تعليقا على حلقات برنامج "قصارى القول" بمناسبة مرور 10سنوات على إعدام الرئيس العراقي صدام حسين، وردنا تعليق من السيد مصطفى كامل رئيس تحرير موقع وجهات نظر.
يقول كامل: "باهتمام كبير أتابع الجهد الذي تبذلونه في إعداد برنامج (قصارى القول) على قناتكم، والذي يفتح آفاقاً كبيرة أمام المشاهد وإثراءً لمعلوماته في الموضوعات الحية التي تعالجونها بما تتمتعون به من خبرة وحرفية ودراية.. ومن بين الموضوعات المهمة التي تابعتها مؤخراً، استعادتكم لذكرى إعدام الرئيس صدام حسين.
وبصرف النظر عن المواقف الشخصية من الرئيس الراحل، حباً أو كرهاً، ومما جرى في عهده الذي امتد لأربع وعشرين عاماً، حفلت بكثير من المنجزات، وشهدت كثيراً من الأحداث، وواجهت إخفاقات وتحديات، بصرف النظر عن هذا كله، فإن المقابلتين اللتين أجريتموهما مع كل من، موفق الربيعي، ورونالد كيسلر، حملتا العديد من المغالطات التاريخية، الأمر الذي يستوجب توضيح الحقائق أمام الجمهور.
أولا: في مقابلتيكم مع الربيعي وكيسلر، جرى حديث من جانبهما عن قضية حلبجة، ونعرف جميعاً أن هذه القضية حظيت باهتمام دولي كبير، على مدى ثلاثة عقود تقريباً، وتم توظيف هذه المأساة الإنسانية على نحو سياسي مقصود بشكل واسع النطاق في أعقاب قضية الكويت عام 1990، حيث تغير اتجاه الاتهامات، بقدرة قادرين وممولين، لتتحول، عالمياً، من اتهام صريح وموثق لإيران إلى اتهام غوغائي بلا أدلة لنظام الرئيس صدام حسين!
سأتناول في هذا الخصوص جملة من الملاحظات السريعة، قدر الإمكان..
1. بتاريخ 4 أيار/ مايو 1990، نشرت صحيفتا واشنطن بوست وهيرالد تربيون، الأميركيتيين، تقريراً عن معارك حلبجة جاء فيه "إن الهجمات بالغازات بدأت بعد، حوالي، ثلاثة أيام من القتال الذي بدأ بين القوات العراقية والإيرانية في 15 مارس 1988، في الهجوم الإيراني (الفجر العاشر)، وقد استخدمت القوات الإيرانية أكثر من 50 قنبلة وقذيفة مدفع كيماوية خلال تلك المعارك، التي كانت آخر هجوم إيراني، قبل أن يتحول مجرى الحرب لصالح العراق "ويقول التقرير إنه خلال اليوم الثاني من المعركة انصبَّ عدد غير محدد من القنابل والقذائف الكيماوية الإيرانية على مدينة حلبجة" وقد أكد مسؤول أمريكي للصحيفتين أن "الإدعاء الإيراني بأن ضحايا حلبجة ماتوا بسبب غاز السيانيد، كان دليلاً على أن إيران تتستر على استخدامها لذلك الغاز السام" مؤكداً "إننا نعرف أن العراق لا يستعمل غاز السيانيد، لذا فعندما قالت الحكومة الإيرانية بوقوع وفيات كثيرة نتيجة لاستعمال السيانيد فإن ذلك بحد ذاته قد أدانها".
2. قال لي المرحوم، سعد قاسم حمودي، الذي كان يرأس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس الوطني العراقي، إن المؤتمرات الدولية، وخاصة البرلمانية منها، كانت تشهد نشاطاً محموماً من قبل وفود النظام الإيراني، الذين كانوا يُصرّون على توزيع مواد إعلامية، تشمل منشورات وأفلام وملصقات، تتهم العراق بتنفيذ مذبحة حلبجة، وكان العراق يجابه تلك الادعاءات الإيرانية بوثيقة، صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية، تؤكد أن إيران، وليس العراق، هي من نفَّذت تلك المجزرة البشعة.
ويضيف محدِّثي، المرحوم سعد قاسم حمودي، أن الوفود الإيرانية كانت تنكفئ بسبب تلك الوثيقة التي يشهرها العراق بوجوه أعضائها.
ويؤكد شاهدي، أن هذه الوثيقة كانت موجودة في مكتبه الذي تعرض للتدمير والحرق في أعقاب احتلال العراق عام 2003.
