامريكان 12 جندي في المدينة (مجموعتين من 6 افراد) كانوا ينفذوا مهام اخرى و لم يتمكنوا من سماع تعليمات الانسحاب. و عندما اتضح الموقف كان القرار ان تبقى هذه القوات مختفية داخل المدينة و تقوم بتوجيه النيران بدل ان تنسحب معرضة نفسها للخطر.
من جهة قيادة الاركان الامريكية فقد كان هناك مفاجأة و حيرة و صدمة:
المفاجاة كانت من حسن التخطيط العراقية و من سرعة و حجم الهجوم، اضافة للمستوى العالي التكتيكي للقوات المهاجمة (وهذه شهادة تقدير للضباط في تلك الفرق).
الحيرة كانت من دوافع الهجوم العراقي، فمدينة الخفجي لا قيمة استراتيجية لها. و احتلالها لن يأتي بأكثر من فرقعة اعلامية لا تستحق التضحية بفرقة الية كاملة ستكون معرضة للتدمير بمجرد ان يبدأ طيران التحالف التعامل معها. و لكن هذا قد لا يتم قبل يوم او يومين، و بالتالي امام القوات الامريكية المدافعة مهمة التعامل مع القوات العراقية بمعركة ندية حتى ذلك الوقت، و اهم خطوات ذلك هو توقع مدى الهجوم العراقي، تحريك 3 فرق لاحتلال مدينة صغيرة ام ان العراق سوف يدخل اعمق للجنوب. و هنا نأتي للصدمة:
الصدمة تأتي عندما نعرف ان جنوب الخفجي تقع مدينة المشعاب التي تحوي ميناء مهم و مخازن للتزويد للامريكان و على عجل تم زرع 500 كغم من المتفجرات على الطريق بين الخفجي و المشعاب عند النقطة التي يمر فيها الطريق من مستنقعات لتعطيل حركة العراقيين لو ارادوا الهجوم. الخيار الثاني للعراقيين، و الاكثر قلقا للامريكان كان قاعدة كبريت العسكرية، فهي لا تبعد عن الحدود اكثر من 20 كم و فيها مستودعات هائلة للسلاح وضعها الجيش الامريكي للتحضير للعملية البرية. نعم عزيزي القاريء، لو عرف العراق بسر هذه القاعدة ( الغير محمية ضد اي هجوم) لتم احباط الهجوم الامريكي البري ﻷسابيع طويلة! و هو مثال على سوء تخطيط امريكي على مستوى العمليات اللوجستية، و برهان على ان اهم سلاح في الحرب هو المعلومة. و قي بدايات المعركة تمكن الامريكان من صد معظم الهجمات العراقية باستثناء الجهد الرئيسي باتجاه الخفجي. و بالتالي حقق الجيش العراقي المطلوب، و لكن الساعة تدق بسرعة قبل عودة طيران التحالف. يتبع
المصادر:
R. Atkinson - Crusade
K. Pollack - Arabs at War
الحمداني - قبل ان يغادرنا التاريخ