لقد عملت لصالح المخابرات السوفيتية كي جي بي أكثر من 35 عاما في قلب العاصمة البريطانية لندن، بل وفي قلب مركز تطوير البرنامج النووي البريطاني، ولم تستطع المخابرات البريطانية مي 5 كشفها لو لا خيانة أحدهم في موسكو.
بفضلها كان ستالين يعرف عن المشروع النووي البريطاني أكثر من رئيس المخابرات البريطانية مي 5.
بفضل المعلومات التي كانت ترسلها "هولا" (اسمها المستعار أو الحركي) إلى موسكو استطاع الاتحاد السوفييتي أن يسرع برنامجه لصنع القنبلة الذرية لمدة عامين على أقل تقدير.
سمع عنها العالم منذ فترة قريبة نسبيا، بعد أن عاشت 93 عاما مثالا للجاسوسية العالمية، مثالا يحتذى به طيلة عمل إستخباراتي دام أكثر من 35 سنة. أصبحت مشهورة بعد هروب فاسيلي ميتروخين الضابط السابق في المخابرات السوفيتية إلى الغرب في عام 1992 حاملا معه مجموعة من وثائق أرشيف كي جي بي، التي نشرها فيما بعد والمعروفة باسم "وثائق ميتروخين".
فمن هي العجوز الساحرة "هولا"؟
ولدت ميليتا نوروود ( اسم عائلتها زيرنيس) 25 مارس \ آذار 1912 في مدينة بوكيسدون (إحدى ضواحي مدينة بورنموث في مقاطعة دورست، إنكلترا) وتوفيت في 2 يونيو\ حزيران 2005 .
والدها ألكسندر زيرنيس كان ناشطا فعالا في حركة الديمقراطيين الإشتراكيين في جمهورية لاتفيا، هاجر إلى إنكلترا وشارك هناك أيضا في الحركة الإشتراكية البريطانية.
والدتها مواطنة إنكليزية وعضو فعال في الحركة النسائية الاشتراكية.
بعد وفاة زوجها انتقلت والدة ميليتا مع ابنتاها إلى مدينة كرايسثيرن بالقرب من بورنموث، حيث كان يعيش عدد كبير من المهاجرين الروس. هناك ترعرعت ميليتا التي كانوا يسمونها ليتي الصغيرة (ليتي من كلمة لاتفيا) وتعلمت أبجدية العمل السياسي ضمن هذه الحشود من المهاجرين، فانظمت في التاسعة عشر من عمرها إلى نقابة الموظفين والسكرتارية. حصلت على تعليمها العالي من جامعة ساوثهامبتون (درست اللغة اللاتينية والمنطق).
منذ عام 1932 بدأت تعمل سكرتيرة في الجمعية البريطانية لدراسة المعادن غير الحديدية (الملونة).
انضمت إلى حزب العمل المستقل في عام 1933 وبعد حله عام 1935، أصبحت عضوا في الحزب الشيوعي البريطاني وهي في الرابعة والعشرين من عمرها.
في عام 1937 تزوجت ميليتا من الشيوعي البريطاني، مدرس الرياضيات هيلر نوروود (توفي عام 1986).
في نفس العام الذي تزوجت فيه، 1937 بدأت "هولا" تعاونها مع المخابرات العسكرية السوفيتية. كانت تساعد السوفييت منطلقة من قناعاتها الشخصية والمبادئ التي تؤمن بها رافضة أي أجر مقابل عملها، كانت متضامنة مع الشعب السوفييتي قلبا وقالبا.
الانخراط في العمل التجسسي
من الوهلة الأولى تبدو ميليتا امرأة عادية لايميزها شيء عن غيرها، ولكنها كانت تعمل في مكان خاص وغير عادي تحت اسم بريء "الجمعية البريطانية لدراسة المعادن غير الحديدية" (British Non-Ferrous Metals Research Association ) .
تحت هذا الاسم كانت تختبأ واحدة من أهم شركات المملكة المتحدة التي بنهاية الحرب العالمية الثانية كانت تدرس خصائص اليورانيوم في إطار مشروع حكومي "Tube elloyz " (سبائك الأنابيب المعدنية) لصناعة أسلحة نووية.
