يتغير العالم ومعالمه بسرعة كبيرة لكن الثابت الوحيد فيه يكمن في انه وبالرغم من كل المخططات السياسية والدفاعية واستثمار الاسلحة والتسهيلات المقدمة من قبل قادة الدول العظمى، تبقى التهديدات الارهابية الجديدة أقوى وتتطلب بالتالي قدرات رد أسرع لمواجهتها. يمكن تمديد مهلة الجداول الزمنية للحصول على معدات عسكرية جديدة بالنسبة للكثير من الاصول المستخدمة في الخطوط الامامية مع اطالة ايضا مدة التسليم لسنوات عدة مستقبلا في حالات الطائرات العسكرية المقاتلة وتوفير قدرات التدريب والدعم اللازمة خصوصا تلك التي تحتاج للكثير من التحضير. وفي حين ان المعدات المتطورة يمكن شراؤها وادخالها في الخدمة بشكل أسرع، الا انه لا يزال التحدي يشكل حاجة اساسية في ما يتعلق باتخاذ القرار الصواب للمتطلبات العملانية ذلك قبل المباشرة بتحديد خيارات الشراء.
هذا بدوره يعتمد على كيفية فهم الاولويات العسكرية وكيف يُنظر اليها وهنا يكمن اللغز الكبير الذي يتجلى في الاسئلة التالية: هل يملك صناع القرار الكبار رؤية واضحة في ما يريدون تحقيقه في السياسة الدفاعية الاستراتيجية، المحلية والاقليمية وهل يرغبون في التصرف بمفردهم او مع حلفائهم؟
تعتبر هذه المسائل مفتاحا جوهريا لتطوير القوات القادرة على التكيف مع الظروف المتغيرة وعلى تلبية التهديدات غير المتوقعة في الوقت اللازم. في حال ظهور فجوات في القوات المتاحة وكانت القرارات المتخذة في وقت سابق تفرض وجود مستوى من الخطر، حينها قد يكون من الصعب تدارك الامر الا في حال استطاعت دولة صديقة المساعدة في سد تلك الفجوات وكانت ترغب في الانخراط بهذه الاعمال.
ستزداد تساؤلات الشركاء العسكريين المحتملين اذا كان من مصلحتهم الخاصة التدخل في سد الفجوات او رفض المشاركة خاصة اذا كانت اهداف الحرب ونتائجها النهائىة غير واضحة المعالم.
في الديمقراطيات الغربية التي تلت عقودا من التدخل العسكري النشط في منطقة الشرق الاوسط، افريقيا وافغانستان، ظهر رد فعل عنيف من قبل الناخبين ضد النفقات الدفاعية والخطر الذي يواجه حياة آلاف الجنود المشاركين في صراعات مشكوك بها ما وراء البحار.
مع ذلك، لا تنطبق هذه الاعتبارات في العديد من الدول على غرار الصين وروسيا حيث تميل الحكومات الى القيام بما تريد من دون اي عائق او حتى مساءلة من قبل الشعب.
اعتمادا على الحلفاء في المضي قدما لتقديم المساعدة اللازمة في بعض الظروف، توضع بعض المعاهدات الدفاعية المعمول بها على المدى الطويل والترتيبات الملائمة للوضع القائم ليتم تقديرها من كلي الجانبين لكن ينظر البعض الى ان مثل هذه المساعدات الدفاعية تعني القبول بتكاليف العلاقات بين البلدان المتنازعة في ما بينها وبالتالي المساومة في المواقف السياسية في وقت لاحق.
يعتبر هذا الواقع دافعا للعديد من القوات الجوية الاقليمية لزيادة الاصول الجوية الوطنية الرامية الى تعزيز مرونة القدرات الدفاعية التي تعتمد على غيرها لاتمام المهام.
في مفهوم اشمل، فان الاعتمادية المشتركة هي مفتاح القرن الحادي والعشرين لتوفير قوة جوية فعالة وباسعار معقولة من شأنها ان تؤمن عددا من الدول القادرة على تحمل المهام مهما كان نوعها ولكن مع ذلك، فانها تحتاج الى تأمين حدودها والبنى التحتية المحلية. الى ذلك، يعد الارتباط الوثيق بين حلفاء آخرين امرا بالغ الاهمية لان ذلك يؤمن الى حد كبير خبرات دعم وتدريب اضافية والاهم من ذلك كله، التمارين العملانية المشتركة واكتساب الخبرة في الاتصالات المشبكة التي بدونها ستكون معظم العمليات مقيدة وغير فعالة.
