عامان فقط مضت على وجود النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله في المدينة، وهو يصل الليل بالنهار في صياغة المجتمع الاسلامي وبناء أسس الدولة والحضارة الاسلامية، وهذا ما كان يقضّ مضاجع المشركين والكفار لانهم وجدوا انفسهم امام كيان جديد يحمل كل صفات وعوامل القوة والمنعة، حيث الاخوة والايمان والقيم الانسانية، تجلّت في المجتمع الاسلامي الصغير آنذاك، مما يدفع المشركين للتخطيط والتفكير في محاولة إلحاق الأذى بهذا المنجز الحضاري.
وهذا ما أدركه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بما له من الحنكة والتدبير والمعرفة الدقيقة بنمط تفكير المشركين ومقاصدهم، فكان أن قرر اتخاذ خطوة استباقية يقطع الطريق عليهم، أو يحجم وجودهم في مكة قبل القضاء عليهم نهائياً. فكان القرار باستهداف قافلة تجارية لقريش قادمة من الشام وهي تحمل بضائع وسلع مختلفة بأثمان عالية جداً، كما يتحدث عنها المؤرخون. هذه القافلة كانت بقيادة "ابو سفيان"، فخرج اليها النبي مع اصحابه للاستيلاء عليها، فبلغ الخبر قائد القافلة، فعمد الى تغيير المسير والابتعاد عن المسلمين، ثم طلب النجدة من اصحابه في مكة، ولما سمع المشركون الخبر، أعدّوا العدة بهدف حماية ممتلكاتهم في القافلة التجارية الضخمة.
وحسبما يذكر المؤرخون، فان ابتعاد القافلة عن دائرة الخطر، أنهى المبرر في وقوع القتال بين الجانبين، بيد ان اصرار المشركين على القتال هو الذي دفع النبي لتجهيز اصحابه وإعداد العدّة للمواجهة. وربما تصور المشركون أنهم من خلال هذه الحرب يغتنمون الفرصة للقضاء على الاسلام في منطقة بعيدة، ويقتلون النبي الأكرم واصحابه، وينتهي كل شيء. بيد أن عوامل عدة غيرت مسار الاحداث لغير صالحهم، وتخلق حدثاً تاريخياً فاصلاً شكل بداية لانطلاقة الاسلام وتعزيز مكانته ودعائمه في الجزيرة العربية والعالم.
المشورة للحرب الدفاعية
لم يتوجه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، الى القافلة التجارية مع رجال مدججين بالسلاح بقصد الحرب والقتال، إنما الهدف هو توجيه ضربة اقتصادية مباشرة الى المشركين الذين كانوا يعتمدون في قوتهم العسكرية لضرب المسلمين ومطاردتهم حتى المدينة، على التجارة مع مختلف الامصار، لاسيما الشام. وقرار الاستيلاء على القافلة كان لضرب الشريان الحيوي للمشركين، ثم تحقيق اكبر نسبة من الامن والاستقرار لمجتمع المدينة الحديث النشوء.
لذا عندما عرف النبي نية مشركي قريش بالزحف نحوه والاصرار على خوض القتال، توجه الى اصحابه يستشيرهم في الامر، ويستجلي المواقف والرؤى لدى اصحابه، فقام المقداد فقال: يا رسول الله..! إنّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك والله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}، ولكنّا نقول: امض لأمر ربّك فإنّا معك مقاتلون.. فجزّاه رسول الله، صلى الله عليه وآله، خيراً على قوله ذاك.
وقام سعد بن معاذ وهو من الأنصار ـ فقال: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، إنّا قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند الله، فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا ان نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعلّ الله عزّ وجلّ أن يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله.
هذه المواقف الشجاعة المنطلقة من الإيمان العميق، بعثت الارتياح والسرور في نفس رسول الله، صلى الله عليه وآله، فقال: سيروا على بركة الله، فإنّ الله عزّ وجلّ قد وعدني إحدى الطائفتين، ولن يخلف الله وعده.. وكانت الآية الكريمة قد نزلت وهي تقول: {وإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدىَ الطَّائِفَتَيْن أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ويَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرين}.
