في مثل هذه الأيام قبل ثمانية وأربعين عاماً، حاربت إسرائيل كلا من مصر وسورية والأردن في حرب الأيام الستة. ونتيجة لتلك الحرب، استولت إسرائيل على الضفة الغربية (التي كانت تعود إلى الأردن) ومرتفات الجولان (التي كانت تعود إلى سورية) وغزة وشبه جزيرة سيناء (التي كانت تعود إلى مصر).
وقد شنت إسرائيل الحرب الكاملة بقدر ما كان ذلك ممكنا. وكانت تتوافر على استخبارات متفوقة تتميز بعنصر المفاجأة الاستراتيجية والتكتيكية. وسرعان ما كسرت بنية القيادة المصرية، ثم أمنت على نحو منهجي الضفة الغربية ومرتفعات الجولان. وبفعلها ذلك، أمنت إسرائيل شيئاً ما لم تكن تتوافر عليه ابداً: العمق الاستراتيجي، فأجبرت مصر على التراجع إلى قناة السويس، ودفعت الأردن إلى خلف نهر الأردن، وأجبرت سورية على التراجع عن مرتفعات الجولان وبعيداً عن قدرة المدفعية السورية على الوصول إلى المستوطنات الإسرائيلية.
وعلى نفس القدر من الأهمية، أسس الإسرائيليون سمعة أنهم لا يُقهرون عسكريا، والتي ظلت سارية حتى يومنا هذا. وتستخدم إسرائيل هذه السمعة لتكوين الإطار العملي للمنطقة. وكان أداء إسرائيل في تلك الحرب انجازاً عسكرياً استثنائياً. وكانت تلك آخر مرة حافظت فيها إسرائيل على السيطرة في بداية الحرب وأنجزت محصلتها الاستراتيجية المقصودة.
لكن حرب العام 1967 لم تنه الأعمال العدائية. وفي العام 1969 فرض المصريون حرب الاستنزاف على طول قناة السويس. ثم في العام 1973، بعد ستة أعوام من تدمير إسرائيل للجيش المصري، وجهت مصر (سوية مع سورية) ضربة إلى إسرائيل في هجوم صادم. ونفذت مصر عبورا معقدا لقناة السويس، شاركت فيه فرق متعددة وأخذت إسرائيل بالمفاجأة التكتيكية. وفي ستة أعوام، أعادت مصر بناء جيشها برمته.
لكنها كانت مرتفعات الجولان هي التي خاضت فيها إسرائيل أكثر المعارك تهديداً لها. فخلال الليلة الأولى، أعاد الجيش السوري الاستيلاء على مرتفعات الجولان تقريباً، فاتحاً الباب أمام احتلال منطقة الجليل. وتم إيقاف الجيش السوري في تلك الليلة بقبضة من الدبابات –كل ما كان متوفراً لأن إسرائيل كانت قد أخذت بالمفاجأة الكاملة ولم تكن قد قامت بالتعبئة.
استطاع الإسرائيليون التمسك بالجولان بمحض إرادة المدافعين عنها. وتعتبر حماية الأرض بالإرادة والشجاعة، وليس بالقوة العسكرية المناسبة والقادرة، شيئاً خطيراً بوضوح. وفي صحراء سيناء، امتنع المصريون عن التقدم نحو الممرات، مفضلين البقاء تحت مظلة حماية نظام دفاعهم الجوي، وهو ما فرض خسائر فادحة تكبدها سلاح الجو الإسرائيلي.
ثم عمدت إسرائيل إلى الهجوم المضاد هناك، ولكن بعد تلقيها إمداداً جوياً أميركياً ضخماً كان قد تأخر بغية فتح قنوات مع مصر. ومن دون إعادة الإمداد تلك، ما كانت إسرائيل لتستطيع شن هجوم عبر القناة، نظراً لأنها أساءت إلى حد كبير احتساب كمية المادة اللازمة لإلحاق الهزيمة بالسلاح المصري الجديد الذي أمده به الاتحاد السوفييتي.
وكسبت إسرائيل، لكنه كان انتصاراً كشف العديد من نقاط الضعف، من الاستخبارات إلى اللوجستيات إلى عدم فهم حجم نظام “ات-3 ساغر” الموجه سلكياً والمضاد للدبابات، الذي ألحق الدمار بسلاح الدروع الإسرائيلي. كما كان أيضا انتصارا تطلب مساعدة أجنبية. وأصبح ضغف الموقف الإسرائيلي واضحاً. فمع أن قواتها استطاعت القتال حتى بعد التراجعات، فإن قطارها اللوجستي لم يستطع العمل إلا بعد إعادة إمداده من الناحية الاستراتيجية.
بعد ذلك، ذهبت إسرائيل إلى الحرب في لبنان مرتين، لكن أياً منهما لم تحقق نهاية استراتيجية حاسمة. وفي الحرب الأخيرة ضد حزب الله، فشلت إسرائيل في الاستراتيجية الجوية التي صممها رئيس أركانها دان حالوتس. وكانت القوات البرية الإسرائيلية غير قادرة على كسر التحصينات المتداخلة التي انشأها حزب الله، بسبب التأخير في نشر القوات الرئيسية وبسبب المشاكل اللوجستية.
في الأعوام الـ43 الماضية، كان أداء جيش إسرائيل جيداً، لكنه لم يكن بمستوى الأداء الباهر الذي ظهر في العام 1967، أن في العام 1956 عندما استولت على سيناء. ومع ذلك احتفظت إسرائيل بسمعة الحضور العسكري كلي الوجود في كل الأوقات والأمكنة.
