ينطلق هذا التصور من التعامل مع وقائع حرب 67 كما جرت، مع استدخال وقائع افتراضية على سلّم هذه المجريات في محاولة لاستبيان هل كان ممكناً إدارتها. بنجاح – كما أمِل صناع القرار حينها – فيما لو جرت هذه الوقائع.
حافز التفكر غير التقليدي ذاك هو منشور مذكرات قادة إسرائيل عن تلك الحرب، والذي تمحور حول نقطة حاكمة مفادها أن حجم نصرهم فيها لم يكن خاطراً لهم في أعذب أحلامهم، بل إن جلّ هدفهم العملاني من الحرب كان الوصول الى خط العريش - رأس محمد واصطياد الجيش المصري بينه وبين خط الحدود الدولية، على أمل أن يفضي ذلك الى إسقاط جمال عبدالناصر ونظامه، من دون احتساب وصولهم القناة ولا اقتناص الضفة والجولان.
من هنا كان توسّل طريقة تحليل راجع يتساوق ويتسق مع ما كان من توقعات العدو، وكيف ولمَ تدحرجت دواعي فداحة الهزيمة كأحجار البازلت جارفةً في طريقها كل منطق.
نقطة البداية هي إطاعة تحذير عبد الناصر مساء الجمعة 2 حزيران/ يونيو بأن ضربة جوية إسرائيلية شاملة على الأبواب، ولن تتأخر عن الاثنين 5 حزيران/ يونيو.
تنفيذ التحذير عملياتياً يعني نقل القاذفات الثقيلة توبوليف-16 والقاذفات الخفيفة اليوشن-28 الى مطارات السودان لإبعادها عن مدى الطيران الإسرائيلي، مع سحب المقاتلات من مطارات سيناء الأربعة وتوزيعها على مطارات الصعيد، مع إطلاق مظلة جوية فوق الداخل تتوزع على اتجاهات ثلاث (الشرق والشمال والشمال الغربي) تتركز حول فترتي الفجر/ الصباح والغروب/المساء.
لو تم ذلك لحدث احد أمرين: إما أن تصرف إسرائيل النظر عن ضربتها الجوية وتفكر ببدائل تستجلب الطيران المصري إلى معركة جوية طاحنة تسفر عن هزيمته (مثل شن هجوم جوي شامل على الأردن و/ أو سوريا أو بدء العمليات البرية في سيناء أولاً)، أو تشن الضربة، على أية حال، مع استهداف الطيران المصري في الجو وليس على الأرض.
في كلا الحالتين فإن الهزيمة الجوية المصرية واقعة، وبخسائر ملحوظة في الطيارين، لكن خسائر الطيران الإسرائيلي ستكون وازنةً أيضاً لحد حجب السيادة الجوية عنه، وفي أسوأ الأحوال هو اقتصار على التفوق الجوي، من دون حتى السيطرة.
الآن: الافتراض التالي هو ما يلي التسليم بنجاح الضربة الجوية الإسرائيلية على الطيران المصري على الأرض كما حدث فعلاً: ذلك متغيّر مهم، لكنه بكل المقاييس غير حاسم.
كانت إدارة رصينة للمعارك كفيلة بامتصاص مفعول السيادة الجوية والاشتباك مع المهاجم في معركة تعرضية تجمع ما بين الصمود على خط الدفاع الأول – المحصّن هندسياً – والمناورة بالقوات على مراحل، وفق تصور أنّ خط المضائق هو خط الدفاع الأخير.
بدايةً فإن توزع قوات سيناء عشية الحرب كان شديد السوء: الفرقة السابعة مشاة المسؤولة عن المحور الشمالي خرجت شمالاً عن نطاقها المحصن في الشيخ زويد (شمال العريش) لترابط ما بينه وبين رفح في سعيٍ لتأمين دفاع عن جنوب القطاع يمنع عزله عن سيناء.
والثابت أن الهدف السياسي من وراء هذه الرغبة معقولٌ بل وواجب، لكن تكليفات القوات المنوط بها هذا الواجب جاوزت قدرتها على الأداء ما انتهى بالفرقة السابعة إلى أن تصبح سهلة الاختراق من القلب ومن الأجناب معاً، وهي نتيجة أودت بالفرقة لتصبح يسيرة المنال، رغم قتالها الدفاعي المشهود طيلة اليوم الأول من الحرب والذي تجلى في استشهاد قائدها اللواء عبد العزيز سليمان، لينفتح الباب على مصراعيه إلى العريش كبرى حواضر سيناء.