لا يمكن انكار ان الصراعات الاخيرة الدائرة في جميع انحاء العالم قد شهدت تحولا حادا في القوة التقليدية حيث انتقلت من دولة ضد دولة الى حروب فئوية، عرقية واقليمية غير منتظمة، مما دفع بالقوات المتمردة الى الحصول على نظم واسلحة اكثر تطورا لمحاولة التغلب على قوة النيران المتفوقة التي يوفرها الاخصام الذين يملكون القيادة الجوية. ان دل هذا على شيء فهو يدل على انتشار الصواريخ قصيرة المدى المحمولة باليد، صواريخ ارض - جو، المدافع المضادة للطائرات من العيار الثقيل وفي بعض الحالات شملت الاسلحة الموجودة مع القوات المتمردة اسلحة متطورة جدا استولت عليها من القوات الحكومية او من طرف ثالث مورد لمثل هذه الاسلحة، لقد غيّر هذا التصرف، اضافة الى الطرق الهمجية وغير المشروعة في أسر الطاقم الجوي الذي عولج أمره في ما بعد من قبل المسلحين بعد اسقاطه، غير الطريقة المتبعة في الحروب الجوية والدعم الجوي خصوصا في المناطق التي تشهد حربا نشطة.
خلال ارتفاع حدة الضربات الجوية على العراق، ليبيا وافغانستان، تم انشاء تحالف جوي مطلق فوق مناطق النزاع يسمح لطائرات الهجوم المحلقة على علو منخفض وللطوافات المجهزة باسلحة نارية على غرار Jaguars، Harriers وA-10 الطيران بحرية تامة لدعم القوات البرية من دون الخوف من تعرضها لتهديدات خطيرة مصدرها الارض.
ابان المراحل الاخيرة من الصراع الليبي ولدى سقوط اعداد هائلة من الاسلحة المضادة للطائرات في ايدي القوات غير النظامية، ازداد خطر تهديد الطائرات القتالية المحلقة على علو منخفض التي تستخدمها القوات الغربية بشكل كبير مما اثار دهشة طياري طوافات الهجوم المنطلقة من السفن المتواجدة على السواحل الليبية. هذا الامر قاد الى الاتجاه نحو تغير جذري في التكتيات للوصول الى تطويرات انتقالية تجلت في طريقتين:
الاولى في استخدام الاسلحة الصغيرة الليزرية والقنابل الدقيقة الموجهة المزودة بنظام GPS وصواريخ والثانية في نشر مركبات جوية غير مأهولة مسلحة، وهنا نكون أمام دخول عصر الطائرات دون طيار القتالية.
اتجهدت الاستراتيجيات والتكتيكات المتطورة للحرب الجوية تاريخيا لتكرار نفسها لفترة من الزمن وهذا ما يحدث اليوم مرة اخرى. شهدت نهاية الحرب الباردة بين الشرق والغرب في العام ١٩٩٠ تغييرا مزلزلا في مفهوم العمليات ونمط شراء النظم الجوية الذي كان معمولا به طيلة السنوات الاربعين الماضية ذلك عندما هيمنت سياسة الدفاع بين الشرق والغرب القاضية بالتهديد في وجود حرب نووية. ضمت هذه المرحلة الكثير من الاصول الجوية الخاصة بالخطوط الامامية حيث كانت مسلحة، تقليدية ونووية، حافظت على مستوى عال من الجهوزية والقدرة على المناورة في أي وقت تتطلبه المهام على ان تهبط في ملاجىء محصنة للطائرات عند الانتهاء من القيام بدورها.
بما ان حدة التوترات الاستراتيجية خفَّت مع نهاية العام ١٩٩٠، تقلصت مستويات القوة وتُسلِّط الضوء على الطائرات متعددة الادوار والنظم المشتركة المصممة للعمل في بيئات بيولوجية ونووية معادية تطبق قوة النيران بدلا من السرعة في الحركة لدعم الحلفاء في مواجهة التهديدات الاقليمية من الارهابيين والدول المجاورة المعادية. كان من السهل نسبيا اعادة نشر الطائرات المصممة للبقاء اكثر على قيد الحياة في ظروف الحرب الالكترونية المضادة لتوفير السيطرة الجوية ضد قوات العدو التي جهزت بطريقة سيئة للدفاع عن نفسها ضد مثل هذه القوة الجوية الساحقة. حيث ان التطويرات باهظة الثمن التي تميزت بها طائرات الهجوم تعد ثانوية ضد تهديدات المتمردين المتناثرة، اصبح تطوير طائرات الهجوم الخفيفة، الطوافات والمنصات الجوية غير المأهولة، طريقة لتقليص تكاليف الشراء على ان يتم اختيار التجهيزات الصحيحة لمواجهة التهديدات المتغيرة. ادى هذا المفهوم الى ابتكار مزيج من انواع القوة الجوية التي نراها اليوم في الخدمة على نطاق واسع في جميع انحاء العالم، لذا لا بد من ذكر الطائرات المقاتلة الاكثر استخداما في الغرب وهي مجموعة طائرات F-15، F-16 وF-18 من انتاج الولايات المتحدة والتي أطلقت في ذروة الحرب الباردة عام ١٩٧٠.