لعل التداعي الأكثر أهمية في هذا هو التناقض الذي بني في داخل تصور إسرائيل لذاتها. فمن جهة، يرى الإسرائيليون أنفسهم دولة صغيرة محاصرة ومحاطة بالأعداء. ومن جهة أخرى يرون جيشهم قوياً بما فيه الكفاية لتحدي أي جيش آخر. ومن ذلك، يخلصون إلى النتيجة الاستراتيجية المتمثلة في أن خيارهم الوحيد يكمن في استخدام جيشهم لضمان أمنهم. والافتراض هو أن جيشهم ليس ببساطة أداة تحت تصرف إسرائيل، وإنما الضامن لأمنها.
لم يكن أداء الجيش الإسرائيلي منذ العام 1967 كارثياً، لكن على إسرائيل عدم التوصل إلى استنتاج أن حل مشكلتها الاستراتيجية الأساسية يكمن بيد الجيش. إن الإسرائيليين على حق عندما يقولون أن إسرائيل هي بلد صغير جداً، وهم محقون بشكل معقول عندما يقولون أنهم محاطون بالأعداء. لكن المحير هو: لماذا يعتقدون ان اعتماداً كلياً على تفوق جيش إسرائيل يوفر ضمانة تسمح لهم بتجنب خيارات أخرى.
في هذه اللحظة، قد يكون هذا التصور صحيحاً لأن القوى على حدود إسرائيل لا تشكل تهديداً كبيراً. فمصر ترتبط بمعاهدة سلام مع إسرائيل ولها مصالح مشتركة ضد الجهاديين. والأردن ليس معنياً بإثارة مشكلة مع إسرائيل. وتمر سورية في حالة فوضى عارمة. وأي تهديد من لبنان، وبالتحديد من حزب الله، هو شيء تستطيع إسرائيل إدارته في الحال. ومن الصعب تخيل أي تحسن في موقف إسرائيل الاستراتيجي.
لكن من الأسهل تخيل تدهور استرايتجي على ضوء حالة عدم اليقين الشائدة في المنطقة. فمستقبل مصر وسورية غير واضح. ويواجه الأردن باستمرار تهديدات داخلية. ومستقبل “الدولة الاسلامية” أو كيان لاحق غير معروف. وهناك تقريباً 2 مليون فلسطيني يعيشون في داخل مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية. وفكرة أن البلدان التي حاربتها إسرائيل (مصر والأردن وسورية ولبنان) لا يمكن تتطور سياسياً وتقنياً في الجيل القادم هي فكرة بعيدة المنال. فهناك حالة اضطراب وهياج في العالم العربي لا يمكن التنبؤ بمحصلتها. وبالنسبة لم إذا ما كانت هذه الدول تستطيع تطوير قدرات عسكرية فنية أفضل تبدو ببساطة موضع خلاف، لأن الجيش المصري في العام 67 كان غيره في العام 73.
يمكن أن تتغير الظروف. أما الشيء الذي لا يمكن أن يتغير فهو الديمغرافيات. وفي الحروب التقليدية -التي ما تزال نادرة مقارنة مع حركات التمرد لكنها ليست لاغية أيضاً- فإن لدى الدول العربية القدرة على امتصاص المزيد من الخسائر مقارنة مع إسرائيل. وقد تجنبت إسرائيل هذه المشكلة في الماضي عبر كسب الحروب بشكل سريع.
ولفعل ذلك، ترتب على إسرائيل الاحتفاظ بجيش متقدم على العرب بأجيال. ولن أجزم بما إذا كان هذا ممكنا، لكنني سأقول ببساطة أن سياسة أمنية وطنية لا يمكن أن تستند على افتراض أنه ممكن. ومع ذلك، فإن إسرائيل تفترض ذلك فقط، على الرغم من حقيقة أن كل الحروب التي انخرطت فيها منذ العام 67 أظهرت بعض الضعف في القوات الإسرائيلية.
لدى كل الجيوش نقاط ضعف، لكن إسرائيل تفترض أن جيشها لا يقهر. وقد خلق انتصارها في العام 1967 اتجاهاً فكرياً يستمر في تعريف نظرة إسرائيل إلى جيشها. ولقد نجت إسرائيل من الحروب منذ ذلك الوقت. ويمكن القول أنها كسبتها. لكن أداء الإسرائيليين لا يبرر الاعتماد المطلق على الجيش. ولا يبرر ذلك حيازة الأسلحة النووية التي يقال أن إسرائيل فكرت في استخدامها في الساعات الأكثر حلكة من العام 1973. وكانت مشكلتهم هي كيفية وقف غزو كان في الطريق بالقرب من حدودهم.
يتمتع الإسرائيليون بجيش جيد. ولكن، وبغض النظر عما أنجزه في العام 1967، فقد كانت انتصاراته الأخرى معيبة كحال معظم الانتصارات. ولذلك، فإن الافتراض أن قوات الدفاع في إسرائيل تستطيع ضمان أمن إسرائيل وسط بحر من الأعداء هو شيء خطير.
إن إسرائيل هي بلد صغير لديه جيش جيد. لكنها لا تستطيع دائماً النجاة ولا يجب عليها أن تنتهج حلاً عسكرياً. لكن استراتيجية إسرائيل تفترض أنها ستؤدي دائماً نفس الأداء الذي كان في العام 1967. ولم يكن إرث تلك الحرب هو حدود إسرائيل الراهنة فقط، وإنما تصور سائد لقوة إسرائيل العسكرية، والذي يهدد أمنها القومي أيضاً.
الكاتب : جورج فريدمان
المقاله بتاريخ يونيو 2016