أما الفرقة الثانية مشاة والمسؤولة عن المحور الأوسط، فكانت قد خرجت أيضاً عن نطاق خطها المحصّن هندسياً في أبو عجيلة إلى القسيمة تحت تأثير المراد من خطوات الحشد الأولي في الاقتراب من خط الحدود لجذب الجهد الإسرائيلي من الشمال السوري إلى الجنوب المصري... كان قائد الفرقة هو اللواء سعدي نجيب، والذي لم يكن على مستوى هذه القيادة.
أما الفرقة السادسة الآلية والمسؤولة عن المحور الجنوبي، فهي لم تتمدد فقط من خطها المحصن هندسياً في نخل بل جاوزت تمد شمالاً إلى الكونتيلا (القريبة من الحدود) وتحت تأثير التوزع القديم نفسه.
وليكتمل المشهد الأليم فلقد أضاف المشير عامر أواخر أيار/ مايو قوة خاصة مؤلفة من لواء مجحفل (لواء مظلات مع كتائب مدرعة ومدفعية وملحقات) إلى المحور الجنوبي قادها اللواء المظلي سعد الشاذلي ورابطت على بعد 20 كم غرب الكونتيلا.
ذهب ذهن المشير تلك الأيام بعيداً نحو اليقين بأن محور الهجوم الرئيسي سيكون من الجنوب ما يمكن القوات الإسرائيلية من تطويق المحورين الأوسط والشمالي من ذلك الاتجاه.
خط الدفاع الثاني (غير المجهز هندسياً)، والممتد من بير حسنة جنوباً إلى بير لحفن شمالاً، كانت ترابط عليه الفرقة الثالثة الآلية معززة على جانبها الأيسر بلواء مدرع مستقل... تولى قيادة الفرقة ضابط سياسي من أنصار المشير هو اللواء عثمان نصار الذي لم يكن مشهوداً له بالكفاءة.
أما خط الدفاع الثالث فكان السفح الشرقي لمضائق سيناء الثلاث (متلا جنوباً وجفجافة في الوسط ورمانة في الشمال) ورابطت عليه الفرقة الرابعة المدرعة، وهي جوهرة العسكرية المصرية تاريخياً... أما قائدها فكان اللواء صدقي الغول وهو أيضاً ممن لم يكونوا الأكثر كفاءة.
والمعلوم أن خط المضائق محصن بشكل طبيعي ويمكن الثبات عنده، إن توافرت القوات وتوافرت لها قيادة حسنة.
تبقى شرم الشيخ، وهي لم تكن في الأساس ضمن حسابات خطة قاهر الدفاعية (التي أقرت في كانون الأول/ ديسمبر 66)، لكن تطورات أزمة 67 أملت إرسال العديد من الكتائب (مظلات ومشاة ومدفعية) إليها، إضافةً إلى لواء مشاة في الطور.
أما قطاع غزة فكان مكان مرابطة لواء عين جالوت الفلسطيني معززاً ببعض الوحدات المصرية والعراقية الصغيرة.
ما الذي كان ممكناً فعله يوم 5 حزيران/ يونيو بما يكفل تلافي هزيمةٍ مذلّة، بل والثبات في معركة دفاعية معقولة النجاح؟
1ــ أن يتولى جمال عبد الناصر بنفسه مقاليد القيادة العسكرية العليا، بما يشمله ذلك من الانتقال شبه الدائم والإقامة في مركز العمليات... المعلوم أن عبد الناصر ذهب للمركز في الصباح بعد سماعه أصوات الغارات الجوية على مطارات القاهرة والتقى فيه عند الظهر بعبد الحكيم عامر بعد عودته الكسيرة من رحلة الرعب في السماء، قاصداً سيناء، وعائداً من سماء القناة إلى مطار القاهرة المدني ليستقل تاكسي أجرة إلى المركز.
والراجح عندي أن إسرائيل تعمدت عدم قتل المشير بإسقاط طائرته ذلك الصباح لأنها أرادته أن يعود، لمعرفتها بقلة درايته وكفاءته، عكس ما كان الحال يوم 28 تشرين الأول/ أكتوبر 56 عندما أرادت اصطياده في السماء وهو عائد من دمشق عشية العدوان الثلاثي، لكنها فشلت ونجحت في اصطياد طائرة مرافقيه (عوضاً عنه).
يمكن هنا تفهم أن يعطي عبد الناصر فرصة لعامر ليقود، لا سيما وأخبار إسقاط الطائرات الإسرائيلية الغزير كانت تتلاحق، قبل أن يتبيّن كذب معظمها.
لكن الأكيد أن هذه الفرصة ما كان ينبغي لها أن تزيد عن ساعات قلائل لا تتعدى عصر ذلك اليوم، وحتى يتم تجميع بيانات الخسائر الحقيقية للطرفين.
