لعلها الأسطورة الوحيدة التي أثارت جدلاً كبيراً وشكلت لغزاً محيراً، في القرن ال20. كلنا نعرف أنه راهب دجال سيطر بسحره الشيطاني على قيصر روسيا وزوجته..
وحوّل قصرهما إلى وكر للدسائس والفساد. ومع ذلك، شغل رجال السياسة والدين وألهب مخيلات الأدباء والفنانين. ماذا فعل؟ يقول الباحثون إنه المسمار الأخير الذي دُق في نعش أسرة رومانوف والحكم الإمبراطوري، وعجّل في دوران دواليب الثورة الشيوعية ضمن روسيا. ماذا يقول الأدباء والفنانون؟
1869
ولد راسبوتين في قرية بوكروفيسكوي- سيبيريا، في 22 يناير 1869. واستأثر وهو صغير باهتمام سكان القرية الذين شعروا أنه يمتلك مواهب خارقة. أرسله والده، الذي يعمل سائق عربة البريد، إلى دير فيرخوتوري ليصبح راهباً. وهناك تعلم المعالجة بالأعشاب ودرس اللاهوت وعلم الفلك، وتأثر بالناسك المتصوف ماكاري. بيد أنه لم يرغب بالرهبنة وعاد إلى قريته وتزوج بروسكوفا، وأنجب منها ثلاثة أطفال وطفلاً رابعاً من امرأة أخرى.
غادر القرية سنة 1896 باحثا عن الرزق. وجال في الأرض الواسعة مدعيا أنه يستطيع قراءة الطالع وشفاء المرضى، ومعتمدا على الهبات من الذين ساعدهم. كان مظهره مهيباً في عباءة الراهب وبذقنه الكثيفة وشعره الأسود الطويل.
يسير بينما تومض عيناه الخضراوان الواسعتان بموجات مغناطيسية، تفرض الطاعة والامتثال على كل من يصادف. انتشر صيته وكثرت الأحاديث عنه، فلقبوه بـ«الحاج المتجول». وقاده التجوال إلى كييف ثم إلى بطرسبرغ حيث قابل الأسقف هيرموغين الذي أذهلته قدرته على شفاء المرضى، وقدمه إلى القيصر نيقولاي الثاني وزوجته الكسندرا فيدوروفنا.
في البلاط الإمبراطوري
بعد أربع بنات، أنجبت القيصرة الكسندرا وليا للعهد اسمه اليكسي. ولسوء الحظ كان اليكسي مصابا بمرض الناعورية (النزف الدموي من الرئة)، الذي لم يجد القيصر وحاشيته علاجاً له. وفي أحد الأيام باغته النزيف واستفحل. فاستدعوا الأطباء والمتصوفين والأتقياء، من دون جدوى. استنجدوا براسبوتين، فتوقف النزيف. ماذا فعل؟
سقاه راسبوتين بعض الأعشاب المغلية ثم جلس قرب سريره وغنى له بعض الأغنيات السيبيرية، فنام الطفل هانئاً. وبسرعة الضوء، انتشر خبر شفاء ولي العهد، وبات راسبوتين في نظر القيصر وزوجته طاهراً، وفي نظر العامة ولياً. طلب منه القيصر أن يقيم في القصر ليبقى قريباً من ولي العهد ومنحته القيصرة الثقة المطلقة.
بعد ذلك أصبح راسبوتين عضواً فعالاً في البلاط الإمبراطوري، ثم الآمر والناهي الذي لا يرفض له القيصر والقيصرة طلباً، ولا يخالفانه الرأي في قضية. وأوغر هذا صدور الأمراء عليه، وأثار سخطهم أن تعلو كلمة فلاح بسيط فوق كلماتهم.
الطاهر الماجن
كان راسبوتين مولعاً بالخمر والنساء، إلى حد مفرط. وعندما أصبح نافذاً في البلاط الإمبراطوري، تسنى له أن يشبع نهمه المرضي. فسعى أصحاب المصالح إلى استمالته وكسب الدعم منه عن طريق الفاتنات، كما سارعت سيدات المجتمع المخملي اللواتي رغبن بالحصول على امتياز أو مساعدة من القيصرة، إلى إشباع نزواته.
