كانت الساعة تشير الى الرابعة عصر يوم 31/5/1982 عندما استيقظت على صوت رنين هاتف مسكني في محافظة أربيل وكنت حينئذ برتبة رائد وبمنصب مدير شرطة بلدة أربيل ( مركز محافظة أربيل) , وكان مدير شرطة المحافظة العقيد (عزيز حسن الحديثي) على خط الهاتف يطلبني ويوعز لي بسرعة الحضور إلى مكتب المحافظ في مبنى المحافظة.
لدى وصولي إلى المكان المقصود ودخولي مكتب المحافظ وجدت جميع مسؤولي المحافظة متواجدين فيه(المحافظ ,أمين سر فرع أربيل لحزب البعث,مدير الشرطة ,مدير الأمن, قائد الفيلق الخامس) وهم رئيس وأعضاء اللجنة الأمنية في المحافظة , بعد أدائي للتحية العسكرية بادرني مدير الشرطة قائلاً : (( تعال رائد محي الدين , هسه تروح تحفر قبر خلال نصف ساعة )) .
خرجت من المكتب وأنا لا أعلم أي تفصيلات عن هذا الأمر وأتساءل مع نفسي ... أين أحفر القبر ؟ لمن هذا القبر؟ وضع المسؤولين المجتمعين والحالة التي كانوا عليها لم يسمح لي بالاستيضاح منهم عن ما يدور في خلدي من أسئلة , على كل حال تركت التفكير في الموضوع وبدأت أفكر في كيفية حفر القبر خلال هذه الفترة القصيرة وأين... تفتق ذهني إلى حل وعزمت على تنفيذه حيث انتقلت على الفور إلى مسكن مدير بلدية أربيل وأخبرته بأن المحافظ قد أرسلني لأبلغك بلزوم حفر قبر خلال عشرين دقيقة ... بدا عليه التذمر وموضحاً صعوبة تنفيذ ذلك.
تركته بعد أن أفهمته أنني قد بلغته بالأمر وما عليه سوى تنفيذه والاتصال بي هاتفياً عند الانتهاء من ذلك , أتصل بي بعد نصف ساعة وأبلغني بأن القبر سيكون جاهزا بعد عشرة دقائق.
تركت مكتبي واتجهت إلى بناية المحافظة المقابلة لبناية مديرية الشرطة , وتفاجئت بالمرحوم ( أسعد آغا شيتنه) وهو جالس على مدرجات مدخل بناية المحافظة , آنذاك راودتني فكرة كون القبر قد أعد للمرحوم العميد الركن ( جواد أسعد شيتنه) بعد سلامي على المذكور والذي كان في أشد حالات الانكسار النفسي والمعنوي من هول الحدث الواقع عليه , رد على سلامي قائلا:
((ابني محي الدين لقد أعدموا ولدي جواد وإنني على يقين بأنه لم بفعل ما يستحق ذلك , لأنه كان رجلاً عسكرياً مخلصاً وشجاعاً , وجاءوا بجثمانه هذا اليوم ومسؤولي المحافظة المجتمعين في مكتب المحافظ يرفضون تسليمي الجثمان لأنقلها إلى قريتي شيتنه وأدفنها هناك في مقبرة العائلة , وأكون شاكرا لكم لو توسطتم عندهم وتركتهم يتراجعون عن قرارهم لأقوم بما يلزم من مراسيم الدفن ))
دخلت مكتب محافظ أربيل (يحيى محمد رشيد الجاف ) والذي كان متواجداً فيه مع كافة مسؤولي المحافظة المعنيين بالشأن الأمني , وكانوا يتناقشون في مسألة دفن جثمان المرحوم ( جواد أسعد ) في مركز المحافظة وعدم تسليمها إلى والده , وكانت حجتهم في ذلك مبعثه الدوافع الأمنية .
ناقشت الحالة مع مدير شرطة المحافظة على انفراد وأوصلته إلى قناعة عدم حصول أي تداعيات من نقل الجثمان إلى قريته لتدفن هناك , كما يمكن التفاهم مع والده المتواجد في مبنى المحافظة.
أثار كلامي هذا مدير الشرطة مما حدا به أن يلفت انتباه المسؤولين الآخرين المتواجدين في المكان إلى ما طرحته عليه , بعد المداولة والمناقشة فيما بينهم على ضوء طروحاتي وصلوا هم أيضا إلى قناعة تسليم جثمان المرحوم إلى والده , وحينها طلبوا مني استدعائه ليخبروه بقرارهم بعد أن تعد لهم بالمحافظة على الأمن والنظام أثناء ذلك, كما شكرني على جهودي في هذا الشأن.