خضعت هذه المقاتلات للكثير من التحديات التي جعلت منها افضل الطائرات على الاطلاق وما تزال حتى اليوم في الخدمة كما انها تعد الأنسب لسيناريوات الحرب النووية الاستراتيجية المحتملة.
تجدر الاشارة ايضا الى ان هذه الطائرات ما زالت تحافظ على شعبيتها بين الدول وقد اختارت مؤخرا قطر طائرات F-15 QA والكويت F/A - 18 E/F. في اوروبا يأتي اختيار مقاتلات Mirage، Rafale، Harrier، Grippen، Tornado وTyphoon حيث تشهد هذه الطائرات مكانا لها في أسواق التصدير خصوصا طائرات Mirage، Typhoon وRafale التي حققت في الآونة الاخيرة نسبة شراء عالية من قبل عدة دول في الشرق الاوسط.
الى جانب هذه المقاتلات الغربية متعددة الادوار، تواصل روسيا تطوير طائراتها نوع MiG-29 وSukhoi Su-37 لتصبح مقاتلات ذات قدرة عالية على المناورة كما هو الحال مع طائرات Sukhoi التي باتت اليوم تعد طائرة منافسة للنفاثات الغربية لكن بتكاليف أقل، على الرغم من ان تكاليف الدعم، الموثوقية/ الاعتمادية لا تتطابق دائما مع الجودة التنافسية الموجودة في غريمتها الغربية.
تعتبر السرعة التي اخذتها المركبات الجوية غير المأهولة من الطائرات الحربية التقليدية لتنفيذ مهام خطرة، مملة وقزرة ملحوظة، فقبل عقد من الزمن، كانت تستخدم UAV للقيام بعدد صغير نسبيا من المهام المرتبطة بالمراقبة وادراك الوضع الميداني للقوات البرية. منذ ذلك الحين، باتت طائرات UAV وسيلة قتالية أساسية توفر تغطية كاملة ومستمرة للمجال الجوي، اكتساب الهدف، الدعم الجوي القريب والهجمات الخفيفة، توزيع الاتصالات المشبكة، الدوريات الساحلية، حماية أمن الحدود، المراقبة البحرية الممددة، عمليات البحث والانقاذ وقدرات الحرب الالكترونية.
تزداد القدرات العملانية لطائرات UAV يوما بعد يوم ويتعزز دورها لتغطي مهامها مختلف المجالات فطائرات UAV الصغيرة تؤمن للفرق صورا دقيقة للزوايا الضيقة في ساحات القتال وصورا رادارية تكتية للمساحات الواسعة الى جانب قدرتها على التأشير على الهدف وتأمين صورا فيديوية ليلية نهارية. وفي كل الظروف المناخية الى جانب قدرات تصوير حرارية. فضلا عن ذلك، باستطاعة UAV توفير صورا رادارية للخرائط البرية وأخرى لما تحت الارض لرؤية ما يخفيه السطح في باطنه من عبوات ناسفة وألغام كما تساعد القوات البحرية في ايجاد الالغام المزروعة تحت المياه واكتشاف مكان وجود الغواصات وزوارق الهجوم الصغيرة. لا حدود تذكر لفوائد الطائرات دون طيار باعتبارها معدات عسكرية، فهي قللت منذ دخولها الخدمة من مخاطر التهديدات على الاطقم الجوية المتواجدين ضمن الطائرات المأهولة، العربات البرية والمراكب البحرية.
تقلل طائرات UAV كثيرا من تكاليف الدعم، التدريب والتشغيل مما يسمح للافرا في التركيز على تحليل البيانات المجموعة من قبل هذه الطائرات وتوزيعها في ما بعد من خلال مركز القيادة اضافة الى قدرتها على تقليص خطر خسارة الحياة كما هو الحال مع قادة الطائرات المأهولة المحلقة على علو منخفض فوق مواقع العدو.
تستطيع طائرتا UAV خاصتان بالمهام الروتينية على غرار المراقبة، المحافظة على الدوريات الثابتة او القيام بردات فعل جوية لعدة أيام من دون توقف الأمر الذي يحدّ من الحاجة الى طيارين او طاقم جوي يتطلب العودة الى القاعدة لأخذ قسط من الراحة قبل متابعة العمل في الجو من جديد. يسمح تزويد طائرات UAV المسلحة بأسلحة دقيقة بالاستجابة السريعة مع الهدف ليتم بعدها التأكد منه، التعرف عليه والتعامل معه بالطريقة الصحيحة، واذا ما أردنا توكيل هذه المهمة لطائرات مأهولة، قد يتطلب ذلك وقتاً أطول مع العلم ان هذه الأخيرة تتسم بمرونة عالية وبسرعة أكبر للوصول الى الهدف لكنها تحتاج الى وقت تحضير أطول ولا يمكنها البقاء فترة ٢٤ ساعة متواصلة كالطائرات دون طيار متوسطة الحجم.
