يمكن القول إن المكانة الخاصة التي حظيت بها شخصية رأفت الهجان في الوجدان العربي لم تنلها أي شخصية أخرى، وذلك لأنها أظهرت بطولة استثنائية، استقبلت بلهفة بالغة وحفاوة منقطعة النظير.
الروائي المصري الراحل صالح مرسي، صاحب قصة رأفت الهجان ومُعد سيناريو المسلسل الشهير عنه، كان ذكر إن صديق له في الاستخبارات العسكرية عرض عليه عام 1985 وثيقة من 70 صفحة حول رفعت سليمان الجمال الذي جندته "المخابرات العامة المصرية" وأرسلته إلى إسرائيل، حيث تمكن من نسج علاقات مع كبار مسؤوليها.
وتقول الرواية المصرية إن رأفت الهجان زود القاهرة على مدى 18 عاما بأسرار عسكرية لا تقدر بثمن خاصة عن عدوان 1967، وعن خط بارليف قبيل حرب 1973، بالإضافة إلى المساعدة في كشف الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين الذي أعدم في سوريا عام 1965.
ن
جاك بيتون - رأفت الهجان وزوجته فالتراود بيتون
ونفى آنذاك مسؤولون إسرائيليون القصة برمتها، وعدوها محاولة مصرية لرفع المعنويات، وعلق على ذلك أحد دبلوماسيي تل أبيب في القاهرة قائلا: "كل دولة لديها الحق في بناء ثقتها بنفسها"، مضيفا أن قصة رأفت الهجان رواية خيالية إلى حد بعيد.
إلا أن هذا الموقف لم يدم طويلا، وسرعان ما ظهرت رواية إسرائيلية أخرى في كتاب بعنوان "الجواسيس"، أقر فيه مؤلفاه إيتان هابر ويوسي ميلمان بأن القاهرة نجحت فعلا في زرع الجاسوس رفعت الجمال في إسرائيل عام 1956 متنكرا بشخصية جاك بيتون، إلا أنهما أكدا أن جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي الشاباك كشف أمره في وقت مبكر، واستغله كعميل مزدوج، ما مكن إسرائيل من تدمير الطائرات الحربية المصرية على الأرض في حرب الأيام الستة.
وهكذا شنت إسرائيل هجوما مضادا وعلى مراحل لتشويه سمعة "رأفت الهجان"، وسربت استخباراتها معلومات تقول إن الهجان جُند عميلا مزدوجا تحت إشراف ديفيد رونين الذي أصبح لاحقا نائبا لرئيس الشاباك، وعمل تحت إمرته 6 سنوات، زود المصريين خلالها بمعلومات مضللة.
وتقول الرواية الإسرائيلية إن المصريين أعدوا عميلهم بشكل جيد، وجعلوه يختلط بالتجمعات اليهودية في إيطاليا قبل إرساله إلى "أرض الميعاد" تحت اسم جاك بيتون، حيث اشترى بالأموال التي زودته بها المخابرات المصرية حصة في وكالة سياحية بشارع برينر في تل أبيب.
وأثارت رحلات رأفت الهجان الكثيرة إلى أوروبا شكوك شريكه التجاري إمري فريد، وهو رجل استخبارات سابق، ما دفعه إلى التساؤل أمام جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي الشاباك عن مصدر أموال شريكه الذي يسافر باستمرار إلى أوروبا على الرغم من أن مشروعهما التجاري لا يحقق أية أرباح.
وتولى الموساد مراقبة جاك بيتون في أوروبا، واكتشف أنه يجتمع بمندوبين عن المخابرات المصرية، فاعتقل في المطار بمجرد عودته، وخُير بين سجن طويل الأمد أو أن يصبح عميلا مزدوجا، فاختار التعاون مع الإسرائيليين بحسب روايتهم.
وهم يقولون إنهم لخداع المصريين أرسلوا إليهم عبر رأفت الهجان تحت إشراف الشاباك صورا لقواعد للجيش الإسرائيلي ومرافق عسكرية، الأمر الذي رفع أسهمه لدى رؤسائه وجعله بطلا في عيونهم.
فعل الإسرائيليون ذلك لذر الرماد في عيون المسؤولين المصريين وتزويدهم لاحقا بمعلومات تقنعهم بأن تل أبيب ستبدأ الحرب بعملية برية.
وبحسب هذا السيناريو الإسرائيلي الذي يبدو فصلا من حرب نفسية تدار بدهاء، فقد ابتلع المصريون الطعم وتركوا طائراتهم الحربية في العراء على مهابط قواعدها، ما ساعد على تدمير معظمها بعد ثلاث ساعات من بدء حرب 1967.
ويقول أفرام أخيطوب رئيس القسم العربي في الشاباك في فترة تلك الحرب عن رفعت الجمال: "جنبنا نهرا من الدماء. هو لوحده ساوى فرقة كاملة".
إسرائيل عرضت على رفعت الجمال بعد الحرب مكافأة مادية، ألا أن قيمتها، بحسب المصادر الإسرائيلية، لم ترضه، وطالب بعدة ملايين مقابل خدماته فساءت العلاقات بين الجانبين. وبعد عدة سنوات اقترن بسيدة ألمانية، وتوفى في ألمانيا الغربية بمرض السرطان عام 1982، ونقل ليدفن في مصر عام 1987.
لرأفت الهجان أكثر من وجه فقد عاش في عالم سري غامض، غريبا عن اسمه وعن وطنه. وهو بصورة أو أخرى حتى الآن بطل قومي للمصريين ولكثيرين من العرب، وهو للإسرائيليين مجرد عميل مزدوج نجحوا في استغلاله بشكل باهر.
وما بين الروايتين المتناقضتين يوجد قاسم واحد هو أن رأفت الهجان وُجد فعلا ولم تختلق قصته. أما الإجابة عما إذا كان بطلا قوميا أم عميلا مزدوجا، فهي بلا شك محفوظة في أدراج المخابرات العامة المصرية، وقد ترى النور في يوم ما. من يدري؟
مصدر