هذه الحكاية الحزينة والتي كنت طرفاً في أحد فصولها لهذا الرجل الذي عرف بالشجاعة والإقدام في اتخاذ القرار من الضروري استكمالها من خلال الحديث عن سيرته الشخصية وأسباب إعدامه في لحظة غضب ومن ثم اعتباره شهيداً
سيرة الرجل:
ولد المرحوم العميد الركن ( جواد أسعد رسول شيتنه) في قضاء راوندوز ( سوران حاليا) والتابع لمحافظة أربيل في عام ١٩٤٠ , أكمل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في القضاء المذكور
دخل الكلية العسكرية في بغداد الدورة (39) وتخرج في عام 1963 , كما ودخل كلية الأركان الهندية في مدينة (كلكتا ) وتخرج منها برتبة ملازم أول ركن في عام 1969
تدرج في الرتب والمناصب في صنف الدروع إلى أن وصل إلى رتبة عميد ركن وقائد للفرقة المدرعة الثالثة في عام 1982 , وفيه تم انهاء حياته وهو في سن الأربعين من عمره غدراً دون ذنب اقترفه هو وإنما بخطأ غيره.
كان متزوجاً وترك ولداً وبنتاً حرما من حنان وعطف والدهما وهما صغار وبعمر الزهور.
أسباب إعدامه:
من أجل بيان أسباب قيام الحكومة العراقية من إعدام العميد الركن ( جواد أسعد شيتنه) قائد الفرقة المدرعة الثالثة آثرنا الرجوع إلى وقائع الأحداث والمعارك التي جرت في ربيع عام 1982 في قاطع شرق البصرة وعولنا على ما ذكره السادة الفريق الركن ( نزار عبد الكريم فيصل الخزرجي) في كتابه الموسوم ( الحرب العراقية – الإيرانية 1980 – 1988 مذكرات مقاتل) , وما ذكره الفريق الركن (رعد مجيد الحمداني) في كتابه الموسوم:
( قبل أن يغادرنا التاريخ) , بالإضافة إلى ما أورده اللواء ( فوزي البرزنجي) في مقالته المنشورة في موقع مجلة الگاردينيا تحت عنوان ( شيء من التاريخ / بماذا تميزت الحرب العراقية -الإيرانية 1980-1988 )
يستنتج من قراءتي لما أورده السادة المذكورين في كتاباتهم حول الأحداث المذكورة على تكون القناعة لدى القيادة العراقية من وجود دلائل قوية على نية القوات الإيرانية بالتعرض للقطعات العراقية المرابطة في قاطع الشوش و ديزفول في بداية شهر آذار من العام المذكور والتي كانت مسؤولية الدفاع عنها تقع على قطعات الفيلق الرابع ( الفرقة المدرعة العاشرة والفرقة الأولى ) , تمكنت تشكيلات من القوات الإيرانية العبور والإندفاع إلى المناطق الخلفية للفرقتين المذكورتين والتي أصابها الارتباك وعدم السيطرة على عدد من الوحدات والتشكيلات نتيجة استمرار القطعات الإيرانية مواصلة هجومها على القطعات العراقية والتي ضعف تمسكها بالمواقع التي كانت فيها وبرزت المخاوف من محاولة هذه القوات عبور نهر الكارون , لذلك كلفت القيادة العراقية الفرقتان المدرعتان الثالثة والتاسعة للتصدي لهذه القوات وسحقها عند محاولتها عبور نهر الكارون , من خلال تدمير رؤوس الجسور التي تحاول إقامتها لهذا الغرض وكان الخط الدفاعي للقوات العراقية المكلفة بهذا الواجب يمتد على الطريق العام الأحواز – المحمرة .
القيادة العسكرية العراقية في ذلك القاطع أدركت بتمكن مجموعات صغيرة من القوات الإيرانية عبور نهر الكارون بتاريخ 2-5 أيار 1982 إلى الضفة الأخرى دون اكتراث منها لاعتقادها بقدرتها على احتوائها وتلاشي هذا الاعتقاد عندما فاجأتها كثافة وشمولية هجوم القطعات الإيرانية العابرة , بعد فوات الأوان في 6 أيار 1982, والتي استطاعت السيطرة على قاطعي شمال وشرق المحمرة وما يشكله ذلك من خطورة على مديني المحمرة والبصرة .
انسحبت الفرقة المدرعة الثالثة إلى خلف السدة الحدودية داخل الأراضي العراقية خوفاً من تطويقها حيث كانت القوات الإيرانية المهاجمة كبيرة ومتفوقة تفوقاً ساحقاً , وكانت نتائجه تدمير قطعات الفرقة المذكورة ولم يكن حال الفرقة المدرعة التاسعة والتي كانت بقيادة العميد الركن ( طالع الدوري) بحال أفضل منها.