3. روى لي اللواء، حسام محمد أمين، الذي عمل مديراً عاماً لدائرة الرقابة الوطنية في العراق قبل الاحتلال الأميركي عام 2003. وهي حلقة الوصل بين الحكومة العراقية ولجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية والتي تشكَّلت بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة عام 1991 ما يأتي:
أرسلت الأمم المتحدة فريقاً كيماوياً متخصصاً زار العراق وإيران عام 1988، وزار الجرحى لدى الطرفين، كما التقى بعدد من الجرحى الذين كانوا يعالجون في المستشفيات الأوروبية في وقتها، إضافة إلى إجرائه تحليلات مختبرية لعينات من التربة والجثث والأعشاب في مدينة حلبجة، وقد قُدِّر لي شخصياً أن ألتقي برئيس هذا الفريق، وهو أستاذ في إحدى الجامعات الأسترالية (وأعتقد أن اسمه الدكتور دان) في حزيران/ يونيو عام 1991، عندما كنا في سيارة واحدة في طريقنا إلى منشأة المثنى العامة، حيث كان رئيساً للفريق الكيماوي الأول التابع للجنة الخاصة، إذ بادرني بسؤال فوجئت به وهو: هل عرفتني؟ فأجبته بالنفي، حينها ذكر اسمه، مضيفا أن هذه الزيارة للعراق هي الثانية له، وحكى لي قصة تكليفه بالتحقيق في قضية حلبجة، وأنه زار كلاً من العراق وإيران، وكذلك عدة مواقع على الحدود العراقية الإيرانية، وأعدَّ تقريره النهائي، الذي أكد فيه أن إيران هي التي قامت بهذه الجريمة البشعة.
ثانياً: حفل حديث الربيعي بقدرٍ كبيرٍ من المغالطات حول شخصية الرئيس صدام حسين، والكل يعرف مقدار كذب هذا (الربيعي) حينما كان أول مسؤول عراقي يظهر بعد حادثة الإعدام قائلاً: إن صدام كان خائراً جباناً لم تحمله قدماه للصعود إلى سلم المشنقة، وكان يظن أن الفرية ستمر وستنطلي على الناس، لكن وفي غضون ساعات قلائل افتضح أمره وظهر صدام حسين قوياً متماسكاً، يسير إلى خاتمته واثق الخطى مؤكداً عمق إيمانه بقضايا العراق والأمة، وهو أمر اضطر (الربيعي) إلى الاعتراف به في مقابلتكم معه، قائلاً إن صدام هتف بحياة العراق وفلسطين والأمة، ويبدو أن هذه الهتافات أرعبت جلاديه الذين كانوا يخفون وجوههم بخرق سوداء.
ثالثا: مما كذب به (الربيعي) في المقابلة قوله إنه هو، أو من كان يتقافز بحقد معه، ذكَّروا الرئيس صدام حسين بنطق كلمة الشهادة، وهذه فرية مفضوحة، وثَّق شريط الإعدام المسرَّب كذبها.
رابعاً: طوال المقابلة، بدا (الربيعي) على قدر كبير من الحقد، وتتملكه شهوة الانتقام حتى بعد 10 سنوات من إسدال الستار على حياة رجل ملأ تاريخ العراق والعالم وسمعه وبصره لعقود طويلة، وهو يضحك ببلادة مستذكراً حادثاً تاريخياً ينبغي أن يقف أمامه المرء بقدر كبير من التمعن والتقاط العبر والدروس.
خامساً: اعترف (الربيعي) بأنه جعل من حبل الإعدام مزاراً لعراقيين يقدمون كل يوم جمعة للتشفي والتنفيس عن مشاعر الانتقام، وفي هذا أوضح تعبير عن السادية والوحشية وأمراض نفسية أخرى، حيث بات الإعدام بالنسبة للربيعي ونظامه (إنجازاً) يتم التباهي به، بعد أن عجزوا جميعاً على إنجاز شيء واحد يقدم للعراقيين بديلاً عن صدام حسين. فضلاً عن أن التباهي بهذا (المنجز) لا يمكن أن يتماشى والحديث المتكرر عن المصالحة الوطنية وتسوية المشكلات!
سادساً: إن صدام حسين بدا في اللقطة الأخيرة من حياته، كرئيس يلقي خطاباً إلى شعبه، ويسجله للتاريخ، فقد كان في غاية التماسك والأناقة والوضوح، وكان منسجماً تماماً مع كل روح التحدي والصمود والجلَد التي عُرِف بها.
سابعاً: تحدث الصحفي الأميركي، كيسلر، عن قضية بالغة الخطورة، وهي أن الرئيس صدام حسين أكد لمحققيه أنه كان حريصاً على الإيحاء بامتلاكه أسلحة دمار شامل خوفاً من إيران!