يضاف إلى ذلك السيدات اللواتي تأثرن بشخصيته وفلسفته الأبيقورية، التي تقول إن اللذة غاية الوجود، ولا تكتمل إلا بالوصول إلى جذورها، وقدمن أنفسهن طواعية. وسرعان ما انتشرت الإشاعات عن سهراته الماجنة خارج القصر، فانتهز النبلاء الفرصة، ونقلوها إلى القيصر وزوجته، لكنهما لم يصدقا ثم أدارا الأذن الصماء.
ألكسندرا وراسبوتين
قبل انتقال راسبوتين إلى القصر.. وبعد ثورة 1905، اضطر القيصر والأمراء إلى التخلي عن بعض سلطاتهم المطلقة ووافقوا على إنشاء مجلس الدوما (البرلمان الروسي).
وعقب إقامته في القصر، سلب راسبوتين الأمراء تدريجياً، بقية السلطات. وفي سنة 1915، تولى القيصر بنفسه قيادة الجيش الذي يحارب القوى المركزية (ألمانيا وبلغاريا وهنغاريا وتركيا) في الجبهة الشرقية، وأشرفت القيصرة الكسندرا على إدارة شؤون الدولة الداخلية. وأول عمل قامت به هو تعيين راسبوتين مستشارا خاصا لها.
ثم أقالت عددا من الوزراء. وبرز فريق مؤيد لألمانيا ويدعو إلى عقد معاهدة سلام منفصل معها. وفي وقت قصير سرت الهمسات بأن راسبوتين عشيق الكسندرا، ويقود معها ذلك الفريق بهدف تقليص صلاحيات الدوما والحصول على الدعم للسلطة الإمبراطورية المطلقة من الإمبراطوية الألمانية (كانت الكسندرا أميرة ألمانية قبل الزواج). فثارت موجة من الاستياء العام، وصمم النبلاء على التخلص من راسبوتين.
الخطة
في 19 نوفمبر عام 1916، ألقى العضو في الدوما، فلاديمير بوريشكينيس، خطاباً هاجم فيه راسبوتين والكسندرا، وقال: «إن وزراء الدولة تحولوا إلى دمى متحركة يمسك خيوطها بقوة راسبوتين والكسندرا، العبقرية الروسية الشريرة والإمبراطورة التي بقيت ألمانية وغريبة على روسيا وشعبها...».
وألهب هذا الخطاب الأمير فيليكس، زوج ايرينا ابنة أخ القيصر، فاتصل بفلاديمير وطلب منه التعاون على التخلص من راسبوتين، ثم انضم إليهما الدوق ديمتري بافلوبينس، ابن عم القيصر..
والدكتور لازفيرت والملازم الأول سوخوتين. اجتمعوا ووضعوا خطة بسيطة وهي: يصادق فيليكس راسبوتين ثم يستخدم زوجته إيرينا طعماً ويدعوه إلى مقابلتها في القصر، حيث يجري قتله بالسم، لكن ايرينا رفضت المشاركة فاستعاضوا عنها بامرأة تشبهها. نفذوا الجريمة بصعوبة وعمت الفوضى في القصر الإمبراطوري وشوارع بطرسبرغ.
الجريمة والمسرحية الهزلية
وصف الأمير فيليكس مراحل الجريمة في كتابه «العظمة الضائعة» 1953. وبالغ إلى حد جعله الجريمة مسرحية هزلية وأساسا للمسرحيات التي تلت: يدخل فيليكس وراسبوتين قاعة الطعام الدافئة والمريحة في قبو القصر. يدعوه فيليكس إلى الفطائر الحلوة التي تحمل بودرة سم سانيد البوتاسيوم القوي.
يعتذر راسبوتين لأنه يتجنب الحلويات بسبب السكري. ينكس فيليكس رأسه في حيرة وذهول. فشلت الخطة (يضحك المشاهدون)، يخرج ليستشير رفاقه الأربعة الذين ينتطرونه عند السلم، ثم يعود ليحاول مرة ثانية، فيجد راسبوتين يأكل الفطائر ويرشف الخمرة (يضحك المشاهدون).