قد يقول قائل إنّ عبد الناصر كان ضعيف التأثير في القوات المسلحة، لكن موقف الحرب هو بحد ذاته عاملٌ كافٍ لبسط التأثير بالزخم كله، فالمنطقة كلها ومصيرها في الميزان، وليست مبررةً بحال من الأحوال حالة الاعتصام في مكتب المنزل التي مارسها عبد الناصر طيلة ما تبقى من يوم 5 ويومي 6 و7 حزيران/ يونيو وحتى مساء الخميس 8 حزيران/ يونيو، والاكتفاء بوجود ضابط اتصال بين مكتبه والقيادة العسكرية.
كان الواجب والحيوي والمطلوب أن يعود عبد الناصر إلى مركز العمليات عصر الاثنين 5 حزيران/ يونيو ليطلب كشف حساب عن خسائر مصر في الطيران وعن حقيقة خسائر إسرائيل فيه، وعن تطور المعارك على الأرض واتجاه الهجوم البري الرئيسي.
أضحى واضحاً مع ذلك الوقت أن الفرقة السابعة مشاة - وهي التي تلقت جهد الهجوم الإسرائيلي الرئيسي- أضحت في حالٍ حرجة تهدد بالانهيار، وأن 80 في المئة من الطائرات المصرية قد حطمت على الأرض.
كان على عبد الناصر أن يدخل مركز العمليات ليبقى فيه مزاولاً صلاحياته كقائد أعلى للقوات المسلحة، ولا ضير في بقاء المشير إلى جانبه، لكن القرار هو حصراً في يد الرئيس.
2ــ كان في وسع عبد الناصر وضمن حدود المتاح أن يأمر بالخطوات التالية، على أن تُنفّذ منذ الغروب وحتى فجر 6 حزيران/ يونيو، أي طيلة ساعات الليل، ولتلافي تأثير الطيران الإسرائيلي صاحب السيادة الجوية:
ـ إعادة الفرقة السادسة الآلية من الكونتيلا جنوباً/ غرباً للاحتشاد في خطها المحصن في نخل.
ـ إعادة الفرقة الثانية مشاة من القسيمة جنوباً/ غرباً للاحتشاد في خطها المحصن في أبو عجيلة.
ـ نقل اللواء المجحفل/ الشاذلي من غرب الكونتيلا إلى بير حسنة ضمن نطاق الفرقة الثالثة الآلية على خط الدفاع الثاني.
ـ تكليف اللواء المدرع المستقل غرب بير لحفن لشن هجوم مضاد على قوات المحور الشمالي الإسرائيلية بهدف تخفيف الضغط عن الفرقة السابعة مشاة والدفاع عن العريش لمنع احتلالها.
ـ عزل اللوائين سعدي نجيب وعثمان نصار وتعيين اللواء سعد الشاذلي قائداً للفرقة الثالثة الآلية واللواء محمد فائق البوريني قائداً للفرقة الثانية مشاة، أضف عزل اللواء صدقي الغول واستبداله باللواء عبد الغني الجمسي قائداً للفرقة المدرعة الرابعة.
دمج قيادة الجبهة وقيادة الجيش الميداني في قيادة ميدانية واحدة يقودها الفريق أول عبد المحسن مرتجى، ورئيس أركانه الفريق صلاح محسن، ومدير عملياته اللواء أحمد إسماعيل.
3ــ بافتراض فشل الهجوم المضاد باتجاه العريش فجر 6 حزيران/ يونيو، تتمسك الفرق الثانية والثالثة والسادسة على المحورين الأوسط والجنوبي لخط الدفاع الأول وفي قاطع خط الدفاع الثاني بمواقعها لأيام عدة، مع المناورة بها بحسب الحاجة العملياتية، لتنكفئ الثالثة إلى خط الدفاع الثالث وتتبعها الثانية والسادسة عند الحاجة، ويجري التمسك بخط المضائق بقوة 4 فرق، وألوية دعم، لآخر طلقة وآخر رجل.
4ـ إرسال علي صبري براً إلى بنغازي ليطير منها إلى موسكو ليلة 5/ 6 حزيران/ يونيو بطلب إرسال جسر جوي سوفياتي ينقل مقاتلات قاذفة (ميغ وسوخوي) تعيض خسائر الصباح، وبطلب الإصرار على قرار سريع من مجلس الأمن لوقف إطلاق النار والعودة إلى خطوط 4 حزيران/ يونيو.