لقد بات العالم يعرف أن، صدام حسين، في السر هو نفسه صدام حسين في العلن، على الأقل طبقاً لما جاء في كتاب "تسجيلات صدام" وهو الكتاب الوثيقة، الذي احتوى على تفريغ تسجيلات صدام حسين في مراحل مهمة من تاريخ العراق (1978-2001)، وتضمن آلاف التسجيلات الصوتية وتسجيلات الفيديو التي حصلت عليها القوات الأميركية، وتغطي اجتماعات الرئيس صدام حسين مع وزرائه والقادة العسكريين وشيوخ القبائل وكبار الشخصيات الزائرة، وهو من إعداد، كيفن وودز (معهد التحليلات العسكرية)، وديفد بلكي (جامعة الدفاع الوطني)، ومارك ستاوت (جامعة الدفاع الوطني).
ومع ذلك فإن فرية كيسلر الخطيرة هذه، تريد أن تقول باختصار: إن أميركا وبريطانيا، والتحالف العدواني الذي غزا العراق خلافاً للقانون الدولي وضد الإرادة الدولية، كان واقعاً تحت تضليلٍ مارسه صدام حسين نفسه، وبالتالي فهو، الرئيس العراقي، حصراً، وليس جورج بوش أو توني بلير ومن سواهما، من يتحمل وزر غزو بلاده والاحتلال، وكل المآسي التي تلد كل واحدة منها مأساة أكبر منذ نحو 14 عاماً.
إن هذا الافتراض القاتل، الذي جاء بعد عجزٍ تامٍ عن العثور على تلك الأسلحة المزعومة، فرية خطيرة فعلاً، بل وخبيثة جداً، لأنَّ كيسلر وكل المعنيين في العالم يعرفون أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، فالعراق على لسان رئيسه، صدام حسين، وكل أركان قيادته حينها، وعلى لسان وزير خارجيته الدكتور، ناجي صبري الحديثي، أكدوا بكل وضوح وعلناً عدم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وعدم نيته حيازتها أو إعادة تصنيعها، بل إن السيد الحديثي، وهو حيٌ يرزق، أكد ذلك على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما أن كل رسائل العراق التي وجهها رسمياً عبر القنوات الدبلوماسية السرية منها والعلنية، وعبر الإعلام، أكدت بشكل تامٍ وواضحٍ وغير ملتبسٍ عدم امتلاك العراق أية مواد محظورة بحسب قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وعدم الرغبة في حيازتها.
كما أن العراق لم يطرد مفتشي الأمم المتحدة، كما يُزعم، بل أن مفتشي الأمم المتحدة انسحبوا من الأراضي العراقية، قبيل شن الولايات المتحدة عدوان (ثعلب الصحراء) الذي تواصل لأربعة أيام بين 16 و 19 كانون الأول/ ديسمبر 1998، للتغطية على هذا العدوان المرتَّب مسبقاً، والذي دمَّر كثيراً من البنى التحتية العراقية.
ولقد أثبت العراق حسن نواياه تجاه هذا الموضوع بإعلان وزير خارجيته في أيلول/ سبتمبر 2002، قرار القيادة العراقية بإعادة المفتشين الدوليين، قاطعاً الطريق على الرغبة الأميركية المحمومة حينها بالإجهاز على العراق.
كعراقيين، وكإعلاميين واكبنا تطور الأحداث خلال العقود الماضية، ونحتفظ بأرشيف جيدٍ حولها، يحق لنا الرد، بل يجب علينا أن نقدم شهاداتنا عن حقبة تاريخية يُراد لها أن تُمحى.
إننا نحمد الله أننا أحياء وقادرون على الرد على فرية هنا وأخرى هناك، ولكن هذا لا يكفي، لذا فإننا من خلال منبركم في قناة روسيا اليوم، ندعو المسؤولين العراقيين في العهد الوطني، إلى القيام بواجبهم الوطني والأخلاقي في توثيق محطات مهمة جداً من تاريخ العراق المعاصر، فهم شهود أحياء على ذلك التاريخ، وشهاداتهم وحدها هي ما بقي للعراقيين، بعد أن سرق الغزاة كل وثائق تاريخهم أو أحرقوها.
إنني أعتقد أن عدم توثيق تلك الأحداث الجسيمة المفصلية التي عاشها العراق على مدار أربعة عقود، تقصيرٌ متعمدٌ بحق الوطن ومواطنيه، ولا أظنُّ أنَّ أياً من مسؤولي العهد الوطني يُقصِّرون في ذلك.
مصطفى كامل
رئيس تحرير موقع وجهات نظر