في البداية لم تدخل "هولا" ضمن قائمة عملاء الاتحاد السوفييتي الأساسيين رغم أنها كانت السكرتيرة الخاصة لمدير الجمعية البريطانية. ولكن عندما بدأت بريطانية العمل على صناعة القنبلة الذرية في سبتمبر\ أيلول 1941، ازداد دور ميليتا، لأن الجمعية بدأت تدرس خصائص اليورانيوم من أجل صناعة القنبلة النووية. وكانت أغلب نتائج الدراسات المتعلقة بمشروع "Tube elloyz " تمر عن طريق مدير ميليتا.
وانخرطت ميليتا نوروود بنقل هذه الوثائق والدراسات إلى مسؤولها في العمل التجسسي (على الأغلب كانت أورسولا كوتشينسكي "صوني") عميلة الهيئة العامة للإستخبارات السوفيتية في إنكلترا.
امتحان الثقة
عندما عادت ميليتا من إجازة الأمومة 1944 بعد ولادة إبنتها، أصبحت سكرتيرة خاصة للمدير الجديد للجمعية "بيلي" الذي شارك مباشرة في مشروع القنبلة الذرية، لذلك كان على المخابرات البريطانية مي 5 أن تمتحن نوروود "امتحان ثقة" وعلى الرغم من أن ميليتا ووالديها كانوا من اليساريين ولا يخفون ذلك، سمحت المخابرات البريطانية لها بالعمل، عدا ذلك كان المدير يثق بها كثيرا حتى أنه أعطاها مفاتيح الخزائن التي كان يحتفظ فيها بالوثائق الهامة عن المشروع، وهكذا سنحت الفرصة لميليتا بتصوير جميع الوثائق والدراسات عن مشروع إنشاء أول قنبلة نووية، وإيصالها إلى موسكو.
في الاتحاد السوفييتي كانوا يعلمون بتركيبة القنبلة الذرية البريطانية
في اكتوبر\ تشرين الأول 1952 أجريت، في جزيرة مونتي بيلو بالقرب من الساحل الشمالي الغربي لأوستراليا، تجارب ناجحة على أول قنبلة ذرية بريطانية. وبفضل "هولا" كانوا في الاتحاد السوفييتي على علم بتركيبة هذه القنبلة وميزاتها ونتائج التجارب التي جرت عليها.
لم تقتصر المعلومات المنقولة عن طريق "هولا" على مشروع القنبلة النووية، بل طالت أيضا دراسات المعادن غير الحديدية (الملونة) وكان الاتحاد السوفييتي يستخدم هذه النتائج في صناعاته.
بالإضافة إلى نقل المعلومات شاركت نوروود أيضا في تجنيد عملاء جدد، ففي عام 1965 مثلا بدأت تعمل على تجنيد موظف مدني، اسمه المستعار لدى الكي جي بي "هانت" والذي أصبح يعمل لصالح المخابرات السوفيتية منذ عام 1967 وعلى مدى 14 عاما من الخدمة نقل إلى موسكو وثائق علمية تقنية ومعلومات عن مبيعات بريطانية من الأسلحة.
نظرا لأهمية دور ميليتا، وللحفاظ على سريتها، كانت "هولا" تلتقي مع مسؤولها الأمني 4-5 مرات فقط في السنة.
منذ عام 1962 فرزت المخابرات السوفيتية معاشا تقاعديا لنوروود قدره 20 جنيها استرلينيا في الشهر.
في عام 1972 خرجت نوروود إلى التقاعد رسميا، وعندها امتنعت عن تلقي المعاش السوفييتي قائلة أن لديها القدر الكافي من الدخل.
بعد توقيع اتفاق هلسنكي 1975 بين الشرق والغرب وحلول مرحلة "الإنفراج" في العلاقات، زارت ميليتا الاتحاد السوفييتي مرتين كسائحة.
خلال زيارتها الثانية عام 1979 تم تقليدها وسام "الراية الحمراء" الذي صدر قرار بمنحها إياه عام 1958.
بعد توقفها عن العمل مع المخابرات السوفيتية عام 1972 بقيت ميليتا على قناعاتها الشيوعية وتابعت بعد موت زوجها 1986 نشاطها الفعال في الحركة اليسارية.