هنا تحضر ذاكرتي حكاية ما دمنا نتناول الحديث عن العميد الركن ( طالع الدوري ) فعندما كان قائداً للفيلق الخامس ومقره في محافظة أربيل وكانت المعارك على أشدها بين الجيش العراقي والجيش الإيراني في المناطق الحدودية بين البلدين وأخص بالذكر منها معارك جبل گرد مند الذي التهم آلاف الشباب العراقيين من جراء سوء إدارة المذكور لدفة القيادة في القاطع المذكور وصادف في تلك الفترة كنت مع صديقي الشيخ ( ميزر نوري الفيصل الجربا ) في طريقنا لزيارة الأمين العام للثقافة والشباب لمنطقة الحكم الذاتي ( محمد أمين شمدين) وقبل دخولنا مكتبه خرج من عنده الفريق الركن ( طالع الدوري) فتعانق الرجلان عناقا حارا وكان الشيخ يردد :
(( يا أحسن قائد عسكري عراقي يا من تدخل أكبر المعارك بأقل الخسائر))
وكان الرجل مرتاحا لكلمات الإطراء هذه ولا يدري بأنها ( حسجة شمر) , وبعد أن تفارقنا مع المذكور قلت للشيخ:
(( يا أبو فيصل أنت شتحجي يا أقل الخسائر؟؟؟ )).
ورد علي : (( هو لو يفتهم يعرف أنا شكلتلو)).
المحاكمه :
تم استدعاء قائد الفيلق الثالث اللواء الركن (صلاح القاضي) وقائد الفرقة المدرعة الثالثة العميد الركن(جواد أسعد شيتنه) وآمر اللواء المدرع الثاني عشر العقيد الركن ( محسن عبد الجليل) وجرت محاكمتهم في محكمة ميدانية سريعة وأدينوا بالتقصير في تقدير الموقف وإدارة المعركة وفرض عقوبة الإعدام عليهم , فأعدموا على الفور ولم يشفع لهم حملهم أرفع الأوسمة والنياشين لشجاعتهم وإخلاصهم,كما ولم يؤخذ بنظر الاعتبار سياقات المعركة ومفاجئاتها ومتغيراتها التعبوية.
في حين غضت القيادة العراقية الطرف عن العميد الركن ( طالع خليل الدوري) قائد الفرقة المدرعة التاسعة ولم تحاسبه عن اخفاقاته في إدارة المعركة في نفس القاطع بالرغم من تمكن القوات الإيرانية في أسر أغلب مكونات فرقته , ربما بسبب علاقته بعزت الدوري .
لم تقتصر تداعيات الاندفاع الإيراني والانسحاب العراقي غير المنظم في ذلك القاطع على ما مر ذكره , حيث استطاعت القوات الإيرانية دخول مدينة المحمرة ليلة 25 أيار 1982 بعد أن اكتسحوا الدفاعات العراقية الضعيفة وغير المتجانسة , وفي يوم 8 حزيران 1982 شرعت القوات العراقية بالانسحاب من الأراضي الإيرانية إلى الحدود الدولية في جميع ساحات الحرب بين البلدين.
الندم بعد فوات الأوان:
أرسلت القيادة العراقية في طلب حضور والد المرحوم العميد الركن ( جواد أسعد شيتنه) إلى بغداد بعد مرور شهر على إعدامه وعندما كان متوجهاً إليها اصطدمت السيارة التي كانت تقله في منطقة العظيم وأصيب بجروح مختلفة من جراء ذلك نقل على أثرها إلى مستشفى أربيل العسكري , وعند تماثله للشفاء سافر إلى بغداد حيث استقبله الرئيس العراقي ( صدام حسين) والذي قدم له العزاء وواساه بمصابه بولده , كما وأثنى على خصال المرحوم ووصفه بالشجاع والمخلص لتربة العراق , والذي لا يشك بمواقفه الوطنية وأضاف الرئيس العراقي إلا أن ضرورات تنفيذ الواجب العسكري بدقة وأحكام وحسب ما مقرر وفق السياقات التعبوية العسكرية المقتضية في إدارة المعركة توجب مسائلة القائد العسكري المخطأ عندما تكون تقديراته في إدارة المعركة مشوبة بالكثير من سوء التدبير والإهمال ونتائجها كارثية كما حصل في انهيار هذا القاطع , كما وأكد بأن القيادة قامت بعمل لم تكن ترغب القيام به وتأسف على خسارتها لهذا القائد العسكري.