وفي يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، توجه المسلمون نحو منطقة "بدر" والاسم مشتق من بئر كانت هناك، وتبعد (160) كيلو متراً عن المدينة المنوّرة. وكان عدد جيش المسلمين (313) رجلاً، معهم سبعون بعيراً، وفرسان أحدهما للزبير بن العوام والآخر للمقداد بن الأسود. بينما خرج المشركون في تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ومعهم سبعمائة بعير، ومائتي فرس.
ما بعد الحرب
لقد انتصر المسلمون على المشركين في هذه الحرب الظافرة، بإيمانهم ومعنوياتهم العالية، وهذا ما جعل من ذكرى "غزوة بدر" الدرس البليغ والعظيم عبر التاريخ للأجيال ولمن ينشد النصر والغلبة وتحكيم القيم والمبادئ. فالمسألة لن تكون دائماً بالعدّة العدد والتجهيزات العسكرية والدعم اللوجستي والاستخبارات وغيرها من مستلزمات الحرب وشروط الانتصار، إنما هنالك الجانب المعنوي المؤثر والمصيري، وعلى هذا الخط حقق المسلمون انتصارات عديدة في الغزوات في حياة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، كما جربوا ذلك ايضاً في بعض المعارك التي خاضوها خلال فتوحاتهم الاسلامية.
والدليل للتاريخ والاجيال على أن "غزوة بدر" لم تكون هجومية، إنما حرب دفاعية، الطريقة التي تعامل معها النبي مع أسرى الحرب من المشركين، وكانوا سبعين رجلاً، فعمد رسول الله، صلى الله عليه وآله، مرة أخرى للاستشارة، وهو درس آخر في الحروب الدفاعية التي يقصد فيها التغيير والإصلاح، لا الدمار وسفك الدماء. فوجد الغلظة في بعض اصحابه، إذ قال "عمر": يا رسول الله.. أطعني فيما أشير به عليك..! قدّم عمّك العباس واضرب عنقه بيدك، وقدّم عقيلاً إلى أخيه علي يضرب عنقه، وقدّم كلّ أسير إلى أقرب الناس إليه يقتله. فكره رسول الله، صلى الله عليه وآله، ذلك، كأنّه كره تسليم كلّ أسير إلى الأقرب إليه لما فيه من الجفاء.
بينما رغب سائر المسلمون في فداء الأسرى دون قتلهم؛ ليتقوّوا بالمال، فقبل رسول الله، صلى الله عليه وآله، الفداء أكثره أربعة آلاف درهم وأقله ألف، وأطلق رسول الله، جماعة بغير فداء، فنزلت الآية الكريمة: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتّقُواْ اللهَ إِنّ اللهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ}.
وكانت حصيلة المعركة استشهاد أربعة عشر رجلاً، من المهاجرين والأنصار، ومقتل اثنان وخمسون رجلاً، قتل الإمام علي، عليه السلام، منهم مع الذين اشترك في قتلهم أربعة وعشرين رجلاً.
وعاد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، الى المدينة وقد حقق أول انتصار عسكري وسياسي، أطاح بهيبة المشركين وبالتحديد مشركي قريش في مكة، في الجزيرة العربية، ورفع شأن المسلمين بعد ان حققوا مكاسب مادية ومعنوية جمّة، كانت منطلقاً لنشر الرسالة في المنطقة والعالم بنفس النهج الدفاعي، والمؤرخون يؤكدون هذه الحقيقة، بان الشعوب والأمم كانت ترى السجايا والخصال والمكارم لدى المسلمين قبل ان ترى بريق سيوفهم وتهديداتهم واستفزازاتهم، كما هو الحال اليوم لدى بعض الجماعات المتلبسة برداء الإسلام كذباً وزوراً، ومعها بعض الدول الانظمة الحاكمة. لذا كان الاسلام ينتشر كالماء العذب على الارض الجدب وبسرعة فائقة أبهرت العالم. لكن في مقابل ذلك التقدم الحضاري، نلاحظ اليوم التقهقر والتمزّق والتناحر بين المسلمين، بل والتنافس والتسابق على التكفير والذبح والتصفية الجسدية بالجملة. وهي مفارقة تدعو الى التأمّل حقاً.