الفضيحة
أول شكوك ظهرت عند المخابرات البريطانية "مي5" عن نوروود كانت عام 1945 ، وبحلول عام 1965 كانت أجهزة الإستخبارات البريطانية تقريبا على قناعة أنها عميلة للمخابرات السوفيتية كي جي بي. ولكن لم تكن لديها أدلة على ذلك إلى أن هرب الضابط السابق في الكي جي بي فاسيلي ميتروخين إلى بريطانيا 1992 وسلم إلى المي5 وثائق أخذها معه.
في 11 سبتمبر\ أيلول عام 1999 سمع العالم كله عن ميليتا نوروود، عندما قامت الصحيفة اللندنية "تايمز" بنشر صورة "هولا" على الصفحة الأولى مع مقالة طويلة عن تعاونها مع المخابرات السوفيتية.
علم الصحفيون عنها فقط يوم صدور كتاب "وثائق ميتروخين: كي جي بي في أوروبا والغرب" الذي ألفه بروفيسور جامعة كامبريدج كريستوفر أندرو مع فاسيلي ميتروخين.
تلقت ميليتا خبر كشفها من قبل فاسيلي ميتروخين بشجاعة وعزة، وخرجت إلى الصحفيين الذين كانوا يطوقون بيتها في لندن وقالت لهم "أنا الآن كبيرة في السن ولا أستطيع تذكر كل شيء، لقد كنت فقط موظفة ولست خبيرة، لقد أردت منع هزيمة هذا النظام الذي أعطى الناس البسطاء الخبز، والتعليم، والرعاية الصحية، أعتقدت أن الوثائق التي تمكنت من الوصول إليها ممكن أن تكون مفيدة لروسيا، وممكن أن تساعدها على أن تكون ندا لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا. عموما أنا لا أؤيد التجسس على الوطن، لقد فعلت ما فعلت بنية حسنة، رغم أن الكثيرين لن يفهموا ذلك، وسأفعل ذلك مرة أخرى في ظروف مماثلة".
في وقت لاحق تحدثت نوروود عن الأسباب التي جعلتها تقدم على هذه الخطوة " أردت أن تتكلم روسيا مع الغرب على قدم المساواة، فعلت كل ذلك لأنني توقعت أنهم سيهجمون على روسيا حال إنتهاء الحرب مع ألمانيا. تشامبرلين (آرثر نيفيل تشامبرلين رئيس وزراء بريطانيا مايو\ أيار 1937- مايو 1940) أراد في عام 1939 الهجوم على روسيا، وهو الذي دفع هتلر نحو الشرق. اعتقدت أن روسيا يجب أن تملك حق وإمكانية الدفاع عن النفس، لأن العالم كله كان يقف ضدها، وضد تجربتها الفريدة، بالإضافة إلى أنها عانت كثيرا من ويلات الحرب مع ألمانيا، في الحرب كان الروس يحاربون إلى جانبنا، وليس من العدل أن لا نعطيهم فرصة كي يصنعوا قنبلتهم الذرية".
لم تقدم بريطانية على محاكمة نوروود!
بدأت فضيحة في بريطانية بعد مقالة "التايمز" وطلب حزب المحافظين المعارض بمحاكمة العجوز الجاسوسة البالغة من العمر 87 عاما، رغم كبر سنها، وطلبت آن ويديكومب، النائبة في البرلمان البريطاني، عضوة حزب المحافظين المعارض، من الحكومة أن تقدم فورا توضيحات عن قضية نوروود، وصرحت أن السن المتقدم لا يجب أن يحول دون محاكمة ميليتا.
في النتيجة اضطر وزير الداخلية البريطاني آنذاك جاك سترو أن يعترف أن المخابرات البريطانية كانت في عام 1992 على علم بأسماء وعناوين عملاء المخابرات السوفيتية السابقين، ولم يتم الإعلان عن ذلك، لأن القيادة السياسية لم ترد أن تعترف بفشل المخابرات البريطانية ونجاح المخابرات السوفيتية.
وهكذا أعلنت النيابة العامة البريطانية أنها قررت عدم ملاحقة العجوز، أو كما كانوا يسمونها في الكي جي بي "الجدة الكبرى".
ومن الغريب أن علاقة جيران ميليتا نوروود لم تتغير معها، وكانوا دائما يصبحون عليها عندما يرونها في حديقة منزلها في ضاحية بكسلي هيث الهادئة في لندن، وهي تعتني بالتفاح وتصنع المربى، وبقوا يعتبرونها ساحرة إلى أن توفيت في 2 يونيو\ حزيرن عام 2005.