ما من حضارة قدمت للبشرية كل شيء بمفردها، ولم نعرف ديناً جاء بكل القيم، بينما كانت الأديان الأخرى تحضّ على الرذيلة. هذا لم يحدث على مدار التاريخ، ولا يمكنه أن يحدث. الإنسان البدائي نفسه قدم للبشرية الكثير من خلال اختراعاته البسيطة، وما قدمه كان الأساس الذي أقام عليه اللاحقون اكتشافاتهم ومخترعاتهم.
وإذا كان هذا الكلام ينطبق على كل ما تم تقديمه على مدار التاريخ، فإن الأمر نفسه ينطبق على مجال حقوق الإنسان. لم تقدم حضارة بعينها كل قائمة الحقوق الإنسانية، بدءاً من الحفاظ على الحياة، مروراً بالأمن والحرية والحقوق التي نعرفها جميعاً. لكن رغم ذلك، نجد كثيرين في العالم يريدون اختزال كل القيم النبيلة وكل المنظومة الحقوقية في دينهم أو حضارتهم. وكأنهم أوجدوا الحقوق من العدم، وهذا يدل على تعصب وضيق أفق، لأن الجميع ساهم في بناء قلعة حقوق الإنسان.
الإسلام حين جاء، كان ثورة في مجال الحقوق. فقد اعترف بحقوق الناس ودافع عنها، وأغلظ في عقوبة من يتعرض لتلك الحقوق. رفع شأن المرأة، واعترف بالعبيد كبشر لهم حقوقهم، وطالب بحسن معاملتهم، في الوقت الذي كان بعض فلاسفة اليونان يرى أن العبودية جزء من النظام الطبيعي. منح الناس حق الاعتقاد ولم يطالب بفرض الدين على أحد. والآية واضحة: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". لكن رجال الدين أفسدوا كل شيء تقريباً، واخترعوا ما يناسبهم لا ما يتسق مع روح الدين. فتم اختراع حد الردة وحد الرجم لتحقيق أغراض سياسية للسلطة.
حق الحياة
من أبرز الحقوق التي دافع عنها الإسلام "حق الحياة"، لأن حياة الإنسان يجب أن تكون في مقدمة قائمة الحقوق. فبانعدام الحياة لن تكون هناك فائدة لأي حقوق تالية عليها. لذا نهى الإسلام عن قتل النفس البشرية، كما ورد في كثير من الآيات: "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً". "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق". "ولا تقتلوا أنفسكم".
كما أكد على الحق في الحرية، لأنها ما يميز الإنسان عن غيره، ومن دونها، تكون إنسانيته منقوصة. وفكرة الثواب والعقاب في الدين تأكيد صريح على مبدأ الحرية، لأن الإنسان الذي لا يملك حريته لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن أفعاله. وأكد الإسلام في السياق الحقوقي نفسه، على حرية الاعتقاد، وكانت الآيات صريحة وواضحة في هذا الشأن. فقال مخاطباً النبي: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟، وكان الرد "لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي"، "فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر".
تحرير العبيد
لكن هل قدّم الإسلام كل شيء بناءً على ما ذكرناه؟ هذا الأمر غير حقيقي، فرغم مطالبة الإسلام بحسن معاملة العبيد، وترغيب الناس في تحريرهم، فلم يعلن تحريرهم، بل ترك الأمر خاضعاً لطبائع الناس. لم يكن أمر تحريرهم سهلاً في ذاك الزمن، لأن العقل الجمعي لم يكن قادراً على قبول الفكرة من ناحية، واقتصاد المجتمع كان قائماً على ظهور هؤلاء العبيد من ناحية أخرى. وبالتالي لم يكن في مقدور الإسلام أن يطالب بتحريرهم بأمر صريح. وحين حاول الغرب تحرير العبيد قامت حرب أهلية في الولايات المتحدة، وكان هذا الأمر بعد ظهور الإسلام بـ12 قرناً. يمكن القول إن الإسلام بدأ التحرك نحو تحرير العبيد، لكنه لم يحررهم بالفعل، بل رفع شأنهم باعتبارهم بشراً لهم حقوق، وتمت الخطوة الحاسمة في الغرب لاحقاً.
حق الشعب في الثورة
وما ينطبق على تحرير العبيد ينطبق على غيره من الحقوق، فالأنظمة الاستبدادية لم تعترف بالمواطنة ولا بالمواطنين. ولم تكن ثمة حقوق مؤكدة ومعترف بها بشكل دستوري في الحضارات القديمة والوسيطة. كان الغرب أوّل من أصّل للحقوق في وثائق دستورية واضحة، وأجاز حق الثورة على الحاكم المستبد. كما قرر ذلك الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، الذي تحدث عن حق الشعب في الثورة على الحاكم، حين لا يلتزم بما تم الاتفاق عليه في العقد الاجتماعي. في الوقت الذي اعتبر فيه رجال الدين الإسلامي أن الخروج على الحاكم حرام. وما زالوا يستخدمون لفظ الخروج، متجاهلين التغيرات الكثيرة التي حدثت. ولم يعرف العالم الفصل بين السلطات إلا عبر الحضارة الغربية. قد بعتبر البعض أننا نخلط بين المسلمين والإسلام، لكن الرد على ذلك واضح في موضوع تحرير العبيد. فليس هناك نص قرآني يجبر الناس على تحريرهم، وبالتالي لا بد أن نعتبر ما أقدم عليه الغربيون إضافة لهذه الجزئية.
كذلك في علاقة الحاكم بالمحكومين، لم يضع الإسلام نظاماً سياسياً واضحاً، بل في الفترة الراشدة التي يعتبرها المسلمون فترتهم الذهبية، لم يتفق الخلفاء الأربعة على آلية موحدة لاختيار الحاكم. فكل منهم جاء بطريقة مختلفة. وبالتالي لا بد أن نعترف أن هذا الضبط تم بعد ظهور الإسلام بقرون عدة، على الضفة الأخرى للمتوسط والأطلنطي.
ولكن لو دققنا قليلاً في التطور التاريخي للحقوق البشرية، نجد أن كل حضارة قد أسهمت بنصيب، سواء قلّ هذا النصيب أو كثر. لكنها خطوات كانت ضرورية حتى تكمل من خلالها الحضارة الغربية رحلتها الحقوقية. ولو لم يبدأ الآخرون، لما كان للحضارة الغربية أن تكمل المسيرة، بل كان عليها ساعتها أن تخترع العجلة. خصوصاً إذا اعترفنا أن تاريخ أوروبا الحضاري نفسه لا يتجاوز عدة قرون، قبلها كانت جزءاً من العالم المتخلف، بل كانت أكثر بقاع العالم تخلفاً. فإذا كانت الحضارة الغربية بدءاً من القرن الثامن عشر قد أضافت إسهامات بارزة في مجال حقوق الإنسان، والتكريس للديمقراطية وقيم المواطنة، فإنها استفادت من تجارب السابقين، كما حدث في مجالات أخرى كثيرة علمية وسياسية وأخلاقية.