يشرب فيليكس نخبه ويتحدث عن الغانيات الساحرات ليثير شهيته، وهو ينتظر ظهور تأثير السم القوي المفعول. لا يظهر شيء.
يقع نظر راسبوتين على غيتار في الزاوية، فيطلب من فيليكس أن يعزف بعض الأغنيات الشعبية. يعزف فيليكس له ويتوقع في كل لحظة أن يسقط ويتلوى ألماً، لكنه ينتشي طرباً ويرشف الخمرة (يضحك القارئ). يخرج فيليكس ويعود حاملاً مسدساً. يطلق النار عليه، فيسقط على الأرض ثم يهتز بدنه بحركات تشنجية ويسكن. لقد مات.
يركض فيليكس إلى رفاقه فرحاً ثم يعود إلى قاعة الطعام ويرى أن عين راسبوتين اليمنى ترف. ينحني فوقه ليتأكد وإذا براسبوتين يطبق بقبضته الفولاذية على رقبته وينتصب واقفاً.
يسمع الرفاق الأربعة صراخ فيليكس ويسرعون إلى القاعة، فلا يجدون راسبوتين. يراه فلاديمير يركض في فناء القصر ويطلق عليه ثلاث طلقات وتصيبه الثالثة. يسمع الشرطي المناوب صوت الطلقات ويركض إلى القصر. يرى فيليكس وخادمه. يسألهما: هل سمعتما صوت طلقات؟ يجيبان بالنفي. يقول الشرطي لا بد أنه صوت انفجار إطار سيارة. ثم ينصرف.
الحقائق والإشاعات
بالإضافة إلى الجد والهزل، هناك كثير من التناقضات في الروايات عن راسبوتين. ومصدرها التضارب في المعلومات التي جمعها الباحثون والمؤرخون والصحفيون عنه. وكل ما وصل إليهم عن الجريمة أتى من الذين ارتكبوها. وكان من مصلحتهم المبالغة والترويج للإشاعات السيئة عنه.
ومثلهم فعل الموالون للحقبة السوفييتية الجديدة، حين أمعنوا في تصوير ما عاناه الشعب الروسي من ظلم وفقر وجهل في الفترة الإمبراطورية. وحالياً، ينقب الباحثون عن المعلومات الموثقة ويشترونها من الذين يملكونها. أصبح راسبوتين صناعة رابحة: قبو القصر وحديقته التي قتل فيها وبيت عائلته في سيبيريا، هما من المعالم السياحية الشهيرة والمشروبات التي كان يحبها تحمل اسمه في وقتنا الجاري.
راسبوتين العربي
تعامل الأدباء والفنانون مع راسبوتين كإنسان يحمل الخير والشر، وتعاطف بعضهم معه واعتبروه بطلاً عظيماً.. قروياً بسيطاً استطاع بالأعشاب الشافية الوصول إلى قمة الهرم الامبراطوري.
ونذكر في هذا الخصوص قصيدة نزار قباني «راسبوتين العربي» وأغنية «راسبوتين» لفرقة «بوني إم» التي حققت نجاحا عالميا لا مثيل له، والفيلم «راسبوتين والإمبراطورة» الذي أنتجته شركة ميترو غولدين ماير الأميركية وتعرضت إلى الملاحقة القضائية لأنها قدمت الأمير فيليكس على غير حقيقته.
وأوبرا «راسبوتين» 2003 للموسيقار الفلندي انغوهاني بيتافارا. ومسرحية «راسبوتين» 1961 من تأليف وتمثيل يوسف وهبي وإخراج حمدي غيث. وأحدث الأعمال الأدبية والفنية عنه: فيلم «راسبوتين» 2013، إنتاج فرنسي وروسي، وتمثيل جيرارد ديباردو وفاني آردنت.
وفي السنة نفسها، اشترت شركة ورنر برازرز حقوق رواية «راسبوتين»، من جيسون هول، على أن يؤدي دور راسبوتين ليوناردو دي كابريو. وفي 27 أكتوبر 2014 بدأ عرض مسلسل «غريغوري راسبوتين»، من إخراج اندريه ماليكوف، على تلفزيون روسيا.
موضوع: راسبوتين.. أسطورة القرن العشرين 
الجمعة مارس 17 2017, 18:54