وعليه، اذا كانت الحرب الجوية التكتية خاضعة الآن لتغيير جذري في النمط العملاني رداً على الاحتياجات الخاصة بالحرب غير النظامية، فماذا عن التغيير في التهديدات الاقليمية وكيفية التعامل معها؟ بعد ما يقارب ال ٣٠ عاماً التي تلت التعديلات المتعلقة بمستويات القوة الغربية في الحرب الباردة، ها هو السيناريو يتغير مرة أخرى. فروسيا ضاعفت ميزانيتها الدفاعية السنوية وبقيادة رئيسها السيد بوتين، تعمل اليوم على بناء قوتها النووية والتقليدية بوتيرة تقلق الغرب.
قوبل استخدام القوة الروسية في سوريا بحملة اعلانية كبيرة جداً من جهة وبتقاعس من الجانب الغربي لأن أي محاولة لفرض منطقة حظر جوي فوق المدن التي تتعرض لقصف عنيف من القذائف السورية والروسية على حد سواء قد تقود الى مواجهة جوية خطيرة قد تنتهي باشتباك جوي بين المقاتلات الأميركية وتلك الروسية.
لا أحد يمكنه أن يتنبأ ما قد يحصل في نهاية المطاف، ولغاية اليوم يسمح الغرب لروسيا في التحرك بحرية تامة في سوريا، فهذه النشاطات قد تبقي الرئيس بشار الأسد في منصبه الحالي وقد تعزز الوجود الروسي العسكري الموسع في المنطقة من خلال تثبيت قواعد لها في سوريا لكن الكثير قد يتغير هذا العام مع تولي الرئيس ترامب سدة الرئاسة الأميركية ومع نية الحكومة البريطانية التخلي عن منصبها في الاتحاد الأوروبي. ان ذلك كله هو بمثابة تحدٍ جديد لرؤساء الحكومات الأوروبية في رفض الوضع الراهن أو استبداله بخطط جديدة خصوصاً وأن شعوب هذه الدول باتت غاضبة على التقاعس المستمر للحكومات في مواجهة اعداد النازحين الكبيرة الآتية من سوريا وشمال افريقيا.
من المرجح أن تزداد نسبة الانفاق الدفاعي الأوروبي والأميركي كما تفعل روسيا لجهة بناء مستويات عالية من القوة كما تسعى الى بسط المزيد من نفوسها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، أوروبا وأفريقيا. بدورها، تعمل الصين على تعزيز قدراتها الدفاعية من خلال تأسيس قواعد جديدة لها في افريقيا، المحيط الهندي، وبحر الصين الجنوبي. يزداد العالم عصبية مرة أخرى كما تعترف كل الدول الكبرى انها لا تستطيع تجاهل التهديدات الاستراتيجية المتنامية الممكنة. ففي حين لا تزال الأسلحة النووية تعتبر سلاحاً رادعاً يحمي الدول الكبرى، تبقى المخاوف لناحية نشر قدرات الأسلحة النووية في الدول غير المستقرة على غرار كوريا الجنوبية واستهلاك المعرفة النووية المستقاة من قبل الارهابيين تشكل النشاط الأكبر بالنسبة للدول الغربية التي تعمل جاهدة على تدارك الوضع والحد من هذا التهديد بشتى الوسائل المتاحة.
وكما كان ينظر اليها في السابق، من المرجح ان تبقى القوة الجوية على قمة الاولويات بالنسبة للجيوش خلال العقد المقبل كما ان الطائرات المقاتلة ستحافظ على ميزاتها المتطورة، فروسيا اليوم تعمل على تطوير المقاتلة الخفية Sukhoi T50 PAK FA لتحدي F-22 Raptor الأميركية التي قد تستأنف انتاجها بالاضافة الى تطوير المقاتلة F-35 الجديدة وطائرة j-20 التي تطورها الصين للغاية نفسها.
ليست القوة الجوية أقل أهمية اليوم من أي وقت مضى وبالفعل فإن جميع الشركات المصنعة الكبرى تعمل على ايجاد انواع جديدة من الطائرات المأهولة وغير المأهولة قادرة على البقاء على مدى السنوات الخمسين المقبلة. لكن كيف ستكون التهديدات المستقبلية؟ سيتعين علينا الانتظار لأن قد يحصل ما لا نتوقعه.