يترافق ذلك مع دعوة مصر - بالتشارك مع كتلة عدم الانحياز - الجمعية العامة للأمم المتحدة لدورة استثنائية عاجلة تبحث الموقف الراهن وتوفر ضغطاً على واشنطن للجم إسرائيل عند ذلك الحد.
هل كان السوفيات تحت زعامة الثلاثي الحذر (بريجنيف وكوسين وبودغورني) ليستجيبوا لطلب عبد الناصر بالجسر الجوي؟ الإجابة تعتمد على إدراكهم أن مصر قادرة على إدارة دفاع معقول في سيناء، وعلى تخويفهم – بإسناد عراقي وجزائري – من مخاطر تركها في العراء أمام الهجمة الإسرائيلية المسنودة أميركياً بما تشمله من تحطيم سمعة السوفيات وسمعة سلاحهم ومعه نفوذهم.
يترافق ذلك مع الدعوة لمؤتمر قمة عربية فوري واستثنائي في القاهرة، ومع إرسال زكريا محي الدين إلى يوغوسلافيا وفرنسا والهند لجذبهم إلى دائرة الضغط.
إذن فصمود قوات خط الدفاع الأول على المحورين الأوسط والجنوبي لعديد من الأيام كان كفيلاً بعزل الاندفاع الهجومي الإسرائيلي في المحور الشمالي وحده، مع تعريض أجنابه في اتجاه خط الدفاع الثاني للانكشاف والتعرض... بعد ذلك تنسحب قوات الخطين الأول والثاني تدريجياً إلى المضائق في وقفة أخيرة وناجحة.
إذا تزاوج ذلك مع استعادة الطيران المصري سلاحه وصعوده إلى السماء مسنداً للقوات البرية المدافعة ومعيقاً للسيطرة الجوية الإسرائيلية ففي هذا المزيد من النجاح في إطالة الصمود على الخط الأول، وفي إنجاح قدرة الخط الثاني التعرضية.
إذا ترافق ذلك مع حملة عربية وعالمية للضغط، يتأمن إخراج جيد لنتائج الحرب يجعل من حصاد إسرائيل شبه هشيم، رغم احتلالها لقطاع غزة وربما لصحن سيناء... ففي الحروب ما يحسم النتائج هو خسائر المقاتلين والمعدات ومعها انكسار الإرادة السياسية، وليس احتلال الأرض بحد ذاته.
والحال أن عملية إعادة التنظيم كانت يجب أن تشمل انسحاب قوات شرم الشيخ ليلة 5/ 6 حزيران/ يونيو وتجمّعها في الطور، لاحتمال الانتفاع بها في تعزيز مضيق متلا الجنوبي لاحقاً.
لعل طلباً من عبد الناصر لقمة القاهرة الطارئة بوقف تصدير البترول والغاز فوراً إلى أميركا وبريطانيا مع تخفيض إنتاجه بنسبة 50% ولمدة شهر كان كفيلاً بإثناء واشنطن عن السماح لإسرائيل بالاستمرار في الحرب.
هل كان يجرؤ الملك فيصل ملك المملكه العربيه السعودية - وحمى الحرب مستعرة - على رفض طلب عبد الناصر؟ أشك...
نقطة أخيرة، هي أن عملية إعادة التنظيم - كما شملت في سيناء توحيد قيادة الميدان - كان ينبغي أن تشمل نقل هيئة أركان الحرب إلى مركزها التبادلي في الإسماعيلية، على أن يبقى القائد الأعلى – ونائبه – في القاهرة مع ضباط اتصال ومع المستشار الفريق أول علي عامر (قائد القيادة العربية الموحدة المشلولة)، وعزل المسؤولين عن تدمير الطيران، وهم بالتحديد قائده الفريق أول صدقي محمود ورئيس أركانه الفريق أول جمال عفيفي وقائد الطيران في سيناء اللواء عبد الحميد الدغيدي وقائد الدفاع الجوي اللواء إسماعيل لبيب، وتعيين الفريق مدكور أبو العز قائداً للقوات الجوية واللواء حسن كامل قائداً للدفاع الجوي، واغتنام الفرصة لعزل الفريق أول سليمان عزت قائد القوات البحرية وتعيين اللواء فؤاد ذكرى قائداً لها.
لعل قصة حزيران/ يونيو 67 وعدم استثمارها لتقليل الخسائر وكبح الفوز الإسرائيلي، بل وجعله مهزوزاً محدود القيمة، أكثر مأساوية من نجاح إسرائيل الأولي، فباختصار كان يمكن تحويل الهزيمة الكاسحة إلى نصف هزيمة/ نصف نصر، لو تعامل عبد الناصر مع حوادث اليوم الأول بالحزم والحسم الذي أصبح عليه بعد 10 حزيران/ يونيو.