وصل أربعمائة بحار روسي إلى ميناء سان ـ نازير الفرنسي المُطلّ على المحيط الأطلسي على متن باخرة " سمولني" التدريبية قادمين من مدينة كرونشتاد الروسية، ومن المقرر أن يقوم هؤلاء خلال الأشهر القريبة القادمة بدراسة بنية ونظام تشغيل وقيادة سفن" ميسترال" الفرنسية الحاملة للطائرات المروحية، وكان الجانب الفرنسي قد أنهى بناء سفينة من هذا الطراز تحمل اسم " فلاديفوستوك" حيث أبحرت عدة مرات لإجراء الاختبارات عليها، أما السفينة الأخرى التي تحمل اسم " سيفاستوبول" فتنتظر وصول جزئها الخلفي الذي تم بناؤه في مصنع " البلطيق" الروسي، حيث تقوم قاطرة هولندية حالياً بسحب هذا الجزء من سانت ـ بطرسبورغ إلى مصنع شركة DCNS الفرنسية.
يبدو الحدث عادياً، إحدى الجهات تبني سفينة حربية لجهة أخرى، فكم مرة جرى توقيع مثل هذه العقود في العالم؟ ولكن قصة سفن " ميسترال" لاقت صدى كبيراً بشكل غير متوقع، فحولها تثرثر وسائل الإعلام، وعنها يتحدث الرؤساء والوزراء وكبار الشخصيات السياسية في أهم دول العالم.
الابتزاز مقابل الالتزامات
وعلى سبيل المثال، فقد تقدمت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي إلى قيادة حلف الناتو مؤخراً باقتراح شراء سفن " ميسترال" من فرنسا حتى لا تحصل روسيا عليها، أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فقد أعرب خلال لقائه في بروكسل مع نظرائه في مجموعة السبعة الكبار عن قلقه من واقع أن باريس تبني حاملات طائرات للأسطول الحربي الروسي، حتى أن وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس كان مضطراً ليصرح بإمكانية تعليق الصفقة مع موسكو بخصوص هذه السفن. وفي هذا الصدد أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقاء مع سفراء روسيا قائلاً: " نعلم مقدار الضغوط التي يمارسها شركاؤنا الأمريكيون على فرنسا بهدف منعها من توريد " ميسترال" إلى روسيا، ونعلم أنهم ألمحوا إلى أنه إذا لم يورّد الفرنسيون " ميسترال" فسوف تُرفع العقوبات تدريجياً عن البنوك، وعلى أقل تقدير، فإنهم سوف يقلصونها إلى الحد الأدنى، ماذا يعني ذلك إذا لم يكن ابتزازاً، أيعقل أن يكون العمل على الساحة الدولية بهذه الطريقة؟".
وفي الحقيقة فإن الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند طمأن روسيا وأعلن قائلاً بأن" فرنسا سوف تنفذ عقدها، ولا ترى سبباً لعدم توريد السفن في موعدها المحدد، وبالطبع، فإنه في الحالات الطارئة، إذا ما اتُخذت ( بحق روسيا) عقوبات اقتصادية أوروبية، فعندئذ سيكون الوضع مختلفاً".
ولكن لم تُتخذ أية عقوبات أوروبية ضد روسيا، وها هي شركة DCNS، كما الحكومة الفرنسية، تتابع بأمانة تنفيذ التزاماتها وفق العقد المبرم مع موسكو.
هل توجد بالفعل حاجة ماسة لسفن " ميسترال"؟
بَيد أن العقد الذي أُبرم بين موسكو وباريس في يونيو/ حزيران من عام 2011 بمبادرة من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي لا يحظى بترحيب الجميع داخل روسيا، فما زال بعض الخبراء العسكريين يؤكدون بأن الأسطول الحربي الروسي لا يحتاج لمثل هذه السفن، أولاً، لأنها مصمَّمة لعمليات الإنزال عند الشواطئ الأجنبية، بينما لا تدخل مثل هذه المهمة في العقيدة العسكرية الروسية، وثانياً، جرى بناء السفن في المناطق الجنوبية، أما في البحار الروسية الشمالية، ولا سيما في فصل الشتاء، فإن قطع الجليد سوف تهدد جوانبها غير المتينة، وثالثاً، فإن تسليح هذه السفن ضعيف جداً، فهي غير محمية من الهواء أو الماء، وبحاجة إلى مرافقة سفن الحراسة الحربية، ما يجرّ وراءه نفقات كبيرة. من جانبه صرح الأميرال فلاديمير كومويدوف رئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون الدفاع والقائد السابق لأسطول البحر الأسود بأنه " يجب أن نشكر الفرنسيين إذا ما تخلوا عن العقد بخصوص Mistral".
وفي الحقيقة فإن هناك رأياً آخر، وعلى سبيل المثال، يعتقد الأميرال فلاديمير فيسوتسكي القائد العام السابق لسلاح البحرية الروسية بأن حاملات المروحيات الفرنسية مناسبة بصورة ممتازة لقيادة مجموعات السفن، بما في ذلك في البحر الأبيض المتوسط حيث تتواجد حالياً سفن حربية روسية بشكل دائم، وبالإضافة إلى ذلك فقد تصبح سفن " ميسترال" مستشفى عائماً، أو وسيلة لنقل المعدات العسكرية من منطقة إلى أخرى، فهذه السفينة قادرة على حمل حوالي خمس عشرة دبابة وستين ناقلة جند مدرعة، وهذه كتيبة مشاة آلية معززة تقريباً.
كما توجد حجة قوية لصالح " ميسترال"، فمن خلال مشاركتها في بناء هذه السفن ( يجري بناء الجزء الخلفي منها في الأحواض الروسية لصناعة السفن، وسوف يُجهّز بأسلحة روسية هناك أيضاً) سوف تحصل روسيا على تكنولوجيات جديدة، وسوف تتعلم بناء السفن بسرعة وبنوعية ممتازة ( يبني الفرنسيون سفينة "ميسترال" خلال سنة ونصف، بينما لا تعرف صناعة السفن الروسية مثل هذه الوتائر حتى الآن).
ليست المسألة سياسية فقط
في الوقت الذي ما زال فيه النقاش حول سفن " ميسترال" على أشده، فإن موسكو لم تقرر أين ستكون أماكن مرابطتها بدقة، أما من الناحية المبدئية فإن سفينة " فلاديفوستوك" سوف تلتحق في عام 2015 بأسطول المحيط الهادي بعد تجهيزها بأسلحة جديدة، أما سفينة " سيفاستوبول" التي ستكون جاهزة في عام 2017 فمن المتوقع أن تصبح قاعدة للمرفأ التاسع في حوض سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم.
لا نعرف ما الذي ستؤول إليه الأمور، ولكن المهم أن العمل على بناء السفن ما زال مستمراً، وأن باريس، بخلاف الضغوط الجدية من حلفائها ما وراء الأطلسيين والأوروبيين، تنفذ التزاماتها بأمانة.
غير أن بعض ألسنة السوء تتحدث عن أن السياسة ـ في هذه الحالة ـ تتراجع أمام الاقتصاد، ذلك أنه مقابل التراجع عن العقد أمام روسيا، سوف تضطر باريس لإعادة مبلغ 1.2 مليار يورو المدفوع مقابل السفن، ودفع غرامة كبيرة بسبب فسخ اتفاقية دولية، بالإضافة إلى ذلك فإن سمعة الحكومة الفرنسية كشريك تجاري مسؤول وغير متقلب تقف على المحك، ولا يبدو أن أحداً يرغب بالمخاطرة بمثل